عرض: حسين عبد العزيز
حمل المفكر العربي عزمي بشارة منذ بدء الربيع العربي هموم الشارع المطالب بالديمقراطية وحكم القانون، وباعتباره مناضلا سياسيا ضد الاحتلال والاستبداد من جهة وأستاذا للفلسفة السياسية من جهة أخرى، فقد قدم خلال السنتين الماضيتين قراءة عميقة ليس فقط لأسباب الثورات، بل حتى للمسار الذي يجب أن تتخذه حتى تحقق المطلب الديمقراطي.
وكتابه الذي بين أيدينا حول سوريا محاولة في التاريخ الراهن تتجاوز عملية توثيق الأحداث التاريخية إلى محاولة فهمها، وهذا أمر يتطلب بحثا عابرا للاختصاصات يقول بشارة.
- العنوان: سوريا.. درب الآلام نحو الحرية.. محاولة في التاريخ الراهن
- المؤلف: د. عزمي بشارة
- الصفحات: 687
- الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
- الطبعة: الأولى 2013
من الشرارة يندلع اللهيب
رغم أوجه التشابه الكثيرة في الأسباب المحركة للاحتجاجات العربية، فإن بشارة يميز الحالة السورية عن مثيلاتها العربية بثلاثة فوارق:
ـ خصوصية المجتمع السوري المركب دينيا وطائفيا وإثنيا التي أعاقت تبلور هوية وطنية جامعة تسمح بفصل المجتمع عن النظام والنظام عن الدولة.
ـ وضع سوريا السياسي الجيوستراتيجي لأنها جزء من محور دولي لا يؤيد أي تحول ديمقراطي.
ـ اغتراب النظام شبه الكامل عن المجتمع وتعامله معه باعتباره استعمارا داخليا يسيطر عليه من خارجه.
وقبيل دخوله في صلب موضوع الكتاب (تاريخ الأحداث وفحصها)، يقدم بشارة لمحة موجزة عن المجتمعات المركبة، لكنها لمحة تحمل في طياتها لمسات ذلك المفكر الذي يدرك بعمق ماهية المجتمعات المنقسمة عموديا المحكومة من قبل دولة ما قبل مدنية حداثية.
يقول إن أبرز مخاطر المجتمعات المركبة في حال عدم رسوخ الدولة الحديثة عندما تُوهم جماعة أنها تمتلك الدولة، في هذه الحالة يصبح تأكيد الجماعات الأخرى لهويتها مسألة اعتراض على هوية الجماعة التي تدعي امتلاك الدولة، وإذا كانت هوية الجماعة التي تمتلك الدولة أقلية، فإن شعورها بأنها ضحية تاريخية يساهم في زيادة شدة القسوة في القمع، وهذا يعني انتشار سياسات الهوية في العمل السياسي بشكل يحول الصراع من أجل الحقوق إلى استقطاب هوياتي.
بعد ذلك يتابع المؤلف رصد مسار الأحداث عبر فحص دقيق لها، منوها بما هو مشكوك فيه، ومعلنا ما هو مبالغ فيه أو كذب من هذه الجهة أو تلك عبر تقصًّ ميداني دؤوب لباحثين سوريين.
بدأت الحركات الاحتجاجية كردة فعل جهوية شعبية على انتهاك مباشر وجسدي لحقوق الإنسان في درعا، لتنتقل بعد ذلك إلى مدن ريف دمشق وحمص واللاذقية وحماة ودير الزور، غير أن توطن الاحتجاجات في الأطراف ومركزها لا يعني أن الثورة السورية ثورة ريفية، فالفقر قد يكون محركا للاحتجاج لكنه لا ينتج ثورات ترفع شعارات سياسية بالضرورة، ولهذا فإن من أطّر الثورة وأكسبها طابعا سياسيا هي عواصم المحافظات حيث توجد طبقة وسطى وفئات مهنية ذات وعي سياسي.
"
بدأت الحركات الاحتجاجية كردة فعل جهوية شعبية على انتهاك مباشر وجسدي لحقوق الإنسان في درعا، غير أن توطن الاحتجاجات في الأطراف ومركزها لا يعني أن الثورة السورية ثورة ريفية
"
حاول النظام مع استخدام الخيار الأمني القوي، تقديم تنازلات سياسية عبر تأليف لجان تشرع في دراسة ثلاث حزم إصلاحية هي إلغاء حالة الطوارئ، وإعداد قوانين الأحزاب والإعلام، وإعداد قانون ينظم التظاهر السلمي.
أمل النظام أن تساهم هذه الخطوات الإصلاحية في تقليص المشاركة الشعبية، لكن ما لم يفهمه هو عامل الزمن في مرحلة التغيرات الثورية، فقد كانت الخطوات الإصلاحية المتخذة تجري بأثر رجعي، أي أن التنازلات التي قدمها النظام قبيل جمعة الإصرار (15/4/2011) كانت مطالبَ المحتجين في الأيام الأولى لانتفاضة درعا، وكانت كفيلة في حال اتخاذها في ذلك الوقت بتغيير مسار الأحداث.
الثورة المسلحة خيار النظام
كانت حماة الخائفة من مصير مشابه لحوادث ثمانينيات القرن الماضي تراقب بحذر اتساع الاحتجاجات، ولم تكن المدينة بحاجة إلى مثير أمني كي تصنع أضخم حشد احتجاجي، إذ فيها من المظالم ما يكفي كي تكون مناوئة للنظام. وتشابهت ظروف حماة مع دير الزور التي شهدت جفافا قاسيا خلال السنوات السابقة، مع إهمال واضح للخدمات من قبل الدولة مما أدى إلى تشرد آلاف العائلات وفقدانها مصدر رزقها، الأمر الذي جعل محافظة دير الزور طاردة للسكان.
وما زاد من كره النظام الشعور بالغبن بسبب عدم ظهور آثار الإيرادات النفطية المستخرجة من أرضها في الخدمات والتنمية في المحافظة، يضاف إلى ذلك دوافع سياسية تتعلق بارتدادات المشهد العراقي بحكم روابط قرابة ومشتركات ثقافية مع المدن العراقية الحدودية.
واجه النظام في دير الزور إشكالية أمنية معقدة، فالامتناع عن استخدام العنف وتكليف وجهاء العشائر بمهمة احتوائه، لم ينجحا في تحييد المدينة، بل على العكس ازدادت المشاركة الشعبية. وفي المقابل فإن إطلاق النار على المحتجين كان له تأثير سلبي، إذ دفع العشائر إلى الوقوف بجانب المحتجين في وجه النظام، وهنا تبرز الحماقات في فهم التحولات -يقول المؤلف- فردة الفعل العشائرية من الولاء للنظام إلى معاداته هي نقيض السردية السببية التاريخية، فلا أساس هنا لحتمية وجود سبب يقف خلف كل حدث، ولا يمكن تجاهل الدور المركب للعوامل النفسية عند من يشعر أن ولاءه قوبل بقتل أبنائه، كما لا يمكن تجاهل مشاعر التضامن الجهوية وعصبية البلدة.
ظهرت بوادر التسلح منذ الأشهر الأولى للاحتجاجات، وكانت حوادث جسر الشغور بإدلب مفصلا في تاريخ الثورة مع الهجوم على المراكز الأمنية بداية يونيو/حزيران 2011.
ويرصد المؤلف هنا تحول الهيئات التنظيمية وصفحات الإنترنت من إنكار المظاهر المسلحة أو تبريرها إلى حماية المتظاهرين، لكن هذا التبرير يراه بشارة متناقضا، فالسلاح لا يحمي مظاهرة سلمية من إطلاق النار عليها، بل يزيد الأمور حدة ويحول المظاهرة السلمية إلى مظاهرة مسلحة، ومع ذلك يذكر المؤلف أن العسكرة لم تبدأ إلا مع انسداد أفق النضال السلمي مع تورط النظام في عنف دموي هائل، فمنذ بدء الاحتجاجات وحتى مطلع العام 2012 قتل 2355 مواطنا، بينهم 100 طفل و76 امرأة.
العنف الثوري
يميز بشارة العنف الاجتماعي عن العنف السياسي، ففي الأزمات يتداخل العنف الاجتماعي بالعنف السياسي، وتستند بعض أشكال العنف السياسي في مظاهرها إلى ديناميات العنف الاجتماعي، ومنها وجود انقسامات وعصبيات اجتماعية تحركه، وبالتالي يجب التمييز بين عنف الثورة المسلح والعنف الاجتماعي والسياسي الذي كان قائما خارج الثورة.
"
ظهرت بوادر التسلح منذ الأشهر الأولى للاحتجاجات، وكانت حوادث جسر الشغور بإدلب مفصلا في تاريخ الثورة مع الهجوم على المراكز الأمنية بداية يونيو/حزيران 2011
"
اختلطت المواقف وطريقة التوظيف السياسي لمظاهر العنف خلال الثورة بين النظام السياسي والمعارضة، حيث دأب إعلام النظام على الربط بين الثورة الشعبية وتلك المظاهر العنيفة بخلفياتها الجنائية والجهادية والطائفية، في حين كان خطاب المعارضة يتهم السلطة بتدبير هذا العنف ضمن نسق ديماغوجي واستيراد نظرية المؤامرة إلى صفوف المعارضة بشكل يسمح لها بالتهرب من مواجهة هذه المظاهر باعتبارها تحديا مجتمعيا تتطلب معالجته قيادة سياسية.
في الأشهر الأولى للثورة هددت الحملات الأمنية الشرائح المثقفة بالاعتقال والقتل لإبعادها عن الحركة الاحتجاجية السلمية ولتعطيل دينامو النشاط وقطع الرأس السياسي للحركة الشعبية، وبعد تواصل القمع الأمني بدأت التفاعلات الاجتماعية تنتج مظاهر عنف أخرى، ومع توسع الصدام غابت سلطة الدولة عن مساحات جغرافية كبيرة، الأمر الذي أدى إلى بروز مظاهر عنف اجتماعي ساهم في إذكائها ضعف المجتمع المدني وانحدار آليات الضبط الاجتماعي.
ومن الأهمية بمكان التذكير بأن مراسيم العفو الرئاسية شملت المجرمين الجنائيين الذين وُظف بعضهم لقمع المظاهرات، في حين استغل آخرون هشاشة الوضع الأمني لمتابعة أعمال السرقة والنهب والخطف، وفي حالات أخرى اختلطت الجرائم الجنائية بالعنف الطائفي الذي يمارس في المناطق المختلطة لا سيما في حمص وريف حماة وحيي تشرين والقابون في دمشق.
أما العنف الحركي الجهادي، فقد بدأ بالانتشار في النصف الثاني من عام 2012 مع اشتداد الأعمال القتالية، ولا يمكن حصر الكتائب والمجموعات الجهادية كلها، لكن يمكن تقسيمها بحسب مرجعياتها الفكرية:
ـ مجموعات تتبنى السلفية الجهادية العالمية وفق نهج القاعدة، ومن أبرزها جبهة النصرة التي ظهرت مطلع العام 2012 وتبنت مجموعة من التفجيرات "الانتحارية"، وأنشأت إمارات إسلامية في سوريا.
ـ مجموعات سلفية تقتصر أهدافها على سوريا بإسقاط النظام وإقامة نظام إسلامي، وما يميزها عن جبهة النصرة أنها تعمل تحت لافتة الجيش الحر، كما تختلف عنها في سلوكها فهي لا تفرض الحدود الإسلامية وليست لديها محاكم شرعية خاصة، ومن أبرزها (أحرار الشام، وصقور الشام في إدلب، وكتائب الأنصار في مدينة حمص، ولواء الإسلام في دوما، وتجمع أنصار الإسلام في دمشق).
"سوريا في مواجهة سيناريوهات كارثية ما لم يتم التوصل إلى تسوية سياسية تتضمن رحيل النظام وبقاء جهاز الدولة، وتضمن التحول التدريجي نحو الديمقراطية من دون اجتثاث
"
ـ مجموعات تشبه في تركيبتها وثقافتها المجتمع الذي نشأت فيه مع بدء عملية التسلح، وهو مجتمع متدين على نمط التدين الشعبي، كما تشمل عددا من غير المتدينين، لكنها "تسلفنت" ضمن تفكير براغماتي للتقرب من المانحين أو بسبب ظاهرة التدين خلال القتال.
خاتمة
تعتبر الثورة السورية فريدة في الإقليم -يقول بشارة في ختام الكتاب- لجهة تشابك العوامل المؤثرة فيها التي قد تؤدي إلى سيناريوهات كارثية ما لم يتم التوصل إلى تسوية سياسية تتضمن رحيل النظام وبقاء جهاز الدولة، وتضمن التحول التدريجي نحو الديمقراطية من دون اجتثاث، وإلا فالبديل صراع طائفي وإثني قد ينتج صراعات أخرى في المستقبل، وهذه ليست دوافع الثورة وأهدافها حين انطلقت، ولكن يؤكد بشارة أن مبدأ إسقاط النظام وحده غير كاف لأن الدولة ستسقط معه إذا لم يوجد برنامج سياسي تلتف حوله قوى الثورة. ولا يكفي ما يدعيه النظام من أن المقاومة مجرد شعار أجوف، فقد يندفع من ينفي كل ما يمثله هذا الشعار إلى التعاون مع إسرائيل ضد سوريا.
إن كارثة الطائفية في المشرق العربي ليس في كونها أيدولوجية زائفة، بل في كونها متجذرة في بنى اجتماعية وفكرية حقيقية، والمطلوب تجذير هويات ذات علاقة أوطد بالدولة الحديثة.
الطائفية في سوريا ليست افتراء، بل هي قائمة في نظام الحكم، ولا يمكن الطلب من المتضررين من نظام استبدادي يقوم على بنى طائفية وجهوية أن يعبروا عن مشاعرهم عفويا بلغة غير طائفية، فهذه وظيفة النخب السياسية التي تصوغ وعي الجماهير الشعبية وتتكلم باسمها.
المصدر: الجزيرة