مقدمة
تتناول هذه الورقة بالتحليل ظاهرة التسريب من حيث هي ظاهرة قديمة، وعلاقتها بمبدأ الشفافية في النظام الديمقراطي. وتقسم ظاهرة التسريب إلى تسريبات مقصودة من داخل المؤسسة، وهي تُنتج جدلية سلبية في تعامل المواطن مع السياسة، وتسريبات على شكل فضائح ناجمة عن وظيفة مؤسسة الإعلام، وعن التوازن بينها وبين المؤسسة السياسية، ثم التسريبات النقدية الناجمة عن فاعل منشقّ أو من خارج المؤسّسة، ويكون في العادة مدفوعاً بدوافع خارجة عن علاقات إعادة إنتاج المؤسّسة الإعلامية والسياسية.
هذه الورقة تجعل موقع المصدر المفتوح عند تقاطع هذا التراث مع وسائل الإعلام الجديدة على شبكة الانترنت. وتبين الورقة تأثير ذلك في مبدأيْ الشّفافية والسرّية، وفي ظاهرة التسريب نفسها. كما تفحص سلوك المؤسستين الإعلامية والسياسية، وتغيّر موقفها من الشفافية حين يمسّ قضايا تتعلق بجدلية العدوّ والصديق، وموقفها السلبي من التسريبات المنشقة والفردية أو الناجمة عن فاعلين عابرين لحدود الدولة الوطنية. كما تعالج الدراسة أيضاً الشفافية المصطنعة المفرطة القائمة على ضخّ معلومات يتساوى فيها، بالقيمة، الصحيح والكاذب، والقائمة على مفهوم نسبية الحقائق كوجه آخر لاحتكار المؤسسة الحاكمة للحقيقة. وتبين أنّ المصدر المفتوح والتقاء الحقائق المسربة مع ما توصّل إليه التحليل العقلاني نظرياً يلعبان دوراً تنويرياً في إعادة الاعتبار إلى العقل والحقائق.
عن التسريب
يتصدر الحقّ في الوصول إلى المعلومة ذات العلاقة بالشأن العام قائمة الحقوق التي يقوم عليها الحق في حرّية الرأي والحقّ في التعبير والحقّ في المشاركة. وهذا الحق هو أهم الحقوق السياسية في النظام الديمقراطي. ولكن قلة من الدول الديمقراطية شرّعت فعلاً حق الوصول إلى المعلومات، مع أن مؤسّسة السرية والسرية المقوننة هما من نتائج تطوير النظام الديمقراطي في مقابل حقّ المواطن في المعرفة، لأن النظام الذي يعتبر الشفافية هي القاعدة، والسرية هي الاستثناء اللاّزم لعمل المؤسّسات، يرى أنّ السرية تحتاج إلى حماية مقوننة. في حين أنّ الأنظمة الدكتاتورية غالباً ما تعتبر السريّة جزءاً من تعريف النظام؛ فهو الذي يجب أن يعلم ويعرف ويفكّر نيابةً عن الشعب. ولا حاجة في هذه الحال إلى تحديد السرية لأنها هي القاعدة، في حين أنّ العلنية هي ما يختار النظام أن يعلنه، أكان ذك حقيقة أم كذباً. وهنا تكمن الهوّة بين الشعب والحاكم، والتي تتشكّل منها هيبة الحاكم ومهابته.
ثمة قطبان لهذه العملية: احتكار المعلومة كنوع من احتكار القوّة والسلطة من جهة، والحقّ في المعرفة وحب الاستطلاع غير المحدود من جهة أخرى. وتتوسط بينهما عناصر عدّة مثل الرقابة على النشر، وتصنيف المعلومات كمواد سرية، والشفافية المنظمة قانونياً. وهذه الأخيرة حين تقونن تمنح الحقّ في المعرفة لغاية محدّدة هي تكوين موقف ورأي، وتمنح الحقّ في أن تكون مؤسّسة للرقابة على السلطة للحدّ من استخدام القوة والنفوذ لأهداف غير شرعية ولأهداف غير مشروعة..
إنّ تطوّر الشّفافية كآلية جاء مع تطور المؤسسات الديمقراطية وحقوق المواطن وتحوّلها إلى مؤسسات في كثير من الحالات، ومن ضمنها مؤسسات الرقابة الرسمية وغير الرسمية التي تقدّم تقاريراً للجمهور، ومن بينها أيضاً مؤسّسات تتوسّط بين الإعلام والسياسة مثل التقارير اليومية للناطقين الرسميين، والمناقشات البرلمانية المفتوحة (البثّ المباشر مؤخراً)، وحقّ عضو البرلمان في توجيه الأسئلة إلى الوزارات المختلفة وغيرها. ومهْما مُنح المواطن من حقوق الرقابة على ما تقوم به السلطة، فقد ظل برج المراقبة الذي تقبع فيه السلطة أعلى وأكثر إشرافا واستدارة وبانورامية، وظلت نوافذ المواطنين مسطحة وواسعة وأكثر نفاذية، وظلّ حجب المعلومة أداةً أساسية في صنع السياسات الذي يتم من دون موافقة الرأي العام، وأداة في تنفيذ خطوات غير شعبية، أو أداة للقيام بخطوات لا تتلاءم مع برامج الحكومات، أو حتى للكذب الصريح في إطار تبريري سُمّي "الأمن القومي". و يُحرّم كل ما "يمسّ الأمن القومي"، وتوسَم "المسائل الخاصة بالأمن القومي بأنها" فوق الحقوق والقوانين الدنيوية، ثم تحاط بهالة من القدسية، وينشأ لها حرم تشيّد فيه قلاع السرية المحظورة، ولا يُسمح بدخوله إلا لأصحاب الشأن المصنّفين. ويباح حجب المعلومات عمّن يقع خارج حرم هذه القدسية، ويباح حتى الكذب في شأن أي قضية توسم بهذه العلامة.
أمّا الآليات التي طُورت من أجل نقل الخبر واستقصاء المعلومة ونقلها إلى الجمهور، فيمكنها -في هذه الحالات- أن تتحول إلى أداة لمنع الشفافية وللتضليل، لأن العلاقة الممأسسة بين الإعلام والسلطة تتضمن خدمات متبادلة، منها أن "يخدم" السياسي أو صاحب السلطة الإعلام بمنحه خبراً، وأن يخدم الإعلام السلطة بحجب خبر ما أو بتمرير معلومة كاذبة ترغب السلطة في إيصالها إلى المتلقي. وقد يكون منع المعلومات أو نشر المعلومات الكاذبة غطاء ضرورياً لصنع الرأي العام المؤيد لخوض حروب أو لتقييد الحريات، أو لاتخاذ خطوات غير شعبية، ما كانت لتتخذ لو عُلم أنّ الأسباب التي تبرّرها كاذبة، أو لو عرفت حقيقة الدوافع، ولجرى تشويش تنفيذها على الأقل (1).
لا يعد تسريب الوثائق والحقائق المحجوبة ظاهرة جديدة في العلاقة بين الحكومات والمؤسسات الرسمية من جهة، والإعلام والرأي العام من جهة أخرى. فمن اكتساب الحكومات حقّ السرية؛ في إدارة مداولاتها الداخلية وفي إدارة علاقاتها بالدول الأخرى، وحق حجب المعلومة كجزء من وحدانية السلطة، تماماً مثل احتكار استخدام العنف؛ نشأ أيضا التسريب الانتقائي. ويولد التسريب كجزء من عملية التحكم في الرأي العام أو كنوع من الفضح المتبادل للخصوم السياسيين في داخل المؤسسة الحاكمة. كما ينشأ التسريب، خارج هذا السياق، في إطار الصراع ضدّ الحكومات، بما في ذلك الفعل الثوري (ما قبل الديمقراطية، وما قبل نشوء مفهوم الشفافية)، كعملية فضح للتناقض بين القول والفعل في إطار "توعية الجماهير بمصالحها". ومنذ أن نشأ مفهوم الرأي العام، ومعه وسيط نقل الخبر والمعلومة، أي الصحافة ووسائل الإعلام عموماً، أصبح التسريبُ جزءاً من عملية صناعة الرأي العام وتكوينه.
لا علاقة ضرورية لآلية التسريب إذاً بهذه الجدلية الموصوفة أعلاه. فقد ينجم التسريب عن صراع داخل الحكومة أو داخل حزب حاكم، أو بين حزب حاكم وصل إلى السلطة للتو، وحزب آخر كان في السلطة. كما أنّ التسريب راح ينتشر مؤخراً على خلفية الصراعات بين أجنحة مختلفة، أمنية وسياسية وغيرها، داخل النظام الحاكم في شأن السياسات المتبعة، فيقوم الجناح غير الموافق على خطوة ما، ولا يمكنه منعها، بتسريب خبر عنها إلى الرأي العام لعرقلتها. وكمثال على ذلك ما صادفناه كثيراً في تسريبات إسرائيلية للصحافة قام بها وزراء يمينيون أو موظفون أمنيون لعرقلة خطوات إسرائيلية في إطار المفاوضات مع الفلسطينيين. وكمثال أكثر أهمية نذكر أنّ هنري كيسنجر قام بخطوات التقارب مع الصين في حقبة إدارة نيكسون بشكل سرّي، ومن دون أن يُعلم الخارجية والبنتاغون كي لا تقع الوثائق أو الرسائل في أيدي سياسيين ومسؤولين ممّن يعارضون سياسة الانفراج هذه، مثل راي كلاين في "سي آي إيه" والسيناتور باري غولد ووتر، وكي لا يسرّبوا رسائلَ أو وثائقَ إلى حكومة تايوان لتحذيرها (2).
يهدف التّسريب هنا عموماً إلى وصم المنافس أو الخصم بالكذب، وبأنه يفعل ما لا يقول، ويقول ما لا يفعل، ويتخذ التسريب هنا شكل الفضيحة. وهو على أهميته يبقى إحدى آليات الحكم، لأن دافع التسريب هو تنفيذ أجندة سياسية مخالفة، أو تسجيل نقاط في الصراع داخل المؤسسة، وليس الوصول إلى الحقيقة ولا تحقيق الشفافية. ولكن في المجمل فإن الرأي العام يصبح، بعد أيّ تسريب كهذا، وعبر تراكم تاريخي طويل، أكثر وعياً بأساليب الحكم وأكثر ريبية وتشكيكاً في السياسة والسياسيين. ولا يلبث أن يؤدّي التسريب المتبادل، في ما لو أفقده التنافس الروادع، إلى موقف سلبي عام عند الناس من السياسة والسياسيين. ويتحوّل هذا النوع من التسريب الموجّه إلى آلية مضادّة للشفافية؛ فهدف الشفافية الأصلي هو إشراك الناس فيما يجري، وليس تنفيرهم ممّا يجري.
في مثل هذا السياق، وفي الفضح المتبادل للسياسيين عبر التسريبات، وما يسبقها ويتلوها من تركيب للوقائع والحقائق (facts) بما يلائم السياسات التي توضع والخطوات التي تتخذ، ينشأ الشكّ في السياسة والسياسيين. ومن مظاهره عزوف الناس عن السياسة واعتبارها لعبة قوى ومصالح في أفضل الحالات. كما ينشأ أيضاً التشكيك في الوقائع، وينشأ الموقف الريبي، ليس من "الحقيقة" وحدها، بل من مجرد السّعي لمعرفة الحقائق أيضاً. هنا يمكننا الحديث عن جدلية سلبية بين المؤسّسات السياسية والإعلامية وتأثيرها في الشفافية وفي حقّ المواطن في المشاركة، وبين ثقته في المعرفة العقلانية كطريق للتفكير في الشؤون العامة.
نشأت، لا نتيجة لذلك، ولكن في السياق التاريخي نفسه، أمزجة ونزعات ثقافية، وتيارات فلسفية تُؤسّس لتحويل الحقيقة والخيال إلى وجهات نظر متساوية القيمة، وتحويل الحقائق والأباطيل إلى سرديات تعبّر عن زوايا نظر، لأن المهم هو "موقع" المتكلم، أي سيرته وأهدافه ومصالحه، وليس مهماً، من وجهة النظر هذه، تلاؤُم ما يقول مع الوقائع، ولا قيمة ما يقول، أو مضمونه قياسا على حقيقة موضوعية ما. هنا تُنتج نسخ مسطحة من مفهوم "الخطاب"، وهو مفهوم وجيه وذو فائدة في العلوم الاجتماعية يقوم على العلاقة بين المعرفة والسلطة، كما تصدر نسخ مشوهة لمفهوم السردية، وهو مفهوم وجيه أيضاً يساهم في فهم عمليات التحقيب والتأريخ وإنتاج الهوية. إنه نموذج لفهم رواية الأحداث كسرد ناجم عن موقف ثقافي وأيديولوجي معين. وكلا المفهومين لم يهدفا إلى مساواة الحقيقة بالكذب في أي لحظة معطاة، وعند أي مقارنة بين القول والوقائع.
إنّ تسخيف الحقائق بحجة نسبية الحقيقة، وخلع ألقاب ما بعد حداثية على هذا التسخيف وترويجه كثقافة سياسية، هو الوجه الآخر لاحتكار المعلومة وجواز كذب المؤسسات الحاكمة. وفي المقابل وُجدت دائماً أنواع أخرى من التسريب التي يقوم بها منشقون عن الحكومات والمؤسسات ممّن لم يتمكنوا من تحمل التبعات الأخلاقية لعدم البوح في الفضاء العام بما يعرفونه من معلومات عن أعمال تقوم بها مؤسسة ما، ويعتبرونها غير أخلاقية أو ضارة بالخير العام. كما وجدت تسريبات قامت بها حركات ثورية لتُثبت صحة ما قالته عن الدولة. وغالباً ما يُضرب كمثال على ذلك كشف البلاشفة، بعد وصولهم إلى الحكم، الاتفاقات السرية بين الدول الاستعمارية لتقسيم التركة العثمانية، والتي كانت أساساً للحرب العالمية الأولى التي اعتبرها البلاشفة حرباً استعمارية لا حرباً وطنية، وكان ذلك مناقضاً تماماً لما ادّعته الحكومات الأوروبية ومنها حكومة القيصر. وكان فضح البلاشفة الوثائق والمراسلات نوعاً من التسريب بالجملة، وصل إلى حد الكشف ذي الأثر البالغ والبعيد المدى في الثقافة السياسية في أوروبا. ولا شكّ في أن هذا الكشف ساهم في بلورة الوعي بالمواطنة كمشاركة سياسية احتجاجية ضد الحرب، وضد التعامل مع قرار الحرب كشأن متعلق بالحكومات وحدها. ولكن هذا الأمر مثال ثوري تاريخي من مرحلة ما قبل نشوء الشفافية كمفهوم وكمؤسسة ديمقراطية. أمّا في السياقات الأحدث فنذكر جميعاً تسريب دانييل ألسبرغ وثائق البنتاغون إلى صحيفة "نيويورك تايمز "، والتي فضحت التناقض بين الفعل والقول في شأن حرب فيتنام. وبيّنت الوثائق أن الإدارات، خاصة إدارة جونسون، كانت تكذب على الجمهور وحتى على الكونغرس كي تطيل بلا داعٍ التدخل العسكـري الأميركي، وبالتالي الحرب في فيتنام(3). كما نذكر أيضاً تسريب صحيفة "واشنطن بوست" شهادات ووثائق عن التنصت غير القانوني الذي قامت به أجهزة الأمن لأغراض انتخابية لمصلحة الرئيس الأميركي ضدّ خصومه السياسيين في فضيحة "ووترغيت" المشهورة (1972-1974) في عهد ريتشارد نيكسون الذي أطاحت به الفضيحة ولم يكمل لهذا السبب فترة رئاسته الثانية.
نجم عن فضيحة "ووترغيت" احتفاء بالصحافة الاستقصائية، وبالتحقيق الصحافي، لأنه يكشف الاستخدام غير المشروع للقوة والنفوذ الذي يمارسه السياسيون في السلطة. وعلى الرغم من محاولة المؤسسة الحاكمة منع الوثائق من النشر في الحالتين (حالة البنتاغون وحالة "ووترغيت") إلا أنها أذعنت للنشر في النهاية، واضطرت إلى اتخاذ إجراءات ضد الرئيس نيكسون نفسه، وتطوّر -جراء ذلك- مفهوم الشفافية وكذلك طرائق ممارستها. وهكذا تعود المؤسسة إلى روتينها الجديد بعد أن تُقدم ضحايا من السياسيين المتهمين بالفضيحة، ولا تلبث هذه المؤسسة أن تسن تشريعات تتلاءم مع مفهوم أكثر تطوّراً للشفافية. ونجد هنا علاقة جدلية بين المؤسسات الإعلامية الكبرى وبين المؤسسة الحاكمة، وهي تُعيد إنتاج التوتر والتوازن بعد كل كشف، من دون أن يؤدي ذلك إلى نفور الناس من السياسة. يصح هذا على ما تقوم به وسائل الإعلام يومياً فيما يتعلق بالفضائح المالية والفساد واستخدام الشرطة العنف في أثناء التحقيق، وغير ذلك من مزايا الصحافة الاستقصائية. ويجري هذا كله في إطار ممأسس بين فاعلين لا ينأون بأنفسهم عن تبادل الخدمات بالمعنى السلبي المذكور أعلاه فحسب، بل يدخلون في صراع فعلي من حين إلى آخر تنجم عنه علاقة تفاعلية نسميها هنا جدلية إيجابية، بمعنى الشفافية وحقوق المواطن. وحتى حين يعاد رسم الحدود المشوشة بين المؤسستين السياسية والإعلامية خلال التسريبات والكشوفات في إطار الجدلية الإيجابية، إذا صحّ التعبير، فإنّ المؤسّستين تتّفقان غالباً على الفضاء الذي يجمعهما داخل حدود الأمن القومي، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بما يسمَّى "المصالح الوطنية العليا"، والعلاقات بالدول والشعوب الأخرى، وبشكل أكثر تحديداً حين تلج المؤسّستان مجال ما يسمّيه كارل شميت "جدلية العدو والصديق"، وهي الجدلية التي لا يصحّ فيها للعدو ما يصحّ للصديق، ولا تُعتبر فيها ازدواجية المعايير نقيصة، بل ضرورة نابعة من تعريف السياسة وتعريف العدو والصديق. ولهذا لا تنطبق عليها الشفافية حتى لو أخذت في الاعتبار الحقوق الأخرى التي توازن الشفافية وتقيدها. وبهذا المعنى فليس غريبا أن من يعمل على التسريب وفضح الحقائق من دون هوادة في قضية فسادٍ مالي لوزير ما، أو تحرش جنسي يقوم به مسؤول في حكومة، قد يندمج بسهولة فائقة في جوقة نشر الأكاذيب أو حجب الحقائق، حين يتعلق الأمر بالأكاذيب التي تبرر شنّ حرب على دولة أخرى. ولا تناقض هنا بحسب رأي هؤلاء، فهم في الحالتين يخدمون المصلحة الوطنية، لأن مكافحة الفساد والشفافية داخلياً هي مصلحة وطنية، وحجب الحقيقة والكذب من أجل التعبئة والتحشيد لخوض الحرب قد تكون في خدمة المصلحة الوطنية أيضاً. وهذا ما يجعل الحدود لدى المؤسستين الإعلامية والسياسية واضحة بين التسريب الذي تقوم به وسيلة إعلامية ممأسسة من جهة، والتسريب غير المنظم للمعلومات السرية الذي يقْدم عليه فرد منشقّ عن الحكومة أو موظّف أو جندي، وأخيراً ما يقوم به على أوسع نطاق مصدر مفتوح على شبكة الانترنت يتجاوز جميع الحدود المؤسساتية الداخلية والوطنية بين الدول، وتقوم عليه مجموعة أفراد من جنسيات مختلفة. وفي هذه الحال تنشأ ظاهرة جديدة لم يتم الاستعداد لها على الإطلاق، ولذلك غالبا ما تنتظم المؤسستان الإعلامية والسياسية في جوقة ضدّها. وفي خضمّ النقاش في شأن هذا النوع من الشّفافية تُجلب القيم الديمقراطية الأخرى. صحيح أن الشفافية ليست القيمة الديمقراطية الوحيدة، لكن، يجب موازنتها بقيم مثل الشرعية والقانونية والخصوصية والمحاسبة ( فلأي محاسبة يخضع موقع غامض shadowy مثل ويكيليكس مثلا؟)(4). وهذا النقاش صحيح في الظروف العادية، وهو ليس للتستر على الجرائم، ولكنه مفتعل في حالة تسريب معلومات عن قضايا الأمن القومي، لأن هذه القيم تتضاءل أمام قيمة الشفافية في حالة واحدة فقط هي استغلال السرية لارتكاب جرائم. ولكن النقاش يبرز هذه القيم في حالة المس بما يسمى الأمن القومي حتى لو كشفت الشفافية المكتسبة بالتسريب جرائم حقيقة ضد المدنيين، وأسراراً مخفية وراء قرار الخروج إلى حرب غير عادلة.
حين يجري تحليل أنواع التسريب القديمة والجديدة، يجب أن يتذكر القارئ دائما أن لا معنى للتسريب إذا لم يوجد تناقض بين القول والفعل لدى السياسيين. والمقصود هو التناقض فيما يتعلق بالشؤون العامة. أما إخفاء الحقيقة في الشأن الخاص، وهو أمر متغير التعريف والتحديد عبر التاريخ، فلا يجوز أن يكون موضوعا للاهتمام العام، وبالتالي للتسريبات أيضا إلا لغرض التشهير وتلطيخ السمعة والإثارة، من دون أن يغيب عن النظر ما هو لافت في تطابق الإثارة والتشهير في مشهدية الإعلام وخضوعها لقوانين العرض والطلب. ولو اختفى التناقض بين القول والفعل وتقلصت الهوة بينهما -على الأقل- لما بقي هنالك من معنى للتسريب(5).
أسلاف غير رقميين
حين نشر موقع ويكيليكس (Wikileaks) وثائق عن الحرب في العراق، وعن سوء استخدام الجيش الأميركي القوة ضد المدنيين، ثم تقارير السفراء الأميركيين في الدول المختلفة إلى وزارة الخارجية، لم تكن مؤسسة الشفافية في غالبية الدول الغربية مستعدة لاستقبال هذا الحدث، ولا مجهزة قانونيا لمنعه. فالشفافية لا تسري على "الأمن القومي". ولكن القانون لا يمنع صحيفة من نشر وثيقة تسربت بشكل غير قانوني، لأنها إذا كانت سرية فمن واجب الحكومة الحفاظ على سريتها، ولكنها إذا وصلت إلى الصحافة فمن واجب الأخيرة نشرها وكشف الحقيقة للجمهور؛ وهذه هي مهمة الصحافة. وقد نشأ التوازن المذكور أعلاه بين المؤسستين في إطار مؤسسة الدولة التي تسمح بهذا التناقض وبهذا التوتر بين حقّين، من دون أن يُخرَق أي قانون. ولكن من ناحية أخرى إذا كانت الشفافية لا تشمل قضايا الأمن القومي، فإن المصدر المفتوح على الانترنت ليس معرّفا كصحافة.
لقد ظهر المصدر المفتوح خارج سياق الصحافة، بما في ذلك الصحافة الالكترونية، مع دخول فاعل جديد هو المواطن، أو مجموعة المواطنين الذين يمتلكون أداة نشر خارج المؤسسات الإعلامية، من دون أن تربطها علاقة بحقوق الطباعة وحقوق البث. ويختلف المصدر المفتوح عن الصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة بأنه يقع خارج قدرة الحكومات على التحكم من حيث قدرتها على منع الطباعة والتوزيع والبث. وحتى في حالة حجب موقع ما، فإن مواقع أخرى كثيرة قادرة على نشر المادة، ما يجبر الدولة على توسيع نطاق المنع والحجب إلى درجة يصعب احتمالها في دولة غير شمولية. وحتى في هذا النوع الأخير صار الحجب عبئا ثقيلا على الدولة. ويختلف المصدر المفتوح حتى عن الصحافة الالكترونية في أنه لا يخضع لتحكّم المؤسسة الصحافية. وبهذا المعنى فهو يتحدى المؤسستين السياسية والإعلامية، ولا يخضع لقوانينهما، ولذلك يثير غضب المؤسستين. وهو يضيف الكثير حتى إلى المدوّنات والمواقع الالكترونية غير الممأسسة. فهذه المدونات والمواقع تتميز بأنها لا تكتفي بالتلقي، كما تمتاز بتفاعليتها وقدرتها على الانتشار وإنتاج العالم الافتراضي والجماعات البشرية العابرة للحدود المعيقة للتواصل داخل المجتمعات وبين المجتمعات في الواقع "غير الافتراضي". ولكنها في أفضل حالاتها تعتمد كثيراً على المصادر الصحافية المهنية المعروفة وتقومها نقدياً. وفي أسوأ حالاتها تنتج شائعات ومعلومات مغلوطة وتنشر الجهل. والمصدر المفتوح يمدها بمعلومات غير مراقبة من جانب المؤسسة الصحافية، ليصبح مصدر المعلومات الخام وأداة النشر والتفاعل والانتشار خارجَ آليات السيطرة والتحكم.
لقد جاءت ردات الفعل على ظاهرة المصدر المفتوح الذي نشر وثائق سرية محفوظة لدى وزارة الخارجية الأميركية غاضبة وانفعالية في أوساط المؤسسات الحاكمة بجميع المقاييس. فقد وصفتها وزيرة الخارجية الأميركية بأنها "هجوم على المجتمع الدولي"(6)، وهو تعبير يتضمن،من دون وعي، تعريفاً آخر جديداً من ضمن تعريفات متوالدة لهذا الجسم الهلامي المسمى "المجتمع الدولي". إنه يعني، في رأينا، في هذه الحال ذلك البوْن الشاسع بين المعلوم والمخفي، وبين القول والعمل في العلاقات المتبادلة بين الولايات المتحدة والدول الأخرى. وطبعا أدلى نجوم الصحافة الرسميـة بدلوهم في إنتاج ردات الفعل الغاضبة (7). وفي ما عدا انخراطهم في جدلية المؤسسات، لم يكن نجوم الصحافة أبرياء من الغيرة على الاحتكار، وضد منافسة "غير المهنيين" اللا متوقعة. ووصل الانفعال إلى مطالبة بعض الهيئات والشخصيات في إطار المؤسسة الحاكمة الأميركية بالتعامل مع المصدر المفتوح المتمثل في موقع ويكيليكس كتنظيم إرهابي ليلاحق ويحارب مثل تنظيم القاعدة(8). وبلغ الأمر بوزير الخارجية الإيطالي أن اعتبر التسريبات مثل عملية 11 أيلول/سبتمبر، كأنها تتم مجازاً ضد مبنى الدبلوماسية العالمية في مقابل مبنى التجارة العالمية الحقيقي. وطالب سياسيون أميركيون بمحاكمة القائمين على الموقع بموجب قوانين مكافحة التجسس لسنة 1917 The espionage act (وهو القانون الذي يُحرم نشر معلومات ذات علاقة بالأمن القومي إذا أمكن أن تُستخدم هذه المعلومات للمس بالولايات المتحدة).
ليس هذا بالأمر الجديد، فغالباً ما تعاملت الحكومات مع التسريب الفردي للحقائق أو للوثائق المتعلقة بالأمن القومي على أنه عمليات تجسس. ويحضرني هنا أن أشير، من باب التشبيه، إلى سلف غير رقمي (non digital) لقضية ويكيليكس (وهو للدقة سلف غير رقمي للجندي المعتقل والمتهم بتسريب ملفات الحرب في العراق وأفغانستان برادلي ماننغ)(9)، هو الموظف في مفاعل ديمونا النووي الإسرائيلي، مُردخاي فعنونو؛ ففي العام 1985 ترك فعنونو عمله في المفاعل النووي وغادر إلى أستراليا، حيث فضح المشروع النووي الإسرائيلي وكيفية إنتاجه أسلحة، مُقدّراً حتى الكمية، ومستخدما صوراً التقطها من داخل مبنى المفاعل. وهو لم يقم بهذا العمل لمصلحة حكومة أو دولة، ولكنه فضح الأمر للرأي العام عبر صحيفة بريطانية (10).
اختطف الموساد فعنونو وحوكم بتهمة التجسس، وحكم عليه بالسجن 17 عاماً أمضى منها 11 عاما في السجن الانفرادي حتى أطلق سراحه عام 2004. وبالطبع لم يحصل هذا للقائمين على موقع ويكيليكس، مع أن العقلية التي لوّحت بتوجيه تهم التجسس إلى الموقع هي العقلية نفسها التي اختطفت فعنونو من دولة أوروبية بشكل غير قانوني، تماماً كما يليق بمنظمة إرهابية، واقتادته إلى البلاد ليحاكم بتهمة التجسس. في حينه نُبِذَ فعنونو خارج القبيلة التي انشق عنها، وتحوّل "الإعلام الإسرائيلي الحر" واليسار واليمين في "واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط" إلى بطون في القبيلة، يحرضون بعصبية على من فضح أسرارها، وينبذونه خارجها حتى تستباح حقوقه. وما الحقوق في مثل هذه الحال إلا امتيازات عضو القبيلة، وهذه الامتيازات قابلة للانتزاع. فماذا فعل فعنونو؟ وماذا كانت تهمته؟ لقد تصرف كإنسان، وربما كمواطن عالمي، مدفوع بدافع أخلاقي هو تعريف العالم بالخطر الناجم عن التسلح النووي الإسرائيلي. هنا توقفت قوانين الشفافية والإعلام الحر، التي تحكم عملية تسريب المعلومات في داخل الدولة الوطنية، وفُعِّلت قوانين التجسس ضد مواطن لم يتجسس لمصلحة دولة، بل كشف الحقيقة للجمهور عبر مؤسسة صحافية في دولة أخرى غير خاضعة لجدلية المؤسسة الإعلامية والسياسية الوطنية. لقد تجاوز الحدود والقوانين التي تحكم جدلية المؤسستين السياسية والإعلامية بتجاوزه حدود الدولة السيادية الوطنية. وقد فعل ذلك قبل عصر الانترنت، ودفع الثمن غالياً.
ينتمي فعنونو، كما ينتمي القائمون على موقع ويكيليس وغيرهم، إلى نمط من المعارضة الراديكالية وإلى طراز من الاحتجاج ضد المؤسسات الحاكمة، لا ينطلق من الأحزاب أو النقابات، ولا يهدف إلى الوصول إلى الحكم، بل يجمع بين الإنسانية والقيم الكونية، ويتقاطع مع التفرعات الفوضوية لحركات الاحتجاج ضد الحرب وضد منظمة التجارة العالمية وضد تلويث البيئة وضد كل ما يعتبرونه سوء استخدام للقوة السياسية والاقتصادية. وهم، في الوقت نفسه، لا يرون أن مهمتهم تقديم البديل.
ويذكّرني النقاش في شأن المصدر المفتوح بقضية فعنونو ليس للأسباب المذكورة أعلاه فحسب، وإنما لسبب آخر أيضاً هو أن المسرب في الحالتين كشف ما يكاد أن يكون معروفاً. وفي الحالتين قدَّم الدليل على ما كان العقل يدركه نظرياً. كان امتلاك إسرائيل السلاح النووي من ضمن ما يمكن تصنيفه معلومات عامة. ففعنونو لم يكشف أمراً غير معروف، ولكن إسرائيل اتبعت ما تسميه بلغتها "سياسة الغموض النووي" لأغراض الردع. فهي تريد أن يعرف العرب أن لديها سلاحاً نووياً، لأن المعرفة هي التي تردع، ولا ردع لسلاح لا يعرف بوجوده أحد. لكنها من ناحية أخرى لا تريد أن تعترف بذلك رسمياً كي لاتتيح للعرب مبرراً قانونياً لسباق نووي ضدها في المنطقة؛ وجاء فعنونو فأفسد هذه الخطة. لذلك يمكن القول إنه لم يُعاقب لأنه كشف الحقيقة، بل لأنه أفسد لعبة سياسية. ويمكن إضافة سبب آخر من خارج موضوع هذه الورقة، وهو أنه عوقب بشدة أكبر لأنه يهودي إسرائيلي، أي لأنه ابن القبيلة التي خرج عليها.
هنا يبلغ النفاق الإعلامي السياسي بغطاء قانوني أوجه . وحتى من ناحية حقوق المواطنة في دولة ديمقراطية أو تدعي أنها ديمقراطية يُسأل السّؤال التالي: هل يجب أن يعرف المواطنون رسمياً من الدولة عما إذا كانت تملك سلاحاً نووياً، أو إذا كان هذا السلاح يُنتج على بعد بضعة كيلومترات من بيوتهم حتى لو كان ذلك لأسباب تتعلق بالبيئة؟ لقد خُنق هذا السؤال وتم توجيه سؤال آخر إلى واقعة التسريب ذاتها كنوع من الخيانة. وهنا أيضا كتبت الصحافة الرصينة كثيراً من المقالات عن شخصية المسرِّب ودوافعه النفسية غير الصحية، بحسب وجهة نظرها، وعن نشأته وغير ذلك من آليات الإزاحة والانحراف التي تجنّب الصحافي مناقشة الموضوع الذي تناوله التسريب، وتشغل الجمهور عن الموضوع بتفصيلات ليست جوهرية لفهم الموضوع ذاته.
حين نشر فعنونو ما لديه وثارت فضيحة عالمية، راجت في الصحافة العربية مقولة أن ما قام به فعنونو هو دور مرسوم في مؤامرة إسرائيلية لتخويف العرب. فالمستفيد من الردع، بموجب هذه النظرية، هو إسرائيل. ولم يراجع أحد ممن روّجوا المقولة نفسَه علنا، حتى بعد أن حكم على الرجل بالسجن. والعقلية نفسها التي تساوي الفاعل والمستفيد (من دون أخذ فائدة الرأي العام في الاعتبار) روَّجَت بعد ربع قرن المقولة نفسها وهي أن تسريبات ويكيليكس هي مؤامرة تستفيد منها الولايات المتحدة لتوفير دعم عربي لشن الحرب على إيران(11).
خصوصية المصدر المفتوح في حالة الوثائق الأميركية المسربة
قلنا إن ظاهرة التسريب ليست جديدة. وقلنا أيضاً إن هنالك أسلافاً لعملية التسريب من منطلقات مواطنية متعلقة بالصالح العام. وهنالك تراث لعمليات كشف المعلومات الحكومية، قام بها فاعلون غير رسميين يمكن أن يستند إليها القائمون على ويكيليكس وغيره من مواقع المصدر المفتوح. وهؤلاء يُقَدَّرون كما يبدو بالمئات أو الآلاف في دول عدة ومن مهن متعددة، ويجمعهم الاعتقاد بأن احتكار الحكام المعلومة هو شر، لأنه يساهم في سوء استخدام السياسيين القوة التي في أيديهم، وأن هذا الاحتكار يؤدي إلى الحروب غير العادلة وغير المبررة، أي أنه يؤدي إلى القتل؛ قتل المواطنين وقتل المُجنّدين وغيرهم في الدول التي تُشن عليها الحرب. ويبدو أن حرب 2003 العدوانية على العراق، التي شنّت تحت غطاء من الأباطيل المفضوحة التي كُشف زيفها لاحقا، والتي على أساسها تم شنّ الحرب وتجنيد الرأي العام بما فيه مؤسسات صحافية كاملة، هي التي ارتقت بهم من ثقافة القرصنة الرقمية أو قرصنة الشبكات المعلوماتية إلى تأسيس المصدر المفتوح.
إن ظاهرة ويكيليكس، المدفوعة بدوافع حركات الاحتجاج غير التقليدية، تقع على تقاطع تراثين، أحدهما قائم والآخر متشكّل في سياق تطور أساليب جديدة وظواهر حديثة: التراث المعروف سابقاً هو التسريب للرأي العام لأسبابٍ ودوافع نقدية من خارج المؤسّسة، والتراث الجديد الذي يتأسّس هو تراث القرصنة المسيسة (Hacktivism)(12) وهو تطوير للقرصنة الرقمية إلى فعل سياسي قائم على الاقتناع بأن المرافق العامة ملك للجمهور ومن حق الجمهور معرفة ما يدور فيها.
لقد تفاعل التراثان في سياق جديد كلياً، وهو سياق مؤلف من العناصر الرئيسة التالية:
1- واقع جديد لعالم الاتصالات تتجاوز فيه الشبكات المعلوماتية الحدود الوطنية، ويصعب التحكم فيها بموجب القانون الوطني المحلي، ويديره وكلاء من جنسيات عدة كما يستفيد منه جمهور عابر للحدود الوطنية.
2- تجاوز الإعلام التقليدي وحتى الإعلام الرقمي المُحوسَب بالمدونات الفردية والشبكات الاجتماعية التفاعلية التي لا تكتفي بتلقّي المعلومة بل تنشرها وتُعلّق عليها وتنتقي منها ما تراه ملائماً وتعيد توصيفها قبل نشرها مجدداً، وهي المدوّنات والشبكات الاجتماعية التي ما عادت تشكّل أداة اتصال فحسب، بل هي مكان افتراضي؛ أي مكان لقاء تحصل فيه أحداث، وتتشكل فيه جماعات وتنظيمات(13).
3- وفي مقابل ذلك نجد تحوّلا في العلاقة بين المعلومة والسلطة الحاكمة، بحيث صارت القوة غير مقصورة على احتكار المعلومة، بل انتقلت إلى القدرة على بث أكبر قدر من المعلومات والصور والمشاهد والتحكم فيها، وتحول النشر الواسع وغير المنضبط ليس إلى أداة نقدية فقط بل أداة هادمة للنقد أيضاً، وبهذا المعنى فهي محافظة.
ما عادت القوة مقصورة على من يمكنه حفظ السرية والتحكم فيها عبر آليات مثل الرقابة وحجب المواقع وحتى الاعتقال، بل صارت في حوزة من يمكنه تحمل أكبر قدر من الشّفافية الفعلية، بل يمكنه إنتاج الشفافية المصطنعة أيضاً، بمعنى ضخّ المعلومات وتحويل غزارتها إلى حقائق نسبية متضاربة تضيع بينها الحقيقة، أو إنتاج الصور والمشاهد الإعلامية التي تهدف إلى الإثارة أكثر ممّا توصل إلى الحقيقة... إن هذه وغيرها من الآليات تُحوِّل الشفافية إلى مصدر قوة بدلا من السرية.
هذه هي السياقات الجديدة التي نشأ فيها المصدر المفتوح. وهنا نعثر على مصادر ردات الفعل المتطرفة في حالة موقع ويكيليكس، ومنها المطالبة باتهامه بالجاسوسية وإنزال أشد العقوبات بالمسؤول عنه وحتى شيطنته. ومنها أيضاً، في القطب الثاني، المواقف الصادرة عمن يعتبر التسريب مؤامرة من مؤامرات التحكم عبر الشفافية. فمن وجهة النظر هذه يقاس كشف المعلومات والحقائق بهوية المستفيد. وبما أنّه في الإمكان الاستنتاج من خلال التحليل أن الضرر الناجم عن الوثائق يقتصر بشكل خاص على حلفاء الولايات المتحدة، في حين أن أقصى ما تعرضت له الولايات المتحدة بعد نشر الوثائق هو سلسلة من الإحراجات، فقد تكون الوثائق، من وجهة النظر نفسها، مسرّبة قصداً في إطار التحكم بوساطة التسريب المقصود، وليس بوساطة حجب المعلومات. هنا يجري خلط السياقات التاريخية والظواهر الجديدة غير المفهومة بالمؤامرات، خاصة عند من نشأ وطوّر وعيه قبل نشوء هذه السياقات. فالمؤامرة هي أسهل طريقة للفهم، فهي حين يجب أن ترى الذات الفاعلة تستعيض عنها بالبنية الحاكمة والمتحكّمة. وحين يكون عليها تشخيص العلاقات السببية تستعيض بالدوافع والمقاصد والغايات، فتؤنسن الأسباب كدوافع والنتائج كمجرد غايات.
نحن هنا لن نحاكم المصدر المفتوح من خلال السؤال التالي: "من المستفيد؟". فقدرة دولة على الاستفادة حتى من أمر لم تخطط له، هي من ضمن مقومات قوتها. وبغضّ النظر عما إذا كانت الولايات المتحدة مستفيدة أو متضررة من كشف الوثائق مباشرة، فمن الواضح أن علاقات الدول بها غير قائمة على الكذب حتى تتضرر من الحقيقة. إن علاقات الدول بالولايات المتحدة قائمة على حقائق صلبة مثل المصالح والاستراتيجيات والنجاة في صراع البقاء. وعدم رغبة المؤسسات السياسية أو الإعلامية في الحديث عن هذه المصالح لا يقلل من كونها حقيقية، فعلاقات الدول الحليفة مع الولايات المتحدة تقوم على أهداف استراتيجية وعلى حاجة هذه الدول إلى العلاقة مع أغنى دولة في العالم وأقواها. ومن هنا لا تتضرر هذه العلاقات، لأن الوثائق لا تكشف أنها قائمة على الكذب، بل تكشف أن تقديمها للرأي العام المحلي يقوم على الكذب. وقد يلحق ضرراً بالحكام أنفسهم إذا كان الرأي العام لا يقبل علاقات قائمة على مثل هذه الحقائق، وإذاصُدم من التسريبات، لأنه كان مقتنعاً في الماضي بالأكاذيب التي بثت عنها، أو إذا لم يكن راغباً في معرفة الحقيقة، لأن المعرفة تتطلب موقفاً ويترتب عليها موقفٌ وفعل. وحتى في هذه الحال تنتشر آليات إنكار الحقائق التي أتاح المصدر المفتوح الاطّلاع عليها لتجنّب اتخاذ موقف أو فعل، ومن هذه الآليات نظرية المؤامرة.
ملابسات
أثار إعلان موقع ويكيليكس عن توفر عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف، من الوثائق المتعلقة بالدبلوماسية الأميركية كبرقيات السفراء الأميركيين إلى رؤسائهم في وزارة الخارجية عن اجتماعات حضروها، أو انطباعات جمعوها عن البلد الذي يعملون فيه، أو عن مقابلات تمت بينهم وبين من يمكن اعتبارهم مصادر محلية للمعلومات، ضجّةً كبرى وردّات فعل غاضبة في بعض الحكومات وفي المؤسسة السياسية الأميركية، وردة فعل واقعية واحدة صدرت عن وزير الدفاع الأميركي غيتس(14). كما أثار هذا الإعلان ردات فعل في الإعلام الذي ظهر له فجأة منافسة استقصائية تطرح عليه تحدياً غير مسبوق، هو نشر آلاف الوثائق غير المنشورة والمحرجة للدول والحكومات.
كان الموقع يعرف السياقات التاريخية الجديدة والتطور التكنولوجي الذي يقوم عليه، والذي يبطل أيّ محاولة لمنعه، وكان مدركا لمكامن قوته. ولكنه لم يستغلّها للنشر المباشر على الموقع، على الرغم من معرفته، أنه إذا أُغلق موقتاً ففي إمكانه أن ينشرها في مئات بل آلاف المواقع الأخرى. فمنع النشر على الانترنت هو أمرٌ يكاد يكون مستحيلا. ولا يُوقَفُ النشر باعتقال صاحب الموقع أو بحجب موقع أو موقعين. لقد استخدم موقع ويكيليكس هذه القوّة كي يقنع المؤسسات الصحافية الرئيسة أن تشاركه في النشر، وذلك لسببين: 1ـ إن أكوام الوثائق والمواد تحتاج إلى تصنيف وترتيب وعرض كي تصل إلى الرأي العام. وبالطبع، فإن أداة التصنيف والإيصال وعرض المعلومات هي سلاح ذو حدّين تسيء الصحافة الممأسسة استخدامه. 2 ــ لا تنشر الصحف الكبرى عموما وتتظاهر بعدم الاهتمام بأي مواد متاحة للجميع، وليس لها حق الأولويّة في نشرها. ولكن المرونة التي أبداها القيمون على الموقع والحلول الوسط التي منحت لصحف "غارديان" و"دير شبيغل" و"نيويورك تايمز " (ولاحقا "لوموند" و"ألباييز ") في شأن حق رؤية المواد قبل نشرها على الموقع، مع مطلب التزام تواريخ نشر محدّدة، أتاحت للموقع اختراق المؤسسة الإعلامية بشكل واسع النطاق.
إنها المؤسسة التي عاملت الموقع باحتقار، وصبّت عليه جام غضبها، ووصفته بأبشع النعوت وتناولت النّاطق البارز باسمه في عملية لا تنتهي من تحليل الشّخصية مختزلة إياه إلى ماضٍ مشبوه، وشكل لا يثير الاطمئنان، وسيكولوجية غير مستقرّة... وغير ذلك من الوسائل البعيدة كل البعد عن التقويم الموضوعي. لقد قامت نيويورك تايمز عملياً بتحليل نفسي للجندي المشتبه بتسريبه وثائق الحرب والوثائق الدبلوماسية أيضاً، ومن ضمنها مشاكل طفولته ومشاكل العزلة والنبذ التي واجهها كمثلي جنسي في الجيش. كما حللت شخصية اسانج انطباعياً من خلال مظهره. كما قابله محرروها في البداية في لندن، فوصفت مظهره كأنه "عجوز مشردة" (عجوز حقائب بالإنجليزية) متسخ الثياب رثّ المظهر "تفوح منه رائحة كأنه لم يستحمّ منذ فترة طويلة"(15).
هنا استخدم الإعلام أدوات حجب الحقيقة مثل نسبية الحقيقة وموقع المتكلم، كما استخدم ضخّ معلومات غير ذات علاقة بالموضوع، أو استعان بصنع الصورة والمشهد وغيرهما من آليات التضليل والمغالطة. كما أعلمت نيويورك تايمز وزارة الخارجية الأميركية بما سوف تنشر في كل مرة، فسمعت التعليقات والمحاذير قبل النشر. ولا ندري هل ندم القيمون على الموقع على هذا التعامل كما ندم دانيال ألسبرغ محرك فضيحة البنتاغون عام 1971، حين توجه إلى واشنطن بوست بعد أن أمضت نيويورك تايمز أياما وهي تنشر رواية البنتاغون عن الوثائق قبل نشرها.
وكما اضطرّت المؤسسة السياسية إلى أن تُعدّل نفسها بموجب مبدأ الشفافية كي تستوعب الإعلام، اضطرّ الإعلام إلى أن يُعدّل نفسه كي يستوعب منافسة المصدر المفتوح. فالمصدر المفتوح يعرف أنّ الإعلام الرسمي أو المُمَأسس هو الأكثر انتشاراً والأكثر اختراقاً للثقافة السياسية للجماهير والرأي العام. وهو أيضاً مجهّز بالأدوات المهنية التي تمكّنه من تصنيف آلاف الوثائق وترتيبها. ولكن الثمن طبعا هو كثير من الحلول الوسط بين الإعلام والمؤسسة السياسية فيما يتعلق بالمواد المنشورة(16). وفي كثير من الحالات شوّه الإعلام الممأسس بانتقائيته مضمون الوثائق وسياقاتها. والتفت بأكثر مما ينبغي إلى القصص المثيرة والشخصية التي يرويها الدبلوماسيون الأميركيون عن قادة ومسؤولين وغيرهم، من دون الالتفات إلى مغزى قيام دولة بجمع هذا الكم من المعلومات الصغيرة والكبيرة، التافهة وذات الأهمية، عن سياسيي بقية دول العالم.
وعلى الرغم من الحلول الوسط، فإن تكيف الإعلام المؤسسي مع واقع المصدر المفتوح يؤدي إلى بعث الحياة في الصحافة الاستقصائية من جديد، وربما سيكون لذلك أثر كبير في صحافة المؤسسة التي تتجند عادة، وفي اللحظات الصعبة، لمصلحة ما يُسمى الأمن القومي. وهي التي انساقت بسهولة إلى الإثارة بموجب قوانين العرض والطلب لتسويق نفسها كسلعة. سوف نرى هل الحقائق التي يتم التوصل إليها في الصحافة الاستقصائية هي فوق قوانين السوق أم سيتم تسليعها هي الأخرى؟ هذا سؤال مفتوح لا جواب لدينا عنه حتى الآن.
الدبلوماسية والحقيقة والتاريخ
ما إن بدأت وسائل الإعلام في نشر وثائق ويكيليكس حتى كُشفت أمور عديدة متعلقة بالدبلوماسية الأميركية سيكون لها آثار ليس في العلاقات بين الدول وحدها على الأرجح، بل في وزن الدبلوماسية في العلاقات بين الدول. وهنالك سؤال مهم يُطرح الآن عما يمكن أن تعني الدبلوماسية من دون سرية.
لقد قام الدبلوماسيون الأميركيون بعملهم كما هو مطلوب: قوّموا أوضاع البلاد التي عيّنوا فيها، وقوّموا السياسيين وشخصياتهم ومعدلات ذكائهم ونزعاتهم ونقاط ضعفهم وثرواتهم وحتى علاقاتهم العاطفية. وهم فعلوا ذلك كما يجدر بالدبلوماسية النشطة أن تفعل. وغالبا ما تعني الدبلوماسية النشطة في الواقع "جاسوسية ناعمة" soft espionage، فكتبوا تقارير أو محاضرَ عن الاجتماعات التي حضروها وأرسلوها إلى وزارة الخارجية، بما في ذلك محاضر اجتماعات وفود المسؤولين الأميركيين الذين يزورون البلدان التي يعملون فيها. كما رفعوا إلى واشنطن تقارير مستقاة من مواطنين وشخصيات سياسية يشكلون بالنسبة إليهم مصادر معلومات. هذا ما يقوم به السفراء فعلا خلف الطقوس الرتيبة وحفلات الاستقبال المملة. وفي المجمل يمكن القول، بأثر رجعي بعد نشر المواد، إنّ الدبلوماسي الأميركي يبدو، في كثير من الحالات، هو المطلع، مع فرق أنه يكتب بصراحة أكثر لأنه لا يكتب للنشر بل للعلم، ولأنه يتوخّى الدقة نتيجة للشعور بالمسؤولية عن أيّ قرارات قد تترتب على تقاريره. ولكنه يبقى شخصاً محدوداً بمعدّل ذكاء محدود أيضا. ولذلك تشابهت انطباعاته في كثير من الحالات مع ما يُنشر في تلك البلاد. هكذا مثلاً حُكم على التسريبات من السفارة الأميركية في لندن بالقول إنّ تقاريرها لا تختلف عما يكتب في الصحف البريطانية مثل الحِكَم الرائجة نفسها، والتذاكي المألوف في الصحافة، والانطباعات الخاطئة المنتشرة أيضا(17). ويتبين في حالات أخرى أن تقويم شخصيات السياسيين وعاداتهم يستحوذ على الدبلوماسي إلى درجة حب الاستطلاع المَرَضي على حساب القرارات السياسية والمصالح والفئات التي يمثلها السياسي. فيقدم الدبلوماسي الأميركي دليلا إضافيا على الاهتمام البالغ الذي تُوليه الدبلوماسية الأميركية للفرد في صنع السياسات.
لقد عولج هذا الموضوع الأخير بتسرّع تشوبه الإثارة الصحافية أحيانا(18)، ونُسب عدم الجدية إلى المصدر المفتوح لأنه يهتم بتفصيلات خاصة من هذا النوع. والحقيقة أن لا علاقة للمصدر المفتوح إطلاقا بهذا الأمر. فالذي اهتمّ بهذه التفصيلات وجمعها وأرسلها هو الدبلوماسي الأميركي الذي يدرك أن هذه التفصيلات تهمّ وزارته. أمّا الذي نشرها وخصّها بهذا الاهتمام فهو الصحافة التي تبحث عن هذا النوع من الإثارة في البصبصة على حياة المشاهير، بمن في ذلك السياسيين، وكذلك على ما يدور في الأحاديث الخاصة من تقويم السياسيين بعضهم بعضاً. والحقيقة أن هذا الموضوع من جانب واحد على الأقل، هو توثيق الدبلوماسي الأميركي لهذه التفصيلات وإرسالها إلى واشنطن. إنها من أهم الشهادات الحية التي ترسم صورة أذرع الأخطبوط في علاقة سفارات الإمبراطورية بعاصمة الإمبراطورية. فالمعلومة هنا هي سلطة تحكُّم بامتياز. وجمع أدق المعلومات التفصيلية وأرشفتها وتنسيقها في العاصمة عبارة عن سلوك إمبريالي لدولة ترى أن من حقها استخدام كافة التفصيلات للتحكم في دول العالم الأخرى. وقد تكون هذه كلها موضوعات شائقة للبحث وشائكة في الوقت ذاته، ولكن ما يهمنا هنا هو موضوع آخر تُرجى منه فوائدُ لتبلور الرأي العام والنزعات العقلانية في السياسة وفي نقد السياسة، إنه إعادة الاعتبار للحقائق.
سبق أنْ بينّا نسبية الحقائق الناجمة عن التسريبات الفضائحية المتبادلة من داخل المؤسسة السياسية، والناجمة أيضاً عن التحكم بوساطة الشفافية. وقلنا إنّ إغراق الناس بالمعلومات والترويج لنسبية الحقائق هو الشكل الجديد لاحتكار المؤسسة السياسية الحقيقة، وهي أداة كبرى في تجنيد الرأي العام وتحشيده لأهداف محددة، وفي زيادة وزن الإثارة والمشهد على حساب المعلومة والمضمون. ومن سخريات هذه العملية أنها استُخدمت ضدّ القائمين على المصدر المفتوح، فتمّ التركيز على تاريخهم الشخصي وعلى شكلهم وهندامهم، ورُوِّجت أخبار عن فضائحَ جنسية وغير ذلك في محاولة للتغطية على المعلومة. وتبيّنت مدى قابلية هذه الأدوات الفكرية المتعلقة بزاوية نظر المتكلم وتاريخه وثقافته للاستخدام لأهداف سياسية سيئة من النوع الذي لا يمكنه تبرير ذاته أمام الجمهور بصراحة.
لقد كان لغضب الحكومة الأميركية على كشف الحقائق وتسخير الوسائل كلها لمنعها في البداية، ثم اضطرار المؤسسات الإعلامية إلى التعامل معها لأسباب متعلقة بالتنافس فيما بينها من جهة، ومع المصادر المفتوحة والانترنت من جهة أخرى، أثراً جانبياً مهماً جداً، وهو إعادة الاعتبار للحقائق في السياسة. وهنا يموقع المصدر المفتوح نفسه، على الرغم من كل شيء، في صلب تراث التنوير(19).
والتنوير أصلاً وحرفياً هو عكس الجهل والتجهيل. والمنطلق الرئيس، لفلسفة التنوير الذي تدحضه النسبية بعناوينها المختلفة (نسبية ثقافية ونسبية معرفية وغيرها)، هو أن معرفة الحقيقة في حد ذاتها هدف لا يصح من دونه تنظيم المجتمعات على أسس أخلاقية صحيحة، ولا يصح من دونها تأسيس ما يمكن تسميته بالخير العام. كانت فلسفة التنوير القديمة تنحو المنحى القائل إن المعرفة تجلب المنفعة والخير، والأخلاق الحميدة أيضاً، كما مالت بشكل عام إلى ربط سوء الأخلاق والظلم ومفاسد المجتمعات بالجهل مباشرة.
ولكننا أصبحنا نعرف أن لا علاقة ضرورية بين الخير والعلم. كما أصبحنا نعرف أن الموقف الأخلاقي في الحياة هو موقف حر بموجب تعريفه ولا يخضع للإثبات والتفنيد خلافاً للمعرفة العلمية. ومع ذلك إذا رغبنا في تخيل ما يمكن أن يعنيه التنوير في عصرنا، فسوف نقول إن أي تنوير ممكن في عصرنا لا بد من أن ينطلق من مقولتين: 1 - إن الوعي النقدي قد يكون علميا حتى إذا كان مَقُوداً بقيم أخلاقية، وذلك حين يستخدم الأدوات العلمية المعروفة في مرحلته في نقد البنى القائمة. 2 - إذا كانت المعرفة لا تقود بالضرورة إلى الخير، فإن الجهل غالباً ما يقود إلى الشر. هذه في رأينا هي العلاقات الممكنة بين المعرفة والأخلاق والتي نرى أنه من الممكن عبرها مواصلة قيم التنوير وفلسفته في ظروف عصرنا. فماذا لدينا لنقوله عن هذا الموضوع هنا؟
أريد أن أصور الأمر بشكل أكثر عينية عبر ما سُرِّب من وثائق في شأن موقف الأنظمة العربية والولايات المتحدة وإسرائيل من العدوان على غزة، وموقفها أيضاً من استخدام القوة ضد إيران في مسألة الطاقة النووية الإيرانية.
كان التحليل المنطقي قبل كشف الوثائق يقودنا غالبا إلى الاستنتاج التالي: تدفع مصالح الأنظمة العربية وعلاقاتها بالولايات المتحدة، وفي مقابل التحديات الداخلية التي تواجهها، إلى أن ترى في القضية الفلسطينية عبئاً لا بدّ من التخلص منه، وأن أي حركة مقاومة فلسطينية هي عقبة في طريق التوصل إلى تسوية من النوع الذي تقبله إسرائيل وهذه الأنظمة. وأن لها مصلحة، منطقياً، في الحرب الإسرائيلية على غزة للتخلص من حكومة حماس. كان هذا تحليلاً قائماً على معطيات عامة ملموسة، وعلى تحليل عقلاني. وقد بُني هذا الاستنتاج التحليلي على معطيات ظرفية وعلى تحليل عقلاني للمواقف والسلوكيات الظاهرة للعيان، الأمر الذي يمكن تسميته بفرضية عمل. ولكنها فرضية عقلانية وحتى علمية، دون أن يتوفر أي تسجيل لرئيس عربي أو لمسؤول عربي يثبت بالواقع التجريبي والدليل الملموسevidence empirical أن بعض الحكومات العربية كانت تعلم بالعدوان ولا تعترض عليه، أو أن لها مصلحة فيه. ثم جاءت الوثائق المنشورة لتقدم الأدلة على صحة هذه الفرضية العقلانية. وهذا ما حدث بالضبط لدى كشف الصحافة إحدى وثائق السفارة الأميركية في بيروت عن نصائح قدّمها وزير الدفاع الياس المر لإسرائيل عبر الولايات المتحدة في لقاء جرى في آذار/مارس 2008 في شأن ما يجب على إسرائيل تجنّبه عندما تشنّ حرباً على حزب الله، مؤكداً أن الجيش اللّبناني لن يقف حائلا أمام الهجوم الإسرائيلي (20).
كان التحليل العقلاني يُقابَل بتحريض إعلامي من الصّحافة المقربة من الأوساط الرسمية، أو بشعارات وطنية لهذه الأنظمة، أو بتعبئة الرأي العام ضدّ التحليل العقلاني باعتباره تهجّماً على الدولة أو على رئيس الدولة، أو على المسؤول المعني، أو تشكيك في نزاهتهم ووطنيتهم... وفي كثير من الأحيان اعتمد التحريض الإعلامي تهمة جاهزة، هي التخوين. وغالبا ما طرح السؤال التالي: "هل تتهمون الرئيس س بالخيانة؟" و "هل تشكك في دور الدولة ص؟" (وذلك في مماهاة مفضوحة الأهداف بين الدولة والنظام الحاكم). فماذا جرى؟ أعاد نشر هذه التسريبات الاعتبار إلى التحليل العقلاني؛ فحين نشرت الحقائق أظهرت انسجاماً بين الحقائق المتكشفة والتحليل العقلاني السابق الذي أنتج ما يمكن أن نسميه فرضية عمل علمية. وقد تبين في النهاية، على الرغم من التهريج الإعلامي في الظاهر، أنّ الدول (على الأقلّ في الخفاء) غالباً ما تسلك سلوكاً براغماتياً قائماً على المصالح والحسابات يمكن استنتاجه بالتحليل العقلاني. ومن الممتع أن نكتشف هنا الفرق بين الذّوات الفاعلة حين تكون أشخاصاً وعندما تكون دولاً. فكأفراد غالبا ما يكون الخفاء مناسبة للتعبير عن النزوات والعواطف والجوانب اللاعقلانية في الإنسان، وتصرفه كطفل في الخفاء أحيانا، في مقابل الرصانة والعقلانية الحقيقية أو المفتعلة في العلن. في حين أن الفاعلين كدول قد يتصرّفون أحيانا بلاعقلانية عاطفية أو ترويجية أو ديماغوغية في العلن إذا لزم الأمر، وبعقلانية منطلقة من حساب المصالح في الخفاء غالبا.
ولا شك في أن هنالك دوراً لعدم العقلانية السياسية وللعواطف مثل الحسد والغيرة والحقد، وحتى الاعتباطية العشوائية في سلوك السياسيين وقراراتهم، ولكن قدرا كبير من العقلانية يحكم أيضا سلوك الدول بناءً على مصالحها وبناءً على أهدافها. وهذا ما يمكّننا من التحليل والتوقع، والوثائق المسربة تبين بعضاً من هذه الحقائق. وعندما تنسجم الحقائق المكشوفة مع التحليل العقلاني الذي قام على افتراضات، فإن هذا الأمر يسمّى إثباتا، وهو يعيد الاعتبار إلى بعدي التنوير هذين: الحقائق والتحليل العقلاني.
ينطبق الأمر نفسه، وبدرجة أكبر،على تأليب الحُكام العرب للولايات المتحدة لتوجيه ضربة عسكرية لإيران. لقد قاد التحليل المنطقي إلى استنتاج ذلك من دون معرفة الوثائق. ولكن التصريحات السياسية والبيانات الختامية والزيارات الرسمية كانت تروّج عكس ذلك. وهي لم تكن تنفي عن نفسها مثل هذه التهمة فحسب، بل كانت تدعو علنيا إلى استخدام وسائل دبلوماسية فحسب في وجه إيران، وعدم استخدام القوة. ولكن الوثائق المنشورة بيّنت أنّ بعض الدول تلحّ في الاجتماعات الجدّية والرسمية على استخدام القوة العسكرية ضدّ إيران، وتكذب في العلن، وأن الولايات المتحدة تتفهّم هذا الكذب. إنها تتفهم اضطرار الحكومات إلى الكذب على شعوبها. فالشفافية من وجهة نظرها هي ممارسة ثقافية حضارية، وإذا صحّت فإنها تصح داخل الدول الديمقراطية الغربية. وهكذا أعادت تسريبات وثائق كثيرة وبغزارة غير مسبوقة في المصدر المفتوح الاعتبار للعقل في الحيّز العام.
خاتمة
حتى عصر المصدر المفتوح، كان تسريب مثل هذا الكم من الوثائق لا يتم سرياً، بل على شكل نشر رسمي للوثائق بعد ثلاثين أو عشرين عاماً لاطلاع المؤرخين والباحثين بموجب قوانين تنظم نشر الوثائق السرية بعد أن يزول خطر نشْرها. ولذلك كانت العقلانية في التحليل السياسي أمراً متروكاً للمؤرّخين لاستنتاج الدوافع الحقيقية للسلوك السياسي للحكومات والدول في الماضي، ولإعادة تركيب الواقع الذي كان قائما باستخدام وسائل عديدة منها الوثيقة. ومهمة المؤرخ هنا مهمة مقدسة في نظر المؤرّخ نفسه، إذ يرى أن من واجبه إذا كان أمينا لأصول المهنة ومبادئها أن يفكّك الأساطير والمعتقدات الخاطئة السائدة عن الماضي.
أمّا المصدر المفتوح فقد جعل الأمر متاحاً لما يمكن تسميته "التعامل مع الحدث اللحظي بمنهجية المؤرّخين". وهذه استعارة فحسب؛ فالمصدر المفتوح عبارة عن أرشيف الكتروني ضخم من نوع جديد. وهو مثل أي أرشيف يحتاج إلى أدوات في التصنيف والتحقيق والقراءة المقارنة. وهي أدوات لا تتوفّر لدى كلّ قارئ. فهو إذاً يقدّم المادة من دون الأدوات اللازمة للإحاطة حتى بجزء يسير منها. ومن هنا فإن فتح هذا الأرشيف للقراء لا يحوّل المتلقّين إلى مؤرّخين منكبّين على الوثائق بنهم، تماماً كما لا تحوّل المدوّنة أيّ إنسان يمتلكها ويكتب فيها إلى باحث. ومن هنا يعتمد غالبية القراء العاديين، فضلا عن الجمهور بشكل عام، على المؤسسة الإعلامية لتنقل إليهم المعلومات، نقلا غير نزيه طبعاً. ولكنها، من دون شكّ، تفتح مجالات جديدة أمام المحاكمات العقلية لإعمال التفكير النقدي. ما هي هذه المجالات؟ هذه نقطة للتفكير. ويبدو لنا أنّ التفكير وحده لن يوضّحها، ولكن الممارسة الفكرية والعملية سوف تكون كفيلة بذلك.
(2) - James Man, The New Republic, Nov. 29, 2010.
http://www.tnr.com/article/politics/79489/keeping-secrets-even-wikileaks.