موسى ذياب
بدا لقاءً عاديًا، لقاء عمل، لم أدرك حينها أنه اللقاء الذي قد يغير في حياتي الكثير.
كانت سنتي الأخيرة في الجامعة، بحثت عن عمل، كنت حينها نشيطًا في التجمع الطلابي في الجامعة العبرية وأخبرني بعض الأصدقاء أن د. عزمي بشارة يحتاج إلى مساعد برلماني، فقدمت طلبًا لهذه الوظيفة، دعيت لمقابلته..ومن ثم بدأ مشوار العمل معه وإلى جانبه.
لن أتحدث هنا عن د. عزمي القائد المفكر المناضل، سأذكر هنا عزمي الرجل المعلم الأب والأخ والصديق. في كل يوم خلال سنوات عملي الثماني معه كنت أكتشف من جديد أنني برفقة رجل عظيم، رجل لا يمكن لكلماتي الواصفة والمسموح بها على هذه الصفحات إيفاءه حقه.
أنظر اليوم إلى الماضي وأشتاق لتلك الأوقات، أنظر اليوم إلى الماضي وأعرف جيدًا كم كنت محظوظًا في تلك الأوقات.
لم ينته مشواري معه، ولن ينتهي، فهو معلمي في الحياة والسياسة بعنفوانه وحنانه وبكل شيء فيه، ما تعلمته منه خلال السنوات التي مضت لم اكتسبه في سنوات تعليمي الجامعي، وهذه حقيقة...كان يضيف للعمل ألوانا غابت عني مع غيابه القسري من المكان وليس من الوعي والوجدان، غير أنه سيبقى أبدًا الدافع للاستمرارية.
سأكتب يومًا المزيد عن تجربتي الشخصية مع أبي عمر وسأنهي هنا...واتطرق إلى أدائه وعمله داخل الكنيست في سنواته الإحدى عشرة ولن اتمكن من التطرق ‘لى كل قضية وقضية ولكن الى أهمّ المفارق في عمله البرلماني.
تميز في الطرح والأداء
شكّل دخول عزمي بشارة الساحة البرلمانية علامة فارقة في الأداء العربي في الكنيست، وأحدث تغييرًا جوهريًا في العمل الحزبي كما كان متعارف عليه. انطلق نشاط الدكتور عزمي بشارة في البرلمان من الرؤيا الشاملة التي حملها التجمع الوطني الديمقراطي عند دخوله الكنيست في العام 96. فلم يمض وقت طويل على الممارسة السياسية للدكتور عزمي بشارة وللتجمع وفق المنطلقات التي حدّدها الحزب والشعارات التي رفعها، حتى تسابقت الأحزاب الأخرى، التي حاولت ضرب خطاب التجمع وأدائه، إلى تقليد عمله البرلماني وترديد خطابه السياسي بل وحتى القومي، لكن دون أن تترجم ذلك على أرض العمل الفعلي فظل مجرد تقليد سقط على محك الممارسة.
شكل العمل البرلماني للتجمع قفزة نوعية في سياق طبيعة ونوعية اقتراحات القوانين التي طرحها د. عزمي بشارة لتحقيق مساواة حقيقية على أساس المواطنة الكاملة غير المنقوصة، بدءًا بتمثيل ملائم للعرب في إدارة الشركات الحكومية وفي الوظائف العامة، ومرورا بحق العرب في الحيز العام وإقامة مدن وبلدات جديدة للعرب، والخوض في المحظور عندما كان الدكتور عزمي بشارة أول من تعامل مع أسرى الحرية باعتبارهم أسرى حرية وشريحة مهمة أدت دورها في العمل الوطني، وليس مجرد "سجناء أمنين" تطرح قضاياهم على استحياء وبشكل مبتور عن سياقها الوطني والتحرري.
المهنية والمثابرة في طرح قضايا الأقلية العربية
تميز د. عزمي بشارة خلال سنوات عمله البرلماني الإحدى عشرة، بتبني توجه ونمط عمل جديدين، قوامهما المهنية والمثابرة مؤكدًا دائمًا، على الحقوق الجمعية للأقلية العربية في البلاد فاضحًا القوانين العنصرية، مطالباً بإلحاح بإصلاح الغبن التاريخي المتراكم. حدد أداء بشارة البرلماني ثوابت العمل السياسي فأقر خصومه قبل أصدقائه بإبداعه في عمله البرلماني وبإسهامه في رفع مستوى العمل البرلماني فضلاً عن أنه جاء بخطاب جديد ومميز وجريء الطرح لم يعهده الكنيست الإسرائيلي من قبل.
انطلق الأداء البرلماني والممارسة السياسية لعزمي بشارة في البرلمان وخارجه، في سياق الأقلية العربية من فكرة ("دولة جميع مواطنيها" و"الإدارة الثقافية الذاتية" للأقلية العربية في إسرائيل). فكانت هذه الفكرة في صلب مشاريع القوانين التي قدمها، وعمد إلى ترجمتها من شعار مطلبي وطرح نظري موجِه إلى خطوات فعلية في مجالات حياتية مختلفة لإحداث تغييرات تتراكم يوميًا حتى تصبح ملموسة ومؤثرة.
تشريع قوانين جوهرية
على صعيد التشريع البرلماني يعتبر تشريع قانوني الشركات الحكوميّة وقانون التوظيف الحكومي (تعديل تمثيل مناسب للمواطنين العرب) وقانون "شلل الأطفال (بوليو) وإلغاء ضريبة الأملاك "الدرة في تاج" العمل البرلماني للدكتور عزمي بشارة وذلك رغم نشاطه الدؤوب والمتواصل في تقديم عشرات اقتراحات القوانين في مختلف المجالات.
توج د. عزمي بشارة عمله البرلماني بتشريع قانون تعويض مرضى شلل الاطفال البوليو وهو يعد من أحد أهمّ القوانين التي تم سنها على صعيد الكنيست في السنوات العشر الأخيرة. ودامت عملية تشريع القانون اكثر من سنتين بذل بشارة خلالها جهودًا مضنية يرافقه العشرات من مصابي المرض من العرب واليهود، وصولاً إلى قانون صحح الغبن الذي لحق بهم من خلال منحهم تعويضاً مالياً ومخصصات دخل مدى الحياة.
متابعة القضايا اليومية
بموازاة العمل البرلماني والسياسي والفكري للدكتور عزمي بشارة، فقد خصص حصة الأسد من وقته لمتابعة القضايا والهموم اليومية والمعيشية للمواطنين العرب، وفي مقدمتها المشاكل العالقة مع مؤسسة التأمين الوطني وتعاملها مع المواطنين العرب وملف ضريبة الأملاك الذي توج بقانون إلغاء ضريبة الأملاك. وكان موقف التجمع وعزمي بشارة في محاربة والتصدي لمخطط عابر إسرائيل مثالا في التعامل مع القضايا الحياتية، فكان بشارة مع أهالي كفر برا وجلجولية في نصب اولى خيام الاعتصام ضد المخطط. كما بادر بشارة إلى تنظيم زيارات للكتلة البرلمانية للتجمع لعشرات البلدات العربية للوقوف عن كثب على قضاياها وللعمل على معالجتها ومتابعتها.
مع المقاومة رغم أنف اليسار
أما على الصعيد الوطني الفلسطيني، والقومي العربي، فقد كانت الممارسة السياسية انعكاسا أمينا ومخلصا للانتماء للشعب الفلسطيني والأمة العربية. تمثل ذلك في الخطابات السياسية المميزة التي ألقاها من على منبر الكنيست وفي كل مكان آخر (خطابه في أم الفحم للاحتفاء بانتصار المقاومة اللبنانية وانسحاب الاحتلال من لبنان، وخطابه في القرداحة في سوريا للتأكيد على ضرورة إتاحة المجال أمام الناس كي يقاوموا الاحتلال وخلق مساحة تحميهم من الانكسار والاستسلام).
وفي هذا السياق رفض عزمي بشارة الارتهان لنزوات اليسار الإسرائيلي، أو الاستكانة لقاعدة الصمت عند إطلاق المدافع، بل أكد رفض هذا التهويل، وأعلن جهارا حق المقاومة في لبنان كما في فلسطين على مقاومة الاحتلال، ورفض مساواة الاحتلال وجرائمه بعنف المقاومة وعنفوانها فأصر على التواصل مع غزة المقاومة مثلما تواصل مع لبنان وأهله ضد العدوان الإسرائيلي دافعًا ثمن هذه المواقف من تحريض دموي وملاحقات قضائية وسياسية فاشية الى منفى اضطراري.