لقراءة وتحميل المقال كاملا: اضغط هنا
1. ملاحظة بشأن تاريخ العنصرية
فُتحت بعد مقتل جورج فلويد، في 25 أيار/ مايو 2020، أبواب الميادين على مصراعيها للاحتجاج على العنصرية ضد الأميركيين - الأفارقة بعد أن بثت وسائل الإعلام عملية القتل كاملة؛ إذ جَثَم شرطي على رقبة فلويد حوالى تسع دقائق حتى قضى خنقًا. وزوّدت حشرجته الأخيرة "لا أستطيع التنفس" المناهضين للعنف العنصري المنتشر في صفوف الأجهزة الأمنية بمجازٍ واستعارةٍ لغويةٍ يعبّران حرفيًا عن الشعور الدفين والتراكمي بالاختناق وشعارٍ يتصدّر المسيرات في الولايات المتحدة الأميركية وبعض دول أوروبا الغربية.
للعنصرية تاريخ طويل تقاطع في الماضي مع الاستعمار والعبودية، وقد تفاعلت منذ نشأتها مع النزوع القديم إلى إضفاء صفاتٍ وراثية على الفوارق الطبقية بين العائلات الأرستقراطية وعامة الناس في الدول المستعمِرة. وشهد القرن التاسع عشر نزعة علموية تحمّست لتطبيق الاكتشافات العلمية في العلوم الطبيعية على الإنسان والمجتمع، بإسقاط مناهج مواضيع مثل البيولوجيا بتفرعاتها المختلفة على العلاقة بين البنية الجسدية لمجموعات بشرية وصفات أفرادها الشخصية وقدارتهم العقلية وأخلاقهم وثقافتهم عمومًا. ومثّلها في أميركا الشمالية الطبيب الأميركي صامويل جورج مورتون Samuel George Morton (1799-1851)، الذي تخصص في "علم" قياسات حجم الجمجمة، واعتُبِرَ مؤسس "المدرسة الأميركية" لوصف الأعراق البشرية (الإثنوغرافيا الوصفية)، وقام بجمع جماجم بشرية من مناطق مختلفة من العالم وتصنيفها بناءً على حجم التجويف موضع الدماغ. وافترض مورتون أن العرق الأبيض (القفقازي كما سمّاه) متفوقٌ على غيره من حيث القدرات العقلية استنادًا إلى تجويفات الجمجمة في الدماغ، وصنّف الأفارقة السود في أدنى مرتبة، ووضع الهنود ومن يشبههم في الوسط. وقرر على أساس تحليله لجمجمة مومياء فرعونية، أن الفراعنة كانوا من العرق الأبيض؛ فقد شقّ عليه، كما يبدو، تصور أن من أنشأ كل هذا المعمار كانوا أفارقة سود البشرة. وقد سبقه إلى تطوير هذه العلوم المزعومة علماء وأطباء أوروبيون، وتلقّت أشباه العلوم هذه دفعة من الداروينية، ولاحقًا من الداروينية الاجتماعية. ويمكن القول في هذا السياق إن نشأة الإثنوغرافيا، كاختصاص وعلم، كانت متأثرة تأثرًا مباشرًا بتلك العلموية الزائفة لتبرير العنصرية والسيطرة على الآخر، ولم تتحرر من هذه النزعة إلا مع الثورة العلمية النقدية في موضوعها بعد تخصيبه بعلوم التاريخ والاجتماع.
ومع أن تسمية العنصرية Racism حديثة، وتعود إلى فكرة الأعراق Races العلمية الزائفة Pseudo-scientific، فإنها ليست مصدر العنصرية الثقافي والاجتماعي. فقد كان الموقف السلبي الذي يتضمن آراء مسبقة عن جماعات بشرية كاملة قائمًا في ثقافة المستعمِرين، ليس فقط قبل التنوير والثورة العلمية، بل حتى قبل اكتشاف أميركا. كما عرفت الحضارات القديمة الخوف من الآخر المختلف الذي تراوح بين التوجّس منه والشك فيه وبين شيطنته. وإذا ما ترافق التوجّس من الآخر مع التفوّق التنظيمي والتقني العسكري إلى درجة إخضاعه، نشأ النزوع إلى تبرير عملية الإخضاع بالتفوق من جهة، تقابلها الدونية من جهة أخرى، وكذلك ربط التفوق والدونية بالاختلافات المرئية في المظهر الخارجي، أو بالفوارق الثقافية أو الدينية. والعبودية ذاتها، ولا سيما عبودية المهزوم للمنتصر في الحرب، أقدم بكثير من العنصرية الحديثة المرتبطة بفكرة وجود أعراق أكثر وأقل تطورًا من الأخرى. لقد كان ثمّة عبيد سود وبيض، وارتبطت العبودية بالهزيمة. وحصل في الماضي أن استعبدت شعوب وقبائل مقاتلة شعوبًا أكثر تحضّرًا ومدنية منها بعد أن هزمتها في الحرب.
لقد قدم التبرير العلمي الزائف تأسيسًا للأيديولوجيات العنصرية في عصر العلمنة والعقلانية في صورة نظرية قابلة بيسر للتحول إلى أيديولوجيا أو اعتقاد، وأدت هذه الأيديولوجيا دورًا خطيرًا في التاريخ الحديث. ولا شك في أنها أثّرت في القيادات السياسية والعسكرية والمستوطنين في مرحلة الاكتشافات الجغرافية والاستعمار. لكن لم تنشأ مواقف قطاعات واسعة من الناس من "آخرية الآخر" (حب الاستطلاع والاستعداد للتواصل والتعايش معه في مقابل التوجس في الحد الأدنى وصولًا إلى الشيطنة بدرجات مختلفة) نتيجةً لهذه التنظيرات شبه العلمية، سواء أتجلى الداعي إلى الموقف المسبق في لون الجلد أم اللغة أم الدين أم مجرد كون الآخر "غريبًا". فهذه الدرجات من المواقف تجاه المختلف جسديًا أو دينيًا أو إثنيًّا أو حتى قبليًّا كانت قائمة لدى قطاعات واسعة من الناس قبل رواج هذه النظريات وظلت قائمة بعدها وبغض النظر عنها، وهي تجعلهم معرّضين في العصر الحديث أيضًا لتقبّل الأيديولوجيات التي تستخدم نظريات شبه علمية أو تستند إليها.
تقبّلت الطبقات العليا في البلدان المستعمِرة فكرة التفوّق على المستعمَرين؛ إذ كان الإيمان بالتفوّق على العامة من سكان بلادها منتشرًا في أوساطها التي عدّتهم عاجزين وجهلة بالوراثة، بحيث يكرّس التكاثر بالتزاوج فيما بينهم تلك الصفات الوراثية. أما الأرستقراطية الأوروبية فكانت واثقة بأن دمًا مختلفًا سرى في عروق أفرادها، وأن نسب الأرستقراطي يؤهله جينيًا للسلطة والثروة. من جهة أخرى، تقبّل عوام المجندين للقتال في المستعمَرات فكرة أن المستعمَرين أدنى مرتبة منهم بسبب الموقف الموصوف أعلاه من الآخر عمومًا، ولأن نزع الإنسانية عن المستعمَرين يمنحهم امتياز التفوق، والانتماء بهذه الصفة إلى قوم المستعمِرين. كل هذا قبل أن تنشأ الأيديولوجيات القومية وفكرة انتماء الطبقات كلها إلى الأمة ذاتها، وحلول التأكيد على الفرق بينها وبين الأمم الأخرى بطبقاتها المختلفة محل "الفوارق الجوهرية" الثابتة بين نبلائها وعامتها.
ثمّة مصادر مختلفة لقابلية الإنسان أن يتشرّب أفكارًا مسبقة عن الآخر بافتراض صفات فيه من دون سابق معرفة. وجميعها مشتقة من تعميمات قائمة أصلًا على افتراض وجود "جوهر" أو "نوعية" ثاوية في جماعة بشرية معينة، سواء أكانت هذه الجماعة مؤلفة من أصحاب البشرة السوداء، أو من أتباع ديانة مختلفة، أو من إثنية/ قومية مختلفة أو غيرها. يمكن جمع هذه النزعات عمومًا تحت عنوان "الجوهرانية" Essentialism التي تشتق ما لا حدود له من صفات أفراد منتمين إلى جماعة ما من جوهر مُفتَرَض يجمع بينهم، وكأن صفاتهم متولّدة منه بالضرورة.
وقد برر جون لوك John Locke (1632-1704)، أحد أهم فلاسفة التنوير الأوروبي ومن آباء الليبرالية، العبودية بأن المستعبدين لا يعرفون كيف يستغلون أرضهم بشكل ملائم ولا يفلحونها ويفشلون في إنتاج الملكية الخاصة، كما أنهم خسروا في "حرب عادلة"؛ فحل استعبادهم بدلًا من قتلهم، ما بدا له مقايضة عادلة[1]. ويبدو أنه قبل ذلك بمدة طويلة ساد الاعتقاد في اليونان القديمة أن بعض الناس عبيد بطبيعتهم، وبعضهم أسياد بطبيعتهم، كما ورد عند أرسطو في كتابه السياسة. كانت العبودية قائمة في كثير من بلدان العالم، في الحضارات القديمة، وكذلك في العصر الوسيط، بما في ذلك البلدان العربية والمسلمة. فقد عانى العبيد فيها أيضًا حتى مراحل متأخرة. وكان ثمّة جانب آخر للعبودية في الحالة العربية والمسلمة بأن العديد منهم جلب في مرحلة متأخرة من الخلافة العباسية لغرض الخدمة العسكرية ووصلوا إلى مراتب عليا، وانتزعوا السلطة السياسية لعهود طويلة. كما اندمجوا في أعلى رتب الجيش والإدارة في السلطنة العثمانية منذ بناء جيش الانكشارية وتأليف حرس السلطان وإداراته من العبيد البيض الذين جُلبوا أطفالًا من البلقان وغيرها من البلدان. أما ما ميّز العبودية الحديثة في أميركا فهو علاقتها بالاستعمار الاستيطاني، وتكريسها مع استيراد الفكر العنصري وفكرة العرق الأدنى.
في بداية عصر النهضة علمنت العنصرية الموقف الديني السلبي من الآخر بسبب الاختلاف في العقيدة الدينية، بتحويله إلى موقف معلل بصفات ثابتة فيه لا تتغير بتغيير العقيدة والدين. كان الدافع إلى ذلك تبرير الموقف التشكيكي باليهود والمسلمين الذين تحولوا إلى المسيحية بعد طرد أبناء ملتهم من شبه الجزيرة الأيبيرية بعد "حرب الاسترداد" Reconquista، والتمسك بهذا الموقف لعدّة أجيال خوفًا من أن يصل أفراد من نسلهم إلى مناصب عليا في الدولة أو الكنيسة. لا بد إذًا من افتراض وجود عناصر وراثية ثابتة فيهم لا تتغير بتغيير العقيدة. هذا كله قبل أن تنشأ النظريات العنصرية العلموية التي وصلت إلى حد طلب شهادات بياض اللون (Whiteness) في أميركا بعد أجيال من احتلالها. لقد عرفت إسبانيا والبرتغال طلب شهادة نقاء الدم من العناصر اليهودية والمسلمة قبل ذلك[2].
وأدى "اكتشاف أميركا" في الفترة نفسها ومفاجأة/ صدمة وجود شعوب في هذا العالم لم يذكرها سفر التكوين، ولم يرد ذكرها في التوراة عمومًا، إلى تبني فكرة وجود كائنات sub-human تُشبه البشر لكنها ليست بشرًا، ومن ثمّ يمكن معاملتهم مثل الطرائد البرية الأخرى. ووجد بعض المستعمِرين ضالتهم في "نظرية" الفيلسوف البروتستانتي الكالفني الفرنسي، إسحق دي لابيرير Isaac la Peyrère (1676-1596)، حول ما قبل البشر pre-Adamites، والتي تفيد أن التوراة روت قصة اليهود ولم تروِ قصة البشر الذين عاشوا قبل آدم وحواء؛ أي الذين عاشوا حالة طبيعية بهيمية.
ونشأ في أميركا الجنوبية والوسطى الصدام الشهير بين رهبان الدومينيكان من جهة، والمحتلين العنصريين الذين أنكروا بشرية السكان الأصليين من جهة أخرى. واشتهرت المساجلة العلنية بين الراهب الكاثوليكي بارتيلومي دي لاس كازاس Bartolomé de Las Casas (1566-1484) الذي أكد إنسانية السكان الأصليين، ومن ثم ضرورة تبشيرهم بالمسيحية (وليس احترام معتقداتهم مثلًا) مثل بقية البشر، وبين خوان سيبولفيدا Juan Sepulveda (1489-1573) في عام 1550 الذي استند إلى رأي أرسطو القديم المتمثل بأن ثمّة بشرًا هم عبيد بالطبيعة لأنهم غير قادرين إلّا على استخدام أجسادهم، ومن ثمّ، من حق المتفوّق أن يستخدمهم كعبيد[3]. وكان سيبولفيدا قد حرّر أفضل طبعات أرسطو من كتاب السياسة، وربما كانت آراؤه هذه سبب ولعه بأرسطو.
وبعد ذلك بقرنين، عاد إلى الموقف ذاته عالم اعتُبر خبيرًا ومرجعًا أوروبيًا في الشؤون الأميركية في القرن الثامن عشر (من دون أن يزور أميركا) هو الفيلسوف الهولندي البروتستانتي كورنيلوس دي باو Cornelius de Pauw (1799-1739)؛ إذ انتقد محاولة الكنيسة الكاثوليكية تبشير الهنود الحمر بوصفهم بشرًا مثل بقية البشر، واعتبر أن السكان الأصليين ليسوا أشرارًا ولا أخيارًا، لأنهم ليسوا بشرًا أصلًا[4]. إنهم أدنى عرقيًّا من سكان أوروبا؛ بسبب تراكم تأثير المناخ والجغرافيا[5]. هنا جرى تلبيس الاستعباد لباسًا "علميًا" بما بدا ترفعًا عن الخير والشر باستخدام معايير علمية وتجنّب الأحكام القيمية. لقد اعتقد من قام ببعض أفظع ما عرفه العالم من جرائم أنّ ما يقومون به لا يصنف كخير أو شر، إما لأنهم اعتقدوا أن عملهم مجرد وظيفة وتنفيذ أوامر، وأنهم ليسوا أصحاب قرار بشأن طبيعة العمل الأخلاقية، وإما لأنهم يقومون بأعمال تبدو لهم منطقية ولا دخل للأخلاق في الموضوع، وإما لأن أفعالهم موجهة إلى من يعدّونهم من غير البشر، فلا تنسحب على أعمالهم المعايير الأخلاقية وقيم الشر والخير!
وبعد عيش الأوروبيين في مناخ المستعمرات قرونًا طويلة من دون أن تتأثر بنيتهم الجسدية والعقلية بها، ثار نقاش يشكك بهذه النظريات، وصاغ في حينه أحد أشهر علماء عصره، أستاذ الطب وعلم النبات في جامعة أوبسالا، كارل فون ليناس Carl Linnaeus (1778-1707)، نظرية حول العلاقة بين اللون وملامح الوجه ونوع الشعر ولون العينين من جهة، والقدرة على تنظيم المجتمع وأيضًا المزاج من جهة أخرى؛ إذ قسّمه إلى عصابي ومعتدل وخامل، ووضع أصنافًا من القردة في مرتبة قريبة من الإنسان قبل أن يفعل ذلك داروين. وبعد هذه "النظريات" العلمية الزائفة التي سخّرت أدوات العلوم الطبيعية، جاءت فلسفة التاريخ لتصنّف الشعوب بموجب سُلّم التقدم والتأخر التي وجدت نسقها الأكمل عند هيغل الذي رأى أنّ ثمّة شعوبًا من دون تاريخ؛ فروح التاريخ عنده تتعطل في أفريقيا وبين الهنود الحمر وسكان القطب الشمالي، لأنها لا تعيش في المناطق الشديدة الحرارة والمناطق الشديدة البرودة، لذلك بقيت هذه الجماعات البشرية سجينة الضرورات الطبيعية، ولم تشارك في مسيرة تقدم الإنسان في التاريخ[6]. وقد تسربت تاريخانية فلسفة التاريخ إلى سائر العلوم الاجتماعية في القرن التاسع عشر لتستبدل روح التاريخ بروح الشعب أو روح الأمة أو روح الطبقة أو روح النخبة أو روح العرق، قبل أن تحررها الثورة الإبيستمولوجية من تلك العقيدة التي بدت علمية لأنها تنسجم ضمن نسق فلسفي متماسك.
اعتقد العلماء الذين حاولوا اشتقاق الشخصية، بما فيها مستوى الذكاء ودرجة العنف ومدى القرب من البهيمية والإنسانية، من حجم الجمجمة أو اتساع الأنف وعظمة الفك وغيرها من القياسات، أنهم يقومون باكتشافات علمية بموجب منهج علمي صارم وليس بموجب أحكام أخلاقية. لكنهم في الحقيقة كانوا يشتقون صفات نفسية وثقافية وأخلاقية مما اعتبروه جوهرًا ثابتًا. ربما ما زال البعض يصدق مثل هذه الخرافات أو يأخذها بجدية معتقدًا أنها علمية، ولكن يمكن القول إن المجتمع العلمي عمومًا قد نبذ ذلك؛ وباتت هذه "النظريات" محرجة لمن صدقها، ولا سيّما بعد استغلالها الكارثي في أيديولوجيّة الأعراق النازية بعد أن انتقلت نظريات غوبينو Joseph Arthur de Gobineau (1816-1882) العنصرية في التفاوت العرقي إلى المنظّر النازي ألفريد روزنبيرغ Alfred Rosenberg (1893-1946) في كتابه عام 1930 أسطورة القرن العشرين، وإلى غيره من منظري النازية. وكان قادة الحزب النازي وهتلر نفسه مؤيدين، بل دعاة معلنين لأيديولوجية تراتبية الأعراق التي تضع الأفارقة السود في المرتبة الأدنى، وترفع العرق الآري إلى رأس القائمة فهو الأرقى، وتعتبر أن اليهود هم الحالة الأسوأ لأنهم يُشكّلون خليطًا من الأعراق ومن ثمّ فهم يلوثون أوروبا؛ وتعتبر السلافيين من عرق متدني، ومن ثم يجب أن يكون دورهم في سلم التراتبية العرقية بمنزلة المستعبدين للعرق الآري؛ ما يبرر سياسات التوسّع النازية. وبطبيعة الحال، اعتبروا أن كل حضارة قديمة مثيرة للإعجاب، سواء في مصر القديمة أو بلاد فارس، أسستها مجتمعات قريبة من العرق الآري وأن انهيارها كان نتيجة لاختلاط هذه المجتمعات الآرية بالسكان المحليين وتلوّث عرقهم النقي. وأصبح ضمان نقاء العرق هدفًا من أهداف الهندسة الاجتماعية في الدولة النازية. لكنهم أبدوا مرونة براغماتية فكانوا مستعدين لتعديل تراتبية الأعراق بموجب التحالفات، فمن تحالف معهم من السلافيين اعتبر أرقى من غيره. وقد انهار هذا كله انهيارًا مدويًّا مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم يعد التصريح به مقبولًا في الجامعات أو في صالونات النخب الأوروبية والأميركية. ولكن هذا لم يعنِ موت العنصرية.
اتخذ التمييز ضد الآخر المختلف أشكالًا عديدة، وبهذا المعنى لم تولد العنصرية بالمعنى الواسع للكلمة مع نظرية الأعراق العلمية الزائفة، إذ كانت قائمة من دون نظريات، ومن ثمّ فهي لم تنته بنهايتها. واحتلت "جواهر" Essences أخرى غير بيولوجية محل العرق في أصناف التمييز السلبي الجديدة التي ظلت تحمل تسمية العنصرية، لكن من دون "العناصر" أي من دون فكرة العرق. وإذا أصبح ذكر الأعراق غير مقبولٍ، فإن الحديث عن الثقافات والديانات و"العقليات" و"الذهنيات" بوصفها جواهر ثابتة ظل مقبولًا، وظل في الإمكان اتخاذ موقف من الجماعات وفق دياناتها وثقافتها و"عقليتها" المفترضة، وتوقّع صفات الفرد وأخلاقه ومزاجه وكفاءته الوظيفية من انتمائه إليها. وصار بوسع صاحب المواقف العنصرية ضد أصحاب البشرة السوداء أن يزعم أن أفكاره التنميطية المسبقة لا تعود إلى لون بشرتهم، بل إلى عنفهم أو كسلهم وعدم رغبتهم في العمل، وغيرها من التعميمات التي تفترض وجود جوهر آخر حل محل لون البشرة. وبدلًا من الاتكاء على السمات الخلقية، يبدأ في الاستناد إلى الأرقام والإحصاءات التي تؤكد على تدني دافع المبادرة أو الإنجاز أو الرغبة في التقدم أو التعليم مقارنة بفئات أخرى في المجتمعات. وعادة ما تسقط وجهات النظر هذه على المفاضلة بين الفرد والآخر، وكأن أحدهما أقل عقلانية في فعله من الآخر بسبب انتمائه إلى جماعة معينة، من دون أخذ عوامل اجتماعية في الاعتبار مثل الفوارق في انطلاقتهما الاجتماعية، وفي ما هو متاح لهم من خيارات في بيئتهما.
ويمكن للعنصري أن يدّعي أنه ليس عنصريًّا؛ إذ إنه يعترف بوجود استثناءات من الأكفاء السود، وأنه يعمل مع بعضهم. ولكن بعضهم تم تعيينه، من دون استحقاق، فقط لأن بشرته سوداء في إطار التمييز الإيجابي الذي فرضته الدولة لتصحيح بعض الغبن القديم، والذي لا يقبل به. فهو يدّعي أنه ضد أي تمييز. تمامًا كما رفع عنصريون بيض شعار "كل حياة مهمة" في مواجهة شعار "حياة السود مهمة" في مظاهرات ما بعد مقتل فلويد، وهم في الحقيقة يقصدون القول إن حياة السود غير مهمة؛ إذ لا يجوز التركيز عليها وحدها حتى إذا كان السود وحدهم هم الذين يقتلون على أيدي الشرطة لأنهم سود. كما كان البعض يسخر (ومنهم مناضلون ويساريون) من أي نضال من أجل مساواة المرأة بالرجل بحجة أنه لا يجوز تفضيل موضوع حقوق المرأة، حتى يكون التمييز قيد البحث هو التمييز ضد المرأة لكونها امرأة، وذلك لأنه لا مساواة أصلًا في هذه المجتمعات بين الرجال.
2. النضال ضد العنصرية
مثلما للعنصرية تاريخ، فإن للكفاح ضدها تاريخًا أيضًا، وقد التقى مع النضال ضد الاستعمار في أنحاء العالم كافة، وضد أنواع أخرى من التمييز على أساس الهوية، وما زالت القضية على الأجندة في العديد من البلدان. وفي الولايات المتحدة، ظل النضال ضد العنصرية منفصلًا مدة طويلة عن الكفاح لتوسيع حق الاقتراع ومساواة المرأة بالرجل، وغيرها من النضالات داخل المجتمع الأبيض قبل أن تلتقي هذه النضالات في إطار المواطنة. فالولايات المتحدة حالة خاصّة دامت فيها عبودية الأفارقة مدة طويلة وعاند فيها ملّاك العبيد التغيير مدة طويلة، وحاربوا دفاعًا عمّا عدّوه أملاكهم الخاصة وللحفاظ على "نمط حياتهم"، كما ظلت العنصرية قائمة في المؤسسات فترة طويلة، وكذلك في ثقافة أوساط واسعة من الناس.
وتختلف العبودية عن بقية أشكال التمييز العنصري؛ لأنها بكل بساطة تنفي أن الطرف الآخر إنسان، إنها تنزع من الإنسان إنسانيته بتحويله إلى سلعة تُباع وتشترى وتُسخَّر لأعمال مختلفة في الحقل والمنزل.
ما ميّز الاستيطان الأبيض في أميركا الشمالية والجنوبية هو الاستعانة بأعداد ضخمة من العبيد في العمل الزراعي في المزارع الشاسعة التي تحتاج إلى أيد عاملة كثيرة وعمل شاق لاستصلاحها واستثمارها وقطف ثمارها. ولم تكن البرجوزاية الصناعية في أوروبا الغربية وشمال أميركا بريئة من هذا النظام، فقد استفادت من المحاصيل التي أنتجها العبيد في هذه المزارع في صناعة النسيج وغيرها من الصناعات. ولكن في النهاية وقع التناقض السياسي والاقتصادي والأخلاقي مع هذه المنظومة داخل النظام الديمقراطي بفرض سلطة الدولة على الولايات الجنوبية بالقوة بعد حرب أهلية دامية. لكن الأمر لم ينته بانتهاء العبودية رسميًّا. فتغيير نظام العبودية يبدأ بحظره قانونيًا، ولكن القضاء على العنصرية لا يُنجز بسنّ القوانين. كما أنه لا يُنجز بتغيير موقف أو فكرة، ولا حتى بصدمة حضارية. لقد ظلت العبودية في مناطق من الولايات المتحدة نمط حياة استمر قرونًا.. ونشأت عليها ومنها ثقافة كاملة احتاج تفكيكها إلى وقت طويل. وهي لا تزول طوعًا، بل بتفاعل بين ضرورات الحياة الحديثة وقيم المساواة والمواطنة والحريات التي تقوم عليها الديمقراطية الليبرالية والنضال من أجل تحقيق المساواة والحقوق السياسية.
وهذا ما حصل فعلًا طوال قرن كامل بعد التحرر من العبودية؛ إذ صمد نوع من الأبارتهايد القانوني و/ أو الاجتماعي المفروض على السود في أنحاء من الولايات المتحدة، ولا سيما في الجنوب، في ظل مبدأ برره حتى القضاء، ويقوم على مبدأ: "منفصلون لكن متساوون". كما أنهم ظلوا يعانون لفترة طويلة آثار الفقر والتهميش المتوارث. وقُدِّمت تضحيات لا حصر لها في النضال ضد العنصرية بعد زوال العبودية. ولا شك في أن الدأب الفردي ونضال مواطنين أفراد لنيل حقوقهم باستخدام الأدوات المتاحة لهم في الإطار الديمقراطي، وحركة الحقوق المدنية بقيادة القس مارتن لوثر كينع Martin Luther King Jr. ( 1929-1968)، الذي كان يرفض العنف وأشكاله ودوافعه كافةً رفضًا مطلقًا، وأيضًا الحركات الأكثر راديكالية التي لا تعد الإشادة بمساهمتها المهمة مرغوبة حاليًا، وتضامن جمعيات ومؤسسات ومواطنين بيض، قد أنجز الكثير في هذه الأثناء. كما أسهمت الكنائس المعمدانية في النضال من أجل المساواة، حين لم يجد السود من ملجأ لهم سوى في كنائسهم بعد أن فقدوا ثقافتهم ودياناتهم الأصلية ولغاتهم، وأصبح المشترك بينهم وبين البيض الذي بإمكانهم التمسك به عند الحديث عن المساواة هو تعاليم المسيحية قبل الدستور الأميركي. تأمّل مثلًا في الخطاب الديني تمامًا لمارتن لوثر!
ومع تقدّم المساواة أمام القانون نشأت طبقة وسطى من بينهم قادرة على الاستفادة منها ومن حظر التمييز في التوظيف وغيره على أساس العرق، وصولًا إلى بعض التمييز الإيجابي لدى التعيين في بعض المؤسسات التي ينخفض فيها "تمثيل" السود.
وبعد تحقيق المساواة القانونية، لم تتحقق المساواة في الفرص التي تدافع عنها الليبرالية في مقابل المساواة الاجتماعية الاشتراكية، طالما وُجِدَت فجوة هائلة بين نقاط انطلاق الأفراد الاجتماعية الاقتصادية (بما في ذلك أوضاعهم التعليمية والصحية) منذ الولادة. فالمساواة القانونية من دون سياسات اجتماعية لصالح الفئات المستضعفة تاريخيًا، تكرس الفجوة الاجتماعية ولا تردمها. وهو ما أصبح موضوعًا لتنظيرات لا حصر لها بشأن كيفية تحقيق العدالة داخل النظام الديمقراطي الليبرالي، والتي فهمت خطأ كأنها نظريات عامة في العدالة [7].
وظلت فئات واسعة من الأميركيين من أصول أفريقية تعاني الآثار الاجتماعية والاقتصادية للتمييز العنصري في مجالات مثل معدل الدخل المنخفض والفقر، والبطالة، وتردي الأوضاع الصحية، وارتفاع معدلات الجريمة، وعنف أجهزة الأمن. فالتغلب على إرث طويل من التمييز العنصري يتطلب إضافة إلى حظره قانونيًّا تدخل الدولة في تحديد سبل الوصول إلى مساواة في قاعدة انطلاق الأفراد الاجتماعية كي يتحقق تكافؤ الفرص فعلًا. ولكن الولايات المتحدة ليست دولة رعاية تطبّق خططًا من هذا النوع، بل دولة ليبرالية اقتصاديًّا، والثقافة السائدة فيها ثقافة عمل وتنافس وتمجيد النجاح الفردي واعتبار الإنجاز الفردي قيمةً عليا، وتُعدُّ بموجبها رعاية الدولة "وجبات مجانية"، ما يكرس وضع الأميركيين الأفارقة في درجة اقتصادية - اجتماعية أدنى.
إن طريق التطور متعرّج وأحيانًا حلزوني، وما يبدو هبوطًا يكون في الحقيقة في حالة صعود، فالخط البياني عمومًا هو في اتجاه تحرير مجالات أكثر فأكثر من التمييز ضد السود واقتحام مبدأ المساواة مجالات أخرى ما زالت العنصرية فيها مسكوتًا عنها. لقد انخرط الأميركيون السود تدريجيًا في المؤسسات وقطاعات الحياة كافة، من الرياضة والفنون وحتى الجامعة والجيش والقضاء والبرلمان. وللمعاناة في كل منها قصص وسرديات ورموز وأبطال.
وثمّة أحداث مفصلية معروفة تُعتَبر علامات رمزية في ذاكرة النضال على طريق صعود الخط البياني مثل حالة مواجهة عنف أجهزة الأمن بعد مقتل فلويد؛ وقبل ذلك في عام 1955 حين رفضت امرأة سوداء، روزا باركس، أن تُخلي مقعدها لرجل أبيض البشرة في الحافلة لأنها تجلس في أماكن مخصصة للبيض، وخطاب مارتن لوثر في مونتغمري في ولاية ألباما في 25 آذار/ مارس 1965، وأول مدينة فُرِض عليها التعليم المختلط في جنوب الولايات المتحدة، وصولًا إلى تعيين أميركي من أصل نصف أفريقي في منصب رئيس أركان في الجيش الأميركي (كولن باول 1989)، وانتخاب رئيس أميركي من أصل نصف أفريقي أيضًا. هذه كلها أحداث مفصليّة أصبحت رمزًا لاقتحام المساواة المدنية مجالات جديدة.
وغالبًا ما تغلّب الرمز التمثيلي على الواقع الذي يرجى تمثيله. فوجود رجل أسود على رأس الجيش الأميركي لم يلغ التمييز ضد السود، ووجود رئيس أميركي لم يلغه أيضًا، بل شعر هذا الأخير كما يبدو بإحراج من التطرّق "الزائد" إلى قضايا السود خشية أن لا يبدو رئيسًا لجميع الأميركيين. فهل كان وصول رئيس أسود البشرة إلى الرئاسة الأميركية مفيدًا لحقوق السود، بما يتجاوز إنجاز انتخاب رئيس أسود البشرة بحد ذاته؟ ما زالت تتردد صرخة مغني البوب هاري بيلافونتي في وجه كولن باول رئيس هيئة الأركان المشتركة (1993-1998) ووزير الخارجية الأميركي (2001-2005)، بأنه لا يزال عبدًا، ويختلف عن العبد في المزرعة في كونه عبدًا في المنزل يلقى معاملة خاصة من قبل سيده الأبيض.
من الواضح أن النزعة الحقوقية للأميركيين من أصل أفريقي هي نزعة اندماجية في الأمة الأميركية. فهم يُطالبون بالمساواة الكاملة على أساس المواطنة، وليس على أساس خصوصية إثنية أو دينية أو ثقافية أو غيرها. الحديث هنا ليس عن تعددية ثقافية، وحقوق جماعية، بل عن كونهم جزءًا لا يتجزّأ من الأمة الأميركية. فمطالبهم لا تشمل الاعتراف بلغة وثقافة، وإنما الاعتراف بتاريخ المعاناة واحترامه، واحترام ذاكرتهم في إطار الرغبة في الاندماج الكامل في الحياة الأميركية.
من هنا اعتُبر تعيين أول رئيس أركان أسود وأول قاضية سوداء إنجازًا. هذا لا يعني أن العنصرية زالت من القضاء أو من البيت الأبيض أو المجالات التي اقتُحِمَت قبل ذلك، وأصبحت رموزًا للمساواة؛ إذ بقيت ثمة زوايا مظلمة كثيرة لم تتعرّض لأشعة المساواة في المؤسسات والنفوس؛ لقد تجنّد السود للشرطة منذ مدة طويلة وأصبح بعضهم ضباطًا كبارًا ورؤساء أقسام ومدعين عامين ورؤساء بلديات، لكن عنصرية عناصر في الشرطة ضد السود بقيت من أبرز هذه الزوايا المظلمة. وتكتسب هذه العنصرية أهمية خاصة بسبب ارتفاع مستوى الجريمة عند السود لأسباب اجتماعية - اقتصادية يطول شرحها. ولكن العنصريين يفسرون ارتفاع معدلات الجريمة بوصفه تعبيرًا عن طباع ثابتة لدى السود، حتى لو كان مصدرها بيئيًا اجتماعيًا وليس عضويًا. وهذا يعني أن كل شاب أسود ممكن أن يكون جنائيًّا أو مجرمًا. وثمّة ميل ليس فقط إلى الشك فيه واعتقاله، بل لاستخدام درجة أكبر من العنف أثناء عملية الاعتقال، وأيضًا إصدار عقوبات أكثر شدّة بحقه في المحكمة. ولدى هذه البنية العنصرية التي تتأسّس على ما سبق المرونة الكافية لاستقطاب سلوك عنيف وحاد وعنصري في جوهره من طرف ضباط ومدعين عامين سود يصبون جام غضبهم على السود الكسالى، والذين لا يعملون، أو على العنيفين بطبعهم.
كما أن نسبة الجرائم أعلى لدى السود، فإن نسبة العنصرية لدى الشرطة أعلى من نسبتها لدى قطاعات اجتماعية ومهنية أخرى[8]، ليس فقط بسبب المستوى الثقافي والتعليمي للشرطة، بل أيضًا لأن الشرطة بطبيعتها تميل إلى التصنيف والتعميم وتقسيم الناس إلى فئات Categorization، ضمن وسائلها للرقابة والضبط والسيطرة، إضافة إلى كونها تُجسِّد العنف الشرعي للدولة. وقد يتحوّل هذا العنف إلى تعسّف في حالة الشرطي العنصري أو الضعيف الشخصية الذي يُريد أن يثبت رجولته، أو حتى الشرطي الأسود الذي يريد أن يُثبت أنه أكثر "بياضًا" من البيض. ويصبح هذا التعسف مؤسسيًا في حال غياب الرقابة على استخدام الشرطة للقوة، ورخاوة آليات المحاسبة تجاه أجهزة إنفاذ القانون بصفة عامة، وعدم المتابعة القانونية لقضايا سوء استخدام القوة، وتضامن أفراد الشرطة المؤسسي أو شبه النقابي مع بعضهم لعدم محاسبة زملائهم الذين يسيئون استخدام العنف.
وحين نقوم بتوثيق جزئي لحالات قتل السود على أيدي الشرطة منذ ما بعد انتخاب باراك أوباما، نبدأ في 30 كانون الأول/ ديسمبر 2008، حين أطلق شرطي أبيض في تكساس النار على شاب أسود البشرة يدعى روبي تولان Robbie Tolan، بعد أن حسبه خطأً يقود سيارة مسروقة نتيجة عدم تسجيل الشرطي رقم السيارة بشكل صحيح. وفي أيار/ مايو 2010، توصلت المحكمة إلى قرار بعدم إدانة الشرطي وقامت بتبرئته[9].
وتلا تلك الحادثة مقتل الشاب أوسكار غرانت Oscar Grant، الذي كان يبلغ من العمر 22 عامًا، في الأول من كانون الثاني/ يناير 2009؛ فقد رماه شرطي بالرصاص في ظهره رغم أن شرطيًا آخر ثبّته ليقيّده، ورغم أنه لا يحمل أي سلاح. ولم تقم الشرطة بفتح تحقيق كامل بالحادث إلا بعد انتشار شريط فيديو بعد أسابيع يوثّق مقتل أوسكار. وعوقب الشرطي بسنتين سجنًا فقط لأنه لم يقصد قتله. ووصفت هيئة المحلفين الحادث بالمأساوي. وفي عام 2019، أي بعد عشر سنوات من الحادثة، أظهرت التقارير التي صدرت بموجب قانون الشفافية أن تصريح الشرطي عن الحادثة كان كاذبًا[10]. في الحالتين أعلاه، لم يُدل أوباما، الذي كان لا يزال رئيسًا منتخبًا ولم يستلم الرئاسة بعد، بأي تصريح[11].
وقُتل الشاب ترايفون مارتن Trayvon Martin في ولاية فلوريدا في 26 شباط/ فبراير 2012، بعد مشادّة كلامية مع جورج زيمرمان George Zimmerman، متطوّع لحراسة الحي، وهو أميركي من أصول لاتينية؛ لأن شكل مارتن بدا له مشبوهًا مع أنه لم يكن يحمل أي سلاح. وفي تمّوز/ يوليو 2013، رأت هيئة المحلفين أن زيمرمان غير مذنب. وأدى الإعلان عن هذا الحكم إلى إشعال فتيل الاحتجاجات ضد العنصرية، ونشأت حركة "حياة السود مهمّة" Black Lives Matter[12]. عقد أوباما اجتماعًا مع عدد من صناع القرار من الديمقراطيين والجمهوريين لمناقشة أفضل الطرق لتحقيق إصلاحات في العدالة الجنائية. وأصدر بيانًا مكتوبًا في 14 تموز/ يوليو 2013، بعد الإعلان عن براءة زيمرمان، جاء فيه أننا "دولة قانون، وأن هيئة المحلفين قد أدلت بحكمها"، وناشد الأميركيين الخلود إلى الهدوء، ودعا إلى أن يسأل الجميع أنفسهم إنْ كانوا قد بذلوا قصارى جهدهم لنشر التفاهم في مجتمعاتهم ووقف موجة عنف الأسلحة النارية اليومية، وأنه يجب على جميع الأفراد والمجتمعات سؤال أنفسهم كيف يمكن منع تكرار هذه الحادثة المأساوية في المستقبل[13].
في 17 تموز/ يوليو 2014، قُتل إريك غارنر Eric Garner، في حادثة شبيهة جدًا بحادثة فلويد، عند محاولة الشرطي اعتقاله. لم يقاوم غارنر الاعتقال، إلّا أن الشرطي قام بوضع يديه حول عنقه ومن ثم طرحه أرضًا وجثا بركبته على رقبته وصرخ غارنر إحدى عشر مرة "لا أستطيع التنفس" إلى أن فارق الحياة. وانطلقت الاحتجاجات الغاضبة في العديد من الولايات بعد مقتله وانتشار فيديو للحادثة، ومجددًا بعد قرار المحكمة بعدم توجيه التهم إلى الشرطي في كانون الأول/ ديسمبر 2014[14]، واكتفى أوباما في حينها بقوله إن الواقعة ليست إلا مشكلة أميركية، وليست مشكلة السود فقط. وبعد الانتقادات الواسعة له، برر أوباما موقفه بقوله: "لست رئيسًا لأميركا السوداء. أنا رئيس أميركا [...] لا يمكنني أن أصدر قوانين تقرّ بأني أساعد السود فقط"[15]. والغريب أن أوباما بتصريحه هذا لم يقم بالتصدي لمشكلة قال إنها أميركية، وكان بإمكانه التعامل معها بجدية ما يؤدي إلى نتائج إيجابية على المجتمع الأميركي بصفة عامة والسود بصفة خاصة. ولكنه، من ناحية أخرى، رفع غطاء حماية معنوي عن السود، وهو غطاء الرئاسة.
بعد حادثة غارنر بأسابيع، تحديدًا في 9 آب/ أغسطس 2014، قُتل مايكل براون Michael Brown، 18 عامًا، في مدينة فيرغسون بعد أن رفع يديه مستسلمًا؛ إذ أطلق الشرطي ما مجموعه اثنتي عشرة رصاصة منها اثنتان عند وقوع مشادة كلامية بينهما. تفجّرت احتجاجات عنيفة عقب وفاة براون، وانتشر شعار "الأيدي مرفوعة، لا تطلق النار" Hands up, don't shoot. وحثّ أوباما المتظاهرين بلغة تعليمية وصائية على الهدوء وتحويل غضبهم إلى فعل بنّاء وأن الأعمال الاحتجاجية العنيفة ليست الحل. كما أكّد على ضرورة تقبّل جميع الأميركيين قرار تبرئة الشرطي من خلال قوله: "لأننا دولة تقوم على حكم القانون، ويجب أن نقبل بأن هذا كان قرار الهيئة الخاصة"[16].
في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، قُتل صبي عمره 12 عامًا، يُدعى تامير رايس Tamir Rice برصاص شرطي في ولاية أوهايو. كان رايس يلعب في حديقة عامة وبيده مسدس لعبة، وعندما رفض أن يلقي المسدس، أطلق الشرطي النار عليه وقتله. وقد انتشر شريط فيديو للحادثة، لكن الشرطي بُرِّئَ من التهم بحجة أنه كان من الصعب التمييز بين المسدس الحقيقي واللعبة. واكتفى تصريح هيئة المحلفين بالقول إن الحادث كان خطأً بشريًّا، وإن الأدلة لم تشر إلى أي سلوك إجرامي من قبل الشرطة[17].
وأثار مقتل آلتون ستيرلنغ Alton Sterling في 5 تموز/ يوليو 2016، في ولاية لويزيانا، الغضب بعد أن انتشر مقطع فيديو يوثق إطلاق شرطيين النار على ستيرلنغ بعد أن قام أحدهما باستخدام صاعق كهربائي ضده، قبل أن يطلقا عليه النار عدة مرات. وقد طُرِدَ أحدهما من العمل لإدانته بخرق قواعد العمل المتعلقة باستخدام القوة بينما أوقف الآخر عن العمل ثلاثة أيام. مجددًا، وصف أوباما الحادثة بأنها مشكلة الولايات المتحدة، ودعا الشعب إلى التعاون على حلها، وأكّد ثقته بالنظام القضائي الأميركي[18]. ولاحقًا، أثارت حادثة إطلاق عنصري أبيض النار في كنيسة تشارلستون في ولاية جنوب كارولينا، في 17 حزيران/ يونيو 2015، على تسعة من مرتادي الكنيسة من الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية ردود فعل جماهيرية واسعة[19].
وفي عهد دونالد ترامب، قتل منذ عام 2017، حين وصل إلى البيت الأبيض حتى عام 2019، أكثر من 700 شخص من الأميركيين السود على أيدي الشرطة[20].
ففي 29 نيسان/ أبريل 2017، قُتل جوردان إدواردز Jordan Edwards بعد أن أطلق شرطي النار على رأسه في مدينة دالاس في تكساس، زاعمًا أن السيارة التي كان فيها إدواردز كانت تسير إلى الخلف باتجاه الضابط "بطريقة عدوانية". لكن تبيّن العكس بحسب ما أظهره شريط الفيديو المسجّل للحادثة، حيث إن الضابط أطلق النار عندما كانت السيارة "تتحرك إلى الأمام" وليس باتجاه الشرطي[21].
وفي 18 آذار/ مارس 2018، قُتل ستيفون كلارك Stephon Clark (22 عامًا)، في ولاية كاليفورنيا، بعد إطلاق الشرطة النار عليه عشرين طلقة في الساحة الخلفية من منزل جدّته. ادّعى أحد الضباط أنهم كانوا يخشون على حياتهم معتقدين أن كلارك كان مسلحًا؛ إلا أنه كان يحمل هاتفًا محمولًا فقط. أثار نشر شريط فيديو للشرطة عن الحادث احتجاجات كبيرة وانتشر شعار "لا تطلق النار، إنه هاتف محمول" Don't shoot, it's a cell phone. وفي 2 آذار/ مارس 2019، تم الإعلان أنه لن توجه إلى الشرطيين اللذين قتلا كلارك أي تهمة؛ لأن الحقائق لا تدل على أنهما قاما بعمل إجرامي[22].
في 28 آذار/ مارس 2019، قُتل خافيير أمبلر Javier Ambler أثناء مطاردة الشرطة له بالسيارة بسبب مخالفة مرورية طفيفة؛ إذ فشل أمبلر في تعتيم المصابيح الأمامية لسيارته، ما أدى إلى تطوّر الأمر ومطاردته. وبيّن فيديو من وثائق الشرطة نُشر مؤخرًا أن أمبلر لم يقاوم الامتثال لأوامر الشرطة، وأخبرهم أنه يعاني مشاكل في القلب، إلا أن عناصر الشرطة قامت بتقييده بالقوة واستخدام المسدسات الصاعقة أربع مرات، ما أدى إلى وفاته بعد أن أخبرهم بمرضه، وأنه لا يستطيع التنفس[23].
وفي 13 آذار/ مارس 2020، قُتلت بريونا تايلور Breonna Taylor، مسعفة طبية في ولاية كنتاكي، بعد أن اقتحمت الشرطة منزلها من دون سابق إنذار بناءً على أمر تفتيش في إطار مذكرة بحث عن مشتبه فيه في قضية مخدرات في المنطقة. وقد أُصيبت تايلور بما لا يقل عن ثماني رصاصات. لم تُحدِث قضية تايلور أي ضجة أو احتجاجات إلا مؤخرًا. وشرع مكتب التحقيقات الفيدرالي في التحقيق في القضية[24].
ومؤخرًا بعد حادثة جورج فلويد، قامت الشرطة، في 12 حزيران/ يونيو، بقتل ريشارد بروكس Rayshard Brooks بإطلاق النار عليه في موقف سيارات مطعم للوجبات السريعة؛ إذ استدعيت الشرطة بعد أن عطّل بروكس السير، حيث كان نائمًا في سيارته، وبعد أن فشل بالقيام بفحص كشف الثمالة، حاول الهرب، إلا أن عناصر الشرطة قامت بملاحقته وصعقه بالمسدس الكهربائي، ثم أطلقت النار عليه. تظاهر عديد من الناس بعد انتشار الفيديو الذي وثّق الحادثة، وقد أضرم بعض المحتجين النار في مطعم الوجبات السريعة[25].
المعركة على جبهة التمييز العنصري هذه حقيقية ومصيرية. وقد منحها فلويد شرارة من شأنها أن تُشعِل انتفاضة في عصرنا الحديث إذا كانت عناصر نشوبها مكتملة، وهي متمثلة بشريط فيديو مؤثر ودراماتيكي. إن ما يُميّز فلويد من غيره من ضحايا الشرطة في السنوات الأخيرة هو وجود فيلم كامل يوثّق مقتله حتى لحظة لفظِه أنفاسه الأخيرة، وبرودة أعصاب الشرطي الجاثم على رقبته الذي يفتقر إلى أي تعبير إنساني يتلاءم مع ما يقوم به، وتفاقم عنف الشرطة ضد السود، ووجود رئيس يتراكم الاحتقان ضد عنصريته المعلنة مقارنة برئيس سابق كان يهدّئ المتضررين مع أنه متضامن مع قضيتهم في مسلك يعتبره كثيرون انتهازيًا، وأوضاع اقتصادية صعبة بعد وباء كورونا (كوفيد-19). لقد امتدح ترامب حركات العنصريين البيض أكثر من مرة ودافع عنها. وقد ازداد عددها في فترة رئاسة ترامب بنسبة 55 في المئة[26]، واستخف بحياة السود، ويبدو أنه في ماضيه "العريق" رفض هو ووالده تأجير شقق لسود في أبنيتهم كملاك عقارات[27] (هذا من دون التعرّض لـ "ميزاته" الأخرى التي أُسيل بشأنها حبرٌ كثير).
سوف تستمر هذه المعركة وتتخذ أبعادًا أوسع، ولا شك في أن حركة "حياة السود مهمة"، وغيرها من حركات الحقوق المدنية والحركات الديمقراطية في الولايات المتحدة لن تفوّت الفرصة بفتح ملف العنف البوليسي ضد الأميركيين من أصل أفريقي، كما أنها تُلهِم المكافحين ضد العنصرية في مناطق أخرى من العالم.
3. ملاحظة بشأن الصواب السياسي
اللافت أن غالبية المسيرات الاحتجاجية خارج الولايات المتحدة تجري في دول ديمقراطية، وأن دولًا أخرى استبدادية ملوثة بالعنصرية لا تشهد مثل هذه الحركات الاحتجاجية، أو لا تسمح بها، عدا عن أنها لا تعترف بوجود عنصرية فيها أصلًا. وبعض الأنظمة الاستبدادية الذي يقتل من دون حساب، ويعذّب مواطنيه في السجون من دون رقابة أو وازعٍ قانوني، لا يتورّع عن استخدام الأحداث في الولايات المتحدة ليبيّن مرة أخرى ما يسميه "زيف ادعاءات الديمقراطية الغربية".
في دول الشرق الأقصى تصل الشوفينية القومية إلى درجات عالية جدًا، وسبق أن وصلت إليها نظرية الأعراق، لكنها ليست موضوعًا للنضال في المجال العام. وشهدت ميانمار أعمال قمع وتطهير منهجية ومنظمة على أساس عرقي/ ديني ضد الروهينغا في دولة ترأس حكومتها معارضة سابقة وحاصلة على جائزة نوبل للسلام وعلى جائزة ساخاروف لحرية الفكر وغيرها من الجوائز. كما شهدت الهند ارتفاعًا في العنصرية ضد المسلمين. أما ممارسات الصين في حق المسلمين (الأويغور) فتثار خارج الصين فقط. وقد رأينا بعضًا من مشاهد طريقة "استقبال" هنغاريا ودول أوروبية شرقية أخرى، كانت سابقًا اشتراكية، للاجئين السوريين، كما أن موضوع التمييز المتبادل ضد الأقليات الإثنية في دول أوروبا الشرقية أشبع نقاشًا وبحثًا. وتشهد بلدان المشرق العربي تحريضًا دينيًا، أو طائفيًّا/ مذهبيًّا، كما لا يُفاجئك أن يصدح خطيب في أحد المساجد بالتحريض على غير المسلمين بشكل عام. وما زال التعامل بفوقية مع أصحاب البشرة السوداء قائمًا لدى بعض الفئات.
تتركز المعركة ضد العنصرية خارج الولايات المتحدة في دول أوروبا الغربية، ليس بسبب تاريخ الأخيرة الاستعماري السابق فحسب، وإنما أيضًا لأن التوقعات من النظام الديمقراطي مختلفة تمامًا. فابن المهاجر في دول أوروبا الغربية يتوقع حقوقًا كاملة، وإضافة إلى ذلك يتوقع اعتذارًا عن كيفية معاملة الدولة لوالديه ولوطنهما المُستعمَر سابقًا، لأنه نشأ وتعلّم في ظل نظام قانوني وثقافة سياسية ومدنية سائدة تدفعه إلى توقع المساواة من النظام الحاكم والمجتمع، ومحاسبتهما على التناقض بين الواقع والمتوقع.
حصل تقدم كبير في مجال الحقوق الفردية في الغرب في العقود الثلاثة الأخيرة، وتصدّرت المسيرة قضية حقوق المرأة وقضية العنصرية ضد السود في الولايات المتحدة. وسارعت فئات ليبرالية واسعة إلى تبني هذه القضية في الصراع ضد القوى المحافظة. وما لبث جيل آخر من المحافظين أن تكيف مع المنجزات المدنية وانتقل إلى مواقع جديدة؛ إذ تبنّى سياسيوه تعميم الحقوق المدنية والسياسية على المواطنين والمواطنات. وما لبث الاعتراف بحقوق المرأة والسود وغيرهم أن أصبح في أعينهم جزءًا من الثقافة الليبرالية الغربية، والحقيقة أنه لم يكن يومًا كذلك. كما ظلوا مخلصين للحفاظ على قوة الولايات المتحدة ورسالتها التاريخية في العالم (من هذه الناحية لا ينتمي ترامب إلى معسكر المحافظين الجدد، ولا إلى معسكر المحافظين، فهو يميني شعبوي من نوع مختلف).
يختلف المحافظ المعاصر عن المحافظ القديم في أنه أكثر تقبّلًا لفكرة الحقوق الفردية ورفض التمييز على أساس الجنس والعرق وغيره. ولكنه يقبل بالمساواة على أساس الاندماج فحسب، أي من دون فكرة التعددية الثقافية والاعتراف بالحقوق الجماعية التي أصبح قسم كبير من الليبراليين يتقبّلونها بعد أن كانوا يرفضونها رفضًا تامًا. بمعنى أنه في الوقت الذي تقدّم فيه المحافظون نحو قبول أفكار ليبرالية بالمساواة على أساس الاندماج في "الهوية القائمة للدولة وثقافتها" واحترام "تاريخها القومي"، فإن بعض الليبراليين أصبحوا يتقبّلون فكرة الخصوصيات الثقافية أيضًا، بما في ذلك تقبّل ثقافات الجماعات الدينية المختلفة في الولايات المتحدة، والمهاجرين في دول أوروبا الغربية على نحو خاص.
في هذه المرحلة ذاتها تبنّى المثقفون الليبراليون والحركات النسوية وحركات الحقوق المدنية خطاب الصواب السياسي political correctness، الذي يسعى إلى تنقية اللغة من تعابير ومصطلحات يعتبرها أصحاب هذا الخطاب متحجرات عنصرية رسبت في اللغة، وأن استخدامها يفترض أن يحظر اجتماعيًا. والحقيقة أن الأفكار النمطية المسبّقة تركت بصمات كثيرة على اللغة، لكن تداول العديد من الألفاظ المشحونة بالمعاني السلبية ناجم عن الاستخدام المديد. وبعض من يستخدمها لا يقصد معانيها الأصلية. وعلى الرغم من أن الصواب السياسي كان جزءًا مهمًا ضمن المعركة على العنصرية، وآلية مهمة في كبح العنصريين ودفع الفرد والجماعات إلى التفكير في بعض المفردات الرائجة والأسس العنصرية التاريخية لهذه المفردات، أو التعبيرات، فإنها تحولت تدريجيًا لتصبح موضوعًا لذاتها يكاد ينفصل عن الهدف الأساسي الذي ظهرت من أجله. وثقافة الصواب السياسي حين تصبح هدفًا لذاتها تتحوّل إلى نوع من الريبة والشك في الإنسان العادي الذي يصبح موضوعًا للوصاية الليبرالية التي تخاطبه بنبرة وصائية تعليمية، وتكاد تؤنبه على لغته.
تراكم في الدول الغربية في العقد الماضي نوع من الضيق من خطاب "الصواب السياسي" وحُرّاسه والمنافحين عنه الذين بدوا كأنهم يحاسبون الناس على كلامهم، ويقيّدون "حرية التعبير". وبهذا قلب اليمين المتطرف حرية التعبير من عدوٍ لها، إلى أداة يستخدمها ضد "أصحابها" الليبراليين. واستغل اليمين الشعبوي هذا الضيق من خطاب الصواب السياسي وحوّله إلى أحد أهم مصادر التعبئة التي يقوم بها في الغرب ضد الأجانب والأقليات، وفي "فضح" الليبرالية التي تفرط، من منظوره، في هوية البلاد إذ تعترف بالثقافات الأخرى التي تهدد الثقافة المحلية السائدة وهوية الوطن التي نشأ عليها ابن الطبقات العاملة الذي لا يسافر كثيرًا، ولا يتداخل بالثقافات الأخرى.
إن أحد مصادر انتخاب ترامب وصعود اليمين الشعبوي في أوروبا ضد الليبرالية هو هذا الاحتقان وتلك الدعوة الشعبوية للرجال البيض أن يستردوا وطنهم الذي يصور كأنه سُلب منهم لصالح الأقليات والسود والمهاجرين. ومن المهم لأي معركة مُنظّمَة ضد العنصرية - وأتحدث هنا عن الحركات المنظّمَة لا التحركات العفوية - أن تنتبه ألا تستدعي مثل رد الفعل هذا. بمعنى أن الحركة الحالية لحقوق السود ضد عنف الشرطة ومن أجل المساواة أمام الجهاز القضائي يجب ألا تصل إلى حد اعتبار نفسها عملية تطهير تسبر أغوار نفس "المواطن المتوسط" بحثًا عن أفكار تكونت في خفاياه، أو أطلت من لاوعيه في تعبيرات لغوية أو ثقافية، فيطلب منه الاعتراف بعنصريته. كما لا يمكنها أن تفرض عليه مراجعة تاريخ بلاده برمته دفعة واحدة، فهذه المراجعات تحتاج إلى وقت، ولا تجري استجابة للمطالب في مظاهرات. يجب ألا يصبح الاهتمام بالصواب السياسي بمنزلة موضوع لذاته كأنه هو الأساس وليس مدى إسهامه ونجاعته في التصدي للعنصرية.
لا شك في أن تاريخ الدول الرأسمالية الغنية التي كانت دولًا استعمارية يشمل صفحات الاستعمار المشينة. جميعنا يعرف ذلك، كما أنه يحتوي على اضطهاد العمال وتشغيل النساء والأطفال، وحتى على العبودية في بعض المراحل. لكن فيه تطوّر أيضًا النظام الديمقراطي الليبرالي وحقوق المواطن والحريات، كما تدرجت فيه عملية مراجعة متواصلة في الأكاديميات وحتى في الثقافة الشعبية لصفحات من هذا التاريخ. ولكن تاريخ شخصياته ليس بسيطًا أحادي البعد دائمًا، بل تتداخل فيه جميع عناصر الحقبة التاريخية التي عاشوا فيها. فواضعو الدستور الأميركي كانوا يمتلكون عبيدًا، حين لم تقتصر العبودية على الولايات الجنوبية، كما أنهم كانوا بلا شك ذكوريين. ثمّة سياقات تاريخية للثقافة والأيديولوجية، وإسقاط مقاييس العصر الراهن عليها في إطار النضال المطلبي ليس فعلًا نقديًّا حقيقيًّا. الفعل النقدي الحقيقي يكون في مراجعة مواضيع النقد في سياقها التاريخي. فهل أن توماس جفرسون Thomas Jefferson(1743-1826) ، وجون آدمز John Adams (1735-1826) ، وجيمس ماديسون James Madison (1751-1836) مهمّون للثقافة السياسية الأميركية بسبب وضعهم أول دستور ديمقراطي ليبرالي في التاريخ الإنساني (الذي يبدو لنا اليوم منقوصًا)؟ أم تكمن أهميتهم في أنهم كانوا يمتلكون عبيدًا مثل غيرهم؟ ما الذي ميّزهم بالضبط في تلك المرحلة؟ إن دفع المواطن الأميركي المتوسط إلى التساؤل حول هذا الموضوع سيؤدي إلى رد فعل رافض، ويجعله معرضًا للتأثر بدعاية اليمين المتطرف. وبمقدار أهمية نزع الرومانسية والأسطرة عن الشخصيات التاريخية وتقييم دورهم وإنجازهم في سياقها التاريخي من دون تجميل، فإنه من المهم ألا ينشأ وهمٌ أن حل القضايا الحالية يكون من خلال إعادة استحضارهم لمحاكمة أفعالهم ونوياهم. فهذا في حد ذاته يصرف النظر عن معالجة جوهر المشكلة التي تعيد إنتاج ذاتها عامًا بعد عام.
يتقدم النضال المطلبي إلى الأمام عبر تحقيق المطالب العينية المحددة في كل مرحلة ويكمن التحدي في تطبيق القيمة الأخلاقية التي دفعت هذا النضال المطلبي إلى قضايا أخرى لمظلومين. أما تغيير الثقافة فعملية طويلة لا تبدأ ولا تنتهي بهدم تمثال، مع أنني أعتقد أنه لا يضر إزالة بعض التماثيل لشخصيات أبرز ما فيها أنها كانت قد صنعت ثروتها من تجارة العبيد أو أظهرت "شجاعتها" في ملاحقة العبيد الهاربين في الجنوب، أو لشخص أهم ما ميّزه هو النزعة الاستعمارية العنصرية مثل سيسل رودوس Cecil Rhodes (1853-1902). إن رفض تمجيد هؤلاء وتخليد ذكراهم بوصفهم رموزًا وطنية هو أمر مفهوم. لكن ثمّة حالات تختلط فيها الأمور لناحية رؤية المواطن المتوسط لتاريخ بلده ورموزه الوطنية، وإن أكبر خطأ تقوم به هذه الحركات هو تنفير المواطن المتوسط ودفعه إلى أحضان اليمين الديماغوجي الشعبوي.
يخطئ خطاب الصواب السياسي في صيغته المتعصبة مرتين: 1. مرة بخلط التمثيل representation بالواقع، وإيلاء تغيير المصطلحات أهمية أكبر من تغيير الواقع، فيما تستمر العنصرية في الممارسة[28]. كما يتجاوز إحلال التمثيل محل الواقع حدود اللغة بنقله إلى فهم التطورات في الواقع نفسه. فوصول امرأة أو أميركي أفريقي إلى منصب إداري أو وظيفة عليا يعد من منظور "التمثيل" دليلًا كافيًا على تحقيق إنجاز كبير جدًا ضد العنصرية أو التمييز ضد المرأة. ويمكن لأي وصولي أو وصولية أن يقدم تعيينه/ها في منصب بوصفه إنجازًا للسود أو للنساء عمومًا. ماذا نقول في الأميركي من أصل أفريقي الذي يطالب بحقه في أن يقود الشرطة نفسها التي تميّز ضد الأميركيين الأفارقة في ممارستها للعنف؟ لقد ثبت أنه لن يسهم أكثر من سلفه أو خلفه الأبيض في محاربة التمييز العنصري. لا دليل على ذلك. والتجربة في هذا الشأن غير مشجعة. فحتى أوباما رئيسًا للولايات المتحدة لم يسهم أكثر من غيره في مكافحة التمييز ضد السود. معركة المساواة ليست قضية تمثيل، مع أن التمثيل في حد ذاته قد يكون اقتحامًا مهمًا لمجال كان محظورًا على السود أو النساء أو غيرهم. 2. يخطئ التطرّف في خطاب الصواب السياسي بفرض الوصاية على لغة الناس عمومًا وتوبيخهم أو إبداء الاستغراب من "تخلفهم". هذه الممارسات تولّد ردود فعل تضيق بها.
ومن أكثرها عبثية فرض الصواب السياسي على التاريخ نفسه. فإذا أصبح مطلوبًا حظر العنصرية في الفضاء الثقافي والسينما، ومن ضمن ذلك مظاهر دونية المرأة أو الأميركي من أصل أفريقي، فإن هذا لا يعني إسقاط ذلك على التاريخ العنصري نفسه بحيث يصبح السود والنساء أبطالًا في أفلام رعاة البقر ليشاركوا مع المستوطنين البيض في قتل "الهنود" السكان الأصليين. فهذا، عدا إقصاء السكان الأصليين، تزييف للتاريخ وتشويه له. هنا يصل "الصواب السياسي" إلى عكس هدفه؛ إذ ينقّي التاريخ من عنصرية كانت قائمة فيه.
4. استدراك فلسطيني
قُتِلَ جورج فلويد في مينابوليس في 25 أيار/ مايو 2020، وقُتِلَ الفلسطيني إياد الحلاق في 30 أيار/ مايو 2020 في القدس لمجرّد كونه فلسطينيًا. ولم يكن ثمّة سبب لاعتقال الحلاق؛ إذ لم تكن هناك شكوى في حقه، بل اشتبه الجنود الإسرائيليون، وفق روايتهم، أنه يحمل مسدسًا، فتبين أنه لم يكن مسلحًا. وقد أطلقوا النار عليه، كما يبدو، وهو مستلقٍ على الأرض. قام بذلك جنود إسرائيليون في القدس العربية المحتلة، ولم تُثِر الجريمة رد فعل احتجاجي حقيقي، لا في فلسطين ولا في العالم. ومع أن السلطات الإسرائيلية اعترفت بأن ما جرى "خطأ مؤسف"، فإنه لم يُعتَقل شرطي أو جندي واحد، ولم يحاسب أحد على ذلك؛ فعنف أجهزة الأمن الإسرائيلية ضد الفلسطينيين الذي يتجاوز عنف الشرطة الأميركية ضد المواطنين السود كمّا وكيفًا، أمر مُسلَّم به كونهم واقعين تحت الاحتلال وليسوا مواطنين فعلًا. وتاريخيًّا لم ينزل الاحتلال الإسرائيلي عقابًا حقيقيًّا بجنوده على قتل الفلسطينيين حتى إذا كان الفعل غير قانوني بموجب قوانينه هو، وذلك لكي لا يترددوا مستقبلًا في القتل حين يكون "ضروريًا" و"مشروعًا". فما هو "مشروع" يبرر ما هو "غير مشروع" في عرف الاحتلال. وهذا يعني أنه لا معنى لكلمات مثل "قانون" و"شرعية" في ظله.
من ناحية أخرى، قد يُطرح السؤال: متى يقدح ارتكاب السلطات للقتل شرارة الاحتجاجات ضدها؟ كان مقتل الطفل محمد الدرة في 30 أيلول/ سبتمبر 2000 قادحًا لتأجيج انتفاضة كاملة كانت عواملها مكتملة. ومن ثم، قد يستنتج البعض أن الفرق الحاسم هو أن الكاميرات وثقت عملية قتل الدرة كاملة، كما في حالة فلويد، في حين أنه في حالة إياد الحلاق لم يكن هناك من يصور الحدث. لا شك في تأثير التسجيل بالصوت والصورة، وقد كان وقْع مشهد مقتل الدرة في حضن والده صادمًا ومذهلًا فعلًا. لكن عناصر الانتفاضة الفلسطينية الثانية كانت مكتملة منذ فشل مفاوضات كامب ديفيد، وتلاه استفزاز شارون باقتحام المسجد الأقصى. مثلما كان الاحتقان قائمًا في الولايات المتحدة بعد ثلاث سنوات من حكم ترامب وثلاثة أشهر من وباء كورونا. لقد جرى تصوير عملية مقتل أفارقة أميركيين آخرين على يد الشرطة وبثه من دون أن تطلق انتفاضة شعبية. وسابقًا أشعل مقتل ستة عمال فلسطينيين الانتفاضة الأولى في كانون الأول/ ديسمبر 1987 لأن عواملها كانت قائمة. ولم يصور أحد مقتل العمال في حينه.
وكانت الانتفاضة موجهة ضد الاحتلال عمومًا وليس ضد عنف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية فحسب. لم تكن الانتفاضة نضالًا مطلبيًّا. وهذا هو الفرق الرئيس بين مقتل إياد الحلاق وجورج فلويد. فشعب إياد الحلاق لا يريد الاندماج في إسرائيل، وليست لديه تطلعات لمواطنة كاملة في إسرائيل ديمقراطية، ومن ثمّ فهو ليس مصدومًا. إنه يريد رحيل أجهزة الأمن الإسرائيلية وليس تقليل عنفها المتجذّر بنيويًا في الاحتلال ذاته. ونضال الشعب الفلسطيني ضد عنف الشرطة الإسرائيلية ليس مطلبًا ضمن نضال من أجل تحقيق المساواة في دولة ديمقراطية، إنما يعتبر عنف الشرطة ومنظومة القضاء الإسرائيلي معها جزءًا من منظومة الاحتلال.
وحتى العرب الفلسطينيون داخل إسرائيل، أولئك الذين يطالبون بحقوق المواطنة الكاملة في نضالهم المطلبي، لا يريدونها مواطنة وطنية في إطار ثقافة إسرائيلية جامعة، فليس هناك من مطلب أن يكون رئيس أركان عربي أو طيار عربي في الجيش الإسرائيلي، على الرغم من أن بعض الأفراد قد يطمحون إلى ذلك، فالنضال برمته يتجه إلى تحقيق المواطنة في إطار التمايز الثقافي والوطني لسكان البلاد الأصليين، وليس الاندماج في دولة لا ترى نفسها دولة لمواطنيها، وتجسيدًا سياديًا لأمة مواطنية، بل تعبيرًا عن الشعب اليهودي، وتعرّف نفسها ليس فقط بوصفها دولة يهودية، بل أيضًا دولة اليهود (وكثيرون منهم ليسوا مواطنين).
ومع ذلك، يتوقع العرب في الداخل في إطار مطالبهم بالمساواة عنفًا أقل من الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ويطالبون بالتحقيق في تجاوزاتها، ويقارنون أنفسهم بالمواطنين اليهود؛ كما يتوقعون مساواة أمام القضاء في إطار المواطنة. وهذا الفرق بينهم وبين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة في السلوك السياسي والتوقعات ما زال قائمًا. ما زال سلوك الفلسطينيين السياسي في الضفة الغربية وقطاع غزة يتحدد بمشروع الدولة والاستقلال عن إسرائيل، وليس بمشروع المواطنة والمساواة فيها. أما إسرائيل نفسها فتريد الأرض ولا تريد السكان، وتنسف مقومات الدولة الفلسطينية المستقلة، وتقيم نظام فصل عنصري. وهكذا لا يحظى الفلسطينيون بمزايا الدولة المستقلة ولا بمزايا المواطنة المتساوية.
مع ذلك، كان من المفترض أن يثير مقتل إياد الحلاق بدم بارد رد فعل احتجاجيًا يندمج في النضال العالمي القائم حاليًا ضد العنصرية وينخرط فيه، فلا شك في وجود بعد عنصري في قتله. لقد قتل لأنه فلسطيني، ولو كان يهوديًا يحمل سلاحًا (وليس فقط يشتبه افتراءً في حمله) لما قتل. كان من المفترض أن يستدعي قتله من دون سبب الاحتجاج، إن لم يكن على مستوى المطالبة بالمساواة أمام أجهزة الأمن والقضاء الإسرائيلي، فعلى الأقل للمطالبة بزوال الاحتلال. لكن يبدو لي أن بوصلة الحركة الوطنية الفلسطينية تائهة في هذه المرحلة. أما في المجتمع الإسرائيلي فلا وجود لحركة حقوق مدنية حقيقية ذات قواعد اجتماعية ضد العنصرية.
هوامش:
[1] John Locke, “The Second Treatise of Government,” in: John Locke, Two Treatise of Government and a Letter Concerning Toleration, Ian Shapiro (ed.) (New Haven, CT/ London: Yale University Press), pp. 110-116.
[2] Richard Popkin, “The Philosophical Basis of Racism,” in: Richard Popkin, The High Road to Pyrrhonism, Richard A. Watson & James E. Force (eds.) (IndianaPolis, IN: Hackett, 1993), pp. 79-80.
[3] Angel Losada, “The Controversy between Sepuvelda and Las Casas in the Junta of Valldolid,” in: Bartolimé de las Casas in History: Toward an Understanding of the Man and his Work, Juan Friede & Benjamin Keen (eds.) (Dekalb, IL: Northern Illinois University Press, 1971), pp. 279-309.
[4] Henry Steele Commager & Elmo Giordanetti, Was America a Mistake? An Eighteenth-Century Controversy (New York: Harper & Row, 1967), p. 90.
[5] وليست الأحكام "العقلانية" حول العلاقة بين الصفات الجسدية وتأثيرها في العقل والنفس والتضاريس الطبيعية والمناخ جديدة؛ إذ نجدها عند مونتسكيو وغيره من مفكري التنوير مثلما نجدها عند رحالة مسلمين ربطوا بين صفات الناس وبيئتهم الطبيعية والمناخية.
[6] سبق أن تطرقت إلى الموضوع أعلاه وأسميته علمنة العنصرية، والإحالات عن المعلومات الواردة حول تطور التفكير العنصري ترد في: عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، ج 2، مج 1: العلمانية والعلمنة: الصيرورة الفكرية (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015)، ص 478-489.
[7] كما في حالة جون رولز John Rawls (1921-2002) ورونالد دووركين Ronald Dworkin (1931-2013) وغيرهما ممن فكروا في نماذج لتحقيق العدالة في إطار ديمقراطي ليبرالي وليس التنظير لعدالة فلسفية كونية.
[8] على سبيل المثال، وبحسب استطلاع نُفّذ قبل شهر من مقتل جورج فلويد، تُشير البيانات إلى أن أغلبية الأميركيين (78 في المئة) لديها ثقة بعناصر الشرطة، في حين أن 56 في المئة فقط من السود عبّروا عن ثقتهم بالشرطة، وهذه النسبة أقل بين فئة الشباب من السود. كما أن النسب شبيهة عند تقييم المستجيبين المعايير الأخلاقية للشرطة؛ إذ إن أغلبية الأميركيين قيّموها بنسب عالية، في حين أن نحو نصف السود فقط قيّموها بشكل عالٍ، وكانت الأقل بين الشباب السود. وتُبيّن الإحصاءات والبيانات المختلفة الفروقات في تعامل الشرطة والنظام القضائي مع الأميركيين السود مقارنة بالبيض. فعلى الرغم من أن عدد الأميركيين البيض الذي قتلوا على أيدي الشرطة منذ عام 2015 وحتى 12 حزيران/ يونيو 2020 (2473 قتيلًا) هو ضعف عدد القتلى من الأميركيين السود (1296 قتيلًا)، فإن معدل القتلى من نسبتهم في المجتمع يختلف جذريًا؛ إذ تُمثل نسبة القتلى البيض على أيدي الشرطة ما معدّله 13 قتيلًا لكل مليون من الأميركيين البيض (197 مليون نسمة) مقابل 31 قتيلًا لكل مليون من الأميركيين السود (42 مليون نسمة). كما أن الأميركيين السود يُمثلون نسبة عالية من المساجين أعلى بأضعاف من نسبتهم من مجموع سكان الولايات المتحدة؛ فبحسب بيانات مكتب إحصاءات وزارة العدل الأميركية في عام 2018 تبيّن أن 32.9 في المئة من السجناء هم من السود في حين أن نسبتهم في المجتمع الأميركي هي 12.3 في المئة. في المقابل، فإن نسبة المساجين البيض بلغت 30.4 في المئة على الرغم من أن نسبتهم من المجتمع الأميركي تتخطى 60 في المئة. كما أن الرجال السود ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و19 سنة هم أكثر عرضة للسجن بنحو 13 ضعفًا مقارنة بأقرانهم من البيض، وفي المجمل، فإن الرجال السود من جميع الأعمار هم أكثر عرضة للسجن من أقرانهم البيض بحوالى 6 أضعاف. هذا عدا عن عدم المساواة في المعاملة التي يلقاها الأميركيون السود في النظام القضائي؛ إذ من المرجح أن يتم توقيف الأميركيين السود بتهم تتعلق بالمخدرات بدرجة أعلى بكثير من الأميركيين البيض، على الرغم من أن نسب تعاطي المخدرات فيما بينهما متقاربة. فضلًا عن أن احتمالية رفض الإفراج عنهم بكفالة هي أعلى من المتهمين البيض، وهم أكثر عرضة لتوجيه اتهامات وأحكام أكثر شدّة من المتهمين البيض الذين ارتكبوا الجناية أو الجرم نفسه.
E. Ann Carson, “Prisoners in 2018,” U.S. Department of Justice, Office of Justice Programs, Bureau of Justice Statistics, Bulletin (April 2020), p. 17, accessed on 15/6/2020, at: https://bit.ly/2UMpG6w; “Report to the United Nations on Racial Disparities in the U.S. Criminal Justice System,” The Sentencing Project, 19/4/2018, accessed on 15/6/2020, at: https://bit.ly/3frnQ2H; “Fatal Force: 1,027 People have been Shot and killed by Police in the Past Year,” The Washington Post, 15/6/2020, accessed on 15/6/2020, at: https://wapo.st/3fsK3xk; Hannah Gilberstadt, “A Month before George Floyd’s Death, Black and White Americans Differed Sharply in confidence in the Police,” Pew Research Center, Fact Tank, 5/6/2020, accessed on 15/6/2020, at: https://pewrsr.ch/2YBVrAm
[9] Ed Lavandera, “Questions Surround Shooting of Baseballer's Son,” CNN, 8/1/2009, accessed on 14/6/2020, at: https://cnn.it/2Y0Eu3v; Cameron Langford, “Police Shooting Trial Ends with Surprise Settlement,” Courthouse News Service, 15/9/2015, accessed on 14/6/2020, at: https://bit.ly/2YBTeVs; James C. McKinley Jr., “Texas Officer Is Acquitted in Shooting,” The New York Times, 11/5/2010, accessed on 14/6/2020, at: https://nyti.ms/3e2M8Qt
[10] Demian Bulwa, “BART's Shooting Probe Missteps,” San Francisco Gate, 30/1/2020, accessed on 14/6/2020, at: https://bit.ly/2AsXoHo; Sam Levin, “Officer Punched Oscar Grant and Lied about Facts in 2009 Killing, Records Show,” The Guardian, 2/5/2019, accessed on 14/6/2020, at: https://bit.ly/2UMBmpY; Dakin Andone & Marlena Baldacci, “Officer Instigated then Lied about Actions that Led to Shooting Death of Oscar Grant, Report Says,” CNN, 4/5/2019, accessed on 14/6/2020, at: https://cnn.it/2MWicJP
[11] Fredrick Harris, The Price of the Ticket: Barack Obama and Rise and Decline of Black Politics (Oxford, NY: Oxford University Press, 2012) p. 174.
[12] تأسست هذه الحركة في عام 2013 في الولايات المتحدة الأميركية بعد أن انتشر هاشتاغ #BlackLivesMatter في وسائل التواصل الاجتماعي عقب محاكمة زيمرمان وتبرئته من تهمة قتل ترايفون مارتن.
[13] Wesley Lowery, “Trayvon Martin was Shot and Killed Three Years Ago Today,” The Washington Post, 26/2/2015, accessed on 14/6/2020, at: https://wapo.st/37tjfKC; Leo Benedictus, “How Skittles Became a Symbol of Trayvon Martin's Innocence,” The Guardian, 15/7/2013, accessed on 14/6/2020, at: https://bit.ly/3hqA4KN; The White House, Office of the Press Secretary, “Statement by the President,” 14/7/2013, accessed on 14/6/2020, at: https://bit.ly/3fquzdc
[14] Joseph Goldstein & Marc Santora, “Staten Island Man Died From Chokehold During Arrest, Autopsy Finds,” The New York Times, 1/8/2014, accessed on 14/6/2020, at: https://nyti.ms/2Y1i4yS; Vivian Ho, Peter Fimrite & Kale Williams, “Oakland, S.F. Protesters Denounce Police Killing of Eric Garner,” San Francisco Chronicle, 3/12/2014, accessed on 14/6/2020, at: https://bit.ly/3e4La62
[15] عائشة البصري، "حين خذل أوباما الأميركيين السود"، العربي الجديد، 14/6/2020، شوهد في 14/6/2020، في: https://bit.ly/37yt4XJ؛
Tanya Somanader, “President Obama Delivers a Statement on the Grand Jury Decision in the Death of Eric Garner,” The White House, 3/12/2014, accessed on 14/6/2020, at: https://bit.ly/30GPUej
[16] Eliott C. McLaughlin, “Despite Discrepancies, Dorian Johnson Consistent in Accounts of Brown Shooting,” CNN, 16/12/2014, accessed on 14/6/2020, at: https://cnn.it/3hpM7YS; Rachel Clarke & Mariano Castillo, “Michael Brown Shooting: What Darren Wilson Told the Ferguson Grand Jury,” CNN, 26/11/2014, accessed on 14/6/2020, at: https://cnn.it/2UM1kK5; Jon Swaine, Paul Lewis & Dan Roberts, “Grand Jury Decline to Charge Darren Wilson for Killing Michael Brown,” The Guardian, 25/11/2014, accessed on 14/6/2020, at: https://bit.ly/3dYDEd3
[17] Elahe Izadi and Peter Holley, “Video Shows Cleveland Officer Shooting 12-Year-Old Tamir Rice Within Seconds,” The Washington Post, 27/11/2014, accessed on 15/6/2020, at: https://wapo.st/3d4S22b; Ashley Fantz, Steve Almasy & Catherine E. Shoichet, “Tamir Rice Shooting: No Charges for Officers,” CNN, 29/12/2015, accessed on 15/6/2020, at: https://cnn.it/2Y6OpEO
Ashley Cusick, Abigail Hauslohner & Sarah Larimer, “‘Murder, plain and Simple’: Grief in Baton Rouge Days after Alton Sterling Shooting,” The Washington Post, 8/7/2016, accessed on 15/6/2020, at: https://wapo.st/2UOBJjF; Jason Hanna “No Charges Against Officers in Alton Sterling death; Other Videos are Coming,” CNN, 27/3/2018 accessed on 15/6/2020, at: https://cnn.it/2Ba81ig; Nora Kelly Lee, “President Obama: ‘This is an American Issue that we Should All Care about’,” The Atlantic, 7/7/2016, accessed on 15/6/2020, at: https://bit.ly/3d5noph
[19] Nick Corasaniti, Richard Pérez-Peña and Lizette Alvarez, “Church Massacre Suspect Held as Charleston Grieves,” The New York Times, 18/6/2015, accessed on 15/6/2020, at: https://nyti.ms/3hski2b; Sarah Pulliam Bailey, “The Charleston Shooting is the Largest Mass Shooting in a House of Worship since 1991,” The Washington Post, 18/6/2015, accessed on 15/6/2020, at: https://wapo.st/3e5AyE5
[20] “Fatal Force: 986 People were Shot and Killed by Police in 2017,” The Washington Post, accessed on 15/6/2020, at: https://wapo.st/3e7qbjc; “Fatal Force: 991 People were Shot and Killed by Police in 2018,” The Washington Post, 1/6/2020, accessed on 15/6/2020, at: https://wapo.st/3hz6ItZ; “Fatal Force: 1,002 People were Shot and Killed by Police in 2019,” The Washington Post, 13/6/2020, accessed on 15/6/2020, at: https://wapo.st/37w40Ri
[21] Liam Stack & Christine Hauser, “Police Account Changes in Killing of Texas 15-Year-Old,” The New York Times, 1/5/2017, accessed on 15/6/2020, at: https://nyti.ms/3d9WRaq
[22] “Stephon Clark: Protests over Police Shooting Shut NBA Arena,” BBC, 23/3/2018, accessed on 15/6/2020, at: https://bbc.in/30MCNsi; Jose A. Del Real, “No Charges in Sacramento Police Shooting of Stephon Clark,” The New York Times, 2/3/2019, accessed on 15/6/2020, at: https://nyti.ms/2YBoFiF
[23] The Associated Press, “Body Camera: Dying Man Pleads ‘Save Me’ During Taser Arrest,” The New York Times, 9/6/2020, accessed on 15/6/2020, at: https://nyti.ms/2YD8SjA
[24] Richard A. Oppel Jr. & Derrick Bryson Taylor, “Here’s What You Need to Know About Breonna Taylor’s Death,” The New York Times, 5/6/2020, accessed on 15/6/2020, at: https://nyti.ms/30NG9eC
[25] Artemis Moshtaghian, et al., “Atlanta officer who fatally shot Rayshard Brooks has been terminated,” CNN, 5/6/2020, accessed on 15/6/2020, at: https://cnn.it/2N0TVCp
[26] Rosie Gray, “Trump Defends White-Nationalist Protesters: ‘Some very Fine People on Both Sides’,” The Atlantic, 15/8/2017, accessed on 15/6/2020, at: https://bit.ly/3forLNG; Jason Wilson, “White Nationalist Hate Groups have Grown 55% in Trump Era, Report Finds,” The Guardian, 18/3/2020, accessed on 15/6/2020, at: https://bit.ly/37ycc3r
[27] ينظر مقال توني شفارتس الذي كتب مع ترامب كتاب فن الصفقة The Art of the Deal:
Tony Schwartz, “The Psychopath in Chief,” Medium, 28/5/2020, accessed on 15/6/2020, at: https://bit.ly/2YG07VW
[28] تعزّز ذلك بنشوء تيارات فلسفية تعتبر كون التمثيل واقعًا، وأنه يخلق واقعًا أيضًا (وهذا صحيح عينيًا) مبررًا للخلط عمومًا بين التمثيل الرمزي والواقع الذي يمثله.
المراجع:
العربية
بشارة، عزمي. الدين والعلمانية في سياق تاريخي، ج 2، مج 1: العلمانية والعلمنة: الصيرورة الفكرية. الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015)، ص 478-489.
الأجنبية
Bartolimé de las Casas in History: Toward an Understanding of the Man and his Work. Juan Friede & Benjamin Keen (eds.). Dekalb, IL: Northern Illinois University Press, 1971.
Carson, E. Ann. “Prisoners in 2018.” U.S. Department of Justice. Office of Justice Programs. Bureau of Justice Statistics. Bulletin (April 2020). at: https://bit.ly/2UMpG6w
Commager, Henry Steele & Elmo Giordanetti. Was America a Mistake? An Eighteenth-Century Controversy. New York: Harper & Row, 1967.
“Fatal Force: 1,002 People were Shot and Killed by Police in 2019.” The Washington Post. 13/6/2020. at: https://wapo.st/37w40Ri
“Fatal Force: 986 People were Shot and Killed by Police in 2017.” The Washington Post. at: https://wapo.st/3e7qbjc
“Fatal Force: 991 people were shot and killed by police in 2018.” The Washington Post. 1/6/2020. at: https://wapo.st/3hz6ItZ
Gilberstadt, Hannah. “A Month before George Floyd’s death, Black and White Americans Differed Sharply in Confidence in the Police.” Pew Research Center. Fact Tank. 5/6/2020. at: https://pewrsr.ch/2YBVrAm
Harris, Fredrick. The Price of the Ticket: Barack Obama and Rise and Decline of Black Politics. Oxford, NY: Oxford University Press, 2012.
Locke, John. Two Treatise of Government and a Letter Concerning Toleration, Ian Shapiro (ed.). New Haven, CT/ London: Yale University Press.
Popkin, Richard. The High Road to Pyrrhonism, Richard A. Watson &James E. Force (eds.). IndianaPolis, IN: Hackett, 1993.
“Report to the United Nations on Racial Disparities in the U.S. Criminal Justice System.” The Sentencing Project. 19/4/2018. at: https://bit.ly/3frnQ2H
The White House. Office of the Press Secretary. “Statement by the President.” 14/7/2013. at: