بدر الإبراهيم
بمرارة وحرقة يتحدث عزمي بشارة على الشاشة عن تخوينه في آلة النظام السوري الإعلامية بلسان لبنانيّين. وبعدما كان مناضلاً ومفكراً عربياً، بات صهيونياً ومتآمراً. فجأة فَطِن إعلام النظام لكونه يحمل الجنسية الإسرائيلية، وهو الأمر الذي لم يكن معروفاً لهم قبل شهرين فقط! حفلة التخوين هذه أظهرت مواجهة حادة بين عروبتين تناقضتا جوهرياً واتفقتا مرحلياً، قبل أن تأتي لحظة تاريخية كان لا بد فيها من بروز ذلك التناقض الجوهري والمبدئي بينهما.
الخط العروبي الذي يتبنّاه عزمي بشارة وتبنّاه جوزف سماحة وآخرون، ينهل من تراث القومية العربية المعروف، لكن مع إعمال الأدوات النقدية وتفعيلها للخروج بصيغة عروبية تتجاوز أخطاء الماضي وتجد لها موقعاً في الواقع المعاصر. صحيح أن هذا الخط العروبي يؤمن بمشروع عبد الناصر القومي في أُطرِه ومبادئه العامة، إلا أنه ينتقد التجربة الناصرية في كثير من أوجهها، ويتجاوز ما أفرزته من زعامة فردية إلى الحديث الواضح عن إعادة إنتاج مفهوم السلطة في النهج القومي لتتصالح مع فكرة المؤسسات، والرهان على المجتمعات وحراكها المدني الفاعل في تكريس ثقافة ووعي حقيقيين يحفظان الفكر العروبي. فتجربة الزعامات الفردية «الخالدة» وحكم العسكر القمعي أفسدا العالم العربي باسم العروبة، وكان لعزمي بشارة مساهمة فاعلة في التنظير لعروبة حديثة تخرج من مفاهيم السلطة الأبوية الديكتاتورية إلى مفهوم الدولة الديموقراطية الحديثة.
هذه العروبة الحديثة صالحت بين المفاهيم القومية ومفاهيم حقوق الإنسان والحريات العامة، وربطت بين العروبة ودولة المواطنة في إطار يستنكر التمييز الفئوي بكل أشكاله، ورفضت هذه العروبة بالذات أشكال التمييز العرقي والفكر القومي الشوفيني، فوقفت ضد استغلال الشعارات العروبية لإهانة الأقوام الأخرى في حروب سياسية مدفوعة بتوجهات غير عروبية بالمرة، وأكدت أن جوهر العروبة انتماء ثقافي وشخصية وهوية ثقافية عربية منفتحة وليست مسألة انتماء عرقي ومواجهة مفتوحة مع القوميات الأخرى. ولا تجد هذه الشخصية الثقافية العربية إشكالية في النهل من مناهل الحضارة الإنسانية دون استعلاء أو استتباع.
تُنَظِّر هذه العروبة الحديثة لوحدة كيان الأمة العربية بناءً على مجموعة المشتركات المعروفة وشبكة المصالح التي توثقها حقائق التاريخ والجغرافيا، وهذه الوحدة (ليست اندماجية بالضرورة كما كان يصور سابقاً) تمنع تعزيزها الهيمنة الاستعمارية والوجود الصهيوني في المنطقة، ومن هنا تبرز الحاجة إلى ممانعة الهيمنة الخارجية ومقاومة الأطماع الاستعمارية في العالم العربي.
ترى هذه العروبة ضرورة الممانعة بما هي وسيلة للدفاع عن استقلالية المجتمعات بوجه الهيمنة الخارجية والحفاظ على مكتسبات هذه المجتمعات وحقوقها، لذلك دعم هذا الخط بقوة ـــــ ولا يزال ـــــ حركات المقاومة بوجه الخطر الصهيوني والاستعماري، ورفض شعارات الديموقراطية الاستهلاكية التي أطلقها الأميركيون ومن شايعهم من عرب لا علاقة لهم بأي مفهوم ديموقراطي، لأنها كلمات حق أريد بها باطل المواجهة مع المقاومة. لكن هذا كله لا يمنع من القول إن الممانعة ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لبناء الدولة المستقلة بهوية عربية تحقق طموح الإنسان العربي في النهضة والتنمية وتحفظ كرامة المواطن وحقوقه. والنتيجة الطبيعية للممانعة من أجل حرية الدول والمجتمعات أن يعيش أفرادها بحرية ويساهموا في نهضة دولهم وأمتهم.
في المقابل، تأتي العروبة الأخرى من الماضي لتصارع على البقاء في الحاضر دون تغيير جوهرها. فهي وريثة الحكم العسكري المتشدق بالعروبة، والمتحوّل حديثاً الى حكم عائلي خالص يعزّزه البطش الأمني. تلك العروبة المناقضة تماماً للمفاهيم الحديثة، تتمسك بمفاهيم الزعامة الأبوية الخالدة المدافعة عن العروبة في وجه الإمبريالية، تبرر القمع وضرب كرامة الإنسان باسم الشعارات القومية الكبرى، وتزرع ثقافة الخوف وتشجع حفلات النفاق المضحكة كبديل للمشاركة الشعبية الحقيقية في المؤسسات.
إنه النظام الممانع الأخير، وممانعته السياسية ودعمه للمقاومة المسلحة ضد العدو وسيلة وغاية، وسيلة لإضفاء شرعية على ما هو غير شرعي، وغاية باعتبار أن لا تنمية أو نهضة أو ديموقراطية يريدها هذا النظام، فيلجأ الى التذرع بالمعركة كلما دار الحديث حول هذه القضايا. هذه الممانعة تنفع إلى حين، لكنها في غياب ما يكملها من حريات وديموقراطية تصبح عاجزة عن إقناع الناس بالشرعية. وفي غياب الحلول السياسية أمام المطالب الشعبية، يُطلق العنان للذراع الأمنيّة لتدافع عن الممانعة والعروبة بقتل الناس في الشوارع وإنهاء «المؤامرة» التي تستهدف الدور الممانع والمقاوم للنظام.
هذه النظرة المختلفة للعروبة والممانعة، هي التي فجرت المواجهة بين النهجين، بعدما كانت العلاقات إيجابية على خط المواجهة مع العدو، وهو أمر طبيعي ولا غبار عليه، وقد أحسن الطرفان بتعاونهما، لكن المشكلة أن الخط العروبي الحديث المؤمن بالديموقراطية صار أمام اختبار عسير يحتاج فيه إلى حسم في وجه تلويث فلسطين والممانعة والمقاومة بدماء أبرياءٍ يطلبون الحرية والكرامة، فكان نقد عزمي بشارة الصريح الذي لم يتنكر رغم كل شيء للمعارك المشتركة ضد العدوّ ولدعم النظام السوري الكبير في تلك المواجهات الكبرى والمحطات المفصلية.
نقد عزمي بشارة الممارسات الخاطئة ونصح بالتصحيح والإصلاح، لكنّ عقل النظام لا يقبل النصح فضلاً عن الإصلاح والتصحيح. فكل شيء صحيح ويسير كما يجب، وبذلك تحوّل المناضل العروبي إلى عميل صهيوني، وهنا اتضح أن الوطنية والعمالة مسائل لا علاقة لها إلا بطبيعة القرب والبعد عن مصلحة النظام وفهمه للأمور.
لكن النظام يفشل في قراءة الواقع. ففي زمن عربي مختلف، لم يعد التخوين ذا قيمة، ولا للإعلام الرسمي وألاعيبه المضحكة صدقية، ولا حديث المؤامرات الخفية يمكنه طمس الصورة الساطعة، والأهم أنه لا يمكن الحديثَ عن الممانعة أن يقنع الناس بالتنازل عن مطلب الحرية والكرامة أو قبول القمع كلغة للتعاطي معهم مجدداً باسم المعركة الكبرى.
ليس انحيازاً لعزمي بشارة، المفكر الكبير والمناضل العروبي الشريف المتصالح مع نفسه ومع عروبته والمنحاز إلى الحريات والعدالة كما للمقاومة والممانعة، بل هو انحياز أكبر لفلسطين التي هي أعزّ وأعظم من جعلها رصاصة في صدر بريء يطلب الحرية، وهي في الأصل قضية حرية الإنسان وحقه في الحياة الكريمة، وانحياز للمقاومة التي تكون بوجه العدو وأطماعه لا بوجه تطلعات الشعب للعدالة والديموقراطية، وانحياز للعروبة التي هي فكر نهضوي إنساني بهوية ثقافية عربية تجمع الشعوب وليست ملكاً لنخبة عسكرية/ عائلية باسمها تحتكر السلطة والثروة.
إنه زمن عروبة عزمي وجوزف والآخرين، وكل عروبة أخرى لا تزاوج بين الممانعة والحرية ستتهاوى كما تهاوى اعتدالٌ عادى الحرية والممانعة معاً.* كاتب سعودي