مهدي جعفر
تعتبر ظاهرتي الدين والعلمانية من أكثر الظواهر التي تمّت مدارستها في العلوم الإنسانية في القرنين الأخيرين، خصوصًا في حقل الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، إذ لم تتوقف بعدُ عجلةُ الأبحاثِ حول هذين الظاهرتين إلى اليوم، ولعلَّ ذلك ما قد يفسر الشعور بالافتقار العلمي إلى فهم وتفسير شبه تفصيلي لكل من الدين والعلمانية. وهو ما يحفز إلى مزيد من المُدارسة والتنقيب بشأن هاتين الظاهرتين.
ولا نحتاج إلى كبير عناء للتدليل والإشارة إلى حُضوة الدين وأهميته وتأثيره الشامل في المجتمعات الإنسانية منذ سالف الأزمان، ولا تقل الظاهرة السياسية وسعة أشكال ممارساتها (كالعلمانية) أهمية وتأثيرًا في المجتمعات البشرية، وذلك ما يمنح أهمية موازية للدين والسياسة في حقل العلوم الاجتماعية لأن فهم المجتمع بكل حقوله (الدين، السياسة، الاقتصاد، الفن، العلم) لا يمكن أن يتجاوز النظر في ثقافة الشعوب التي تحملها بقدر كبير أديانها وأنماط سياساتها.
في هذا السياق يبرز المنجز الفكري للدكتور “عزمي بشارة” الصادر في ثلات مجلدات وقعت فيما يقارب 2000 صفحة، تحت عنوان “الدين و العلمانية في سياق تاريخي” إذ يشكل هذا العمل سابقة في تاريخ التعاطي مع الظاهرة الدينية والعلمانية في المجال التداولي العربي، حيث تمّت قراءة كل من الظاهرتين في السابق بكل أنواع الاعتساف المنهجي والفكراني؛ وهذا ما أنتج تراثًا فكريًا عربيًا يتعاطى مع الدين والعلمانية وفق إملاءات حزبية و أيديولوجية، وذلك ما يمنح لعمل المفكر الفلسطيني “عزمي بشارة” الدارس في ألمانيا و المقيم في قطر، أهميةً لا نظير لها في هذا الحقل العلمي، نظرًا لتعاطيه العلمي و الموضوعي مع الظاهرتين المدروستين، وإن كان، مع الأسف، إلى الآن لم يتفاعل الباحث و القارئ العربي مع هذا المشروع، إن لم يكن جاهل بوجوده أصلًا، لذلك فإن هذه الورقة تتحدد في إطار التعريف أولًا بهذا العمل، إضافة إلى عرض وتحليل بعض مضامينه في أفق استخدامه في قراءة الوضع الراهن للظاهرة الدينية والعلمانية في العالم المعاصر عربيًا و دوليًا.
فإن موسوعة الأكاديمي الفلسطيني “الدين والعلمانية في سياق تاريخي” تتكون من ثلاث مجلدات في جزئين وينتظر أن تُستكمل بمجلدات أخرى، وهي كالتالي:
الجزء الأول/المجلد الأول- “الدين و التدين” في 498 صفحة.
الجزء الثاني/ المجلد الأول “العلمنة و العلمانية الصيرورة الفكرية” في 915 صفحة.
الجزء الثاني/المجلد الثاني تحت عنوان “العلمانية و نظريات العلمنة” في 482 صفحة.
وإذا أردنا إجمال أطروحة الموسوعة قلنا إنها: استقصاء تاريخي للظاهرة الدينية وما احتبل بها من أساطير وقيم وأنساق معرفية، وتاليًا تتبع السياقات التاريخية لنشوء العلمانية (متى وكيف ظهرت) وأشكال تفاعلها مع الدين و الثقافة في مجتمعات القرون الوسطى والعصر الحديث والفترة المعاصرة، كل ذلك بإزاء عرض وتحليل ونقد مُعظم النظريات التي ظهرت في حقل الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والعلوم السياسية بشأن الظاهرتين، مع تقديم في الأخير نموذج نظري مُبتكر من طرف عزمي بشارة لمقاربة الظاهرة الدينية والعلمانية في سياقها التاريخي وفي تجلياتها المعاصرة.
و تاليا تفصيل بعض أفكار و منظورات هذا العمل:
1- الجزءالأول/المجلد الأول- “الدين و التدين”:
استهل عزمي بشارة دراسته كما هو سائد في البحوث العلمية المحكمة بتحديد المفاهيم والمصطلحات وتفريعاتها الدلالية، و هذا لوحده اقتطع من الموسوعة 498 صفحة، ابتدأ بظاهرة الدين وهي الأصل حيث تجنب تاريخ ظهورها إذ تعامل معها على أنها شكل ثقافي قديم وسائد في جميع المجتمعات، وبالتالي بحث عزمي بشارة فيما يتواشج مع الدين كالأسطورة والأخلاق والسحر، كل ذلك كي يحدد بالضبط بمنهج سوسيوتاريخي ما هي الظاهرة الدينية؛ هل هي منظومة أخلاقية؟ أم ممارسة ومنظور سحري للعالم؟ أم بنية تحتية من ثقافات الشعوب تتكون بشكل أساسي من الأساطير و السرديات الرمزية؟
لينتهي الباحث بذلك إلى أن الدين هو كل هذه الظواهر التي ذكرت أعلاه، ومصدر لها أو تفريعات عنها، كما أن للدين وجه ثقافي وكوني، مع بعض الفروقات والخصوصيات التي يتميز بها كل دين عن آخر “1”، إلا أن كل الأديان تشترك في نفس البِنى، وإذا أردنا الإِمتاح من مَعين عِلم الأديان للتدليل على ذلك لوجدنا أهل هذا الفن يحددون أربعة مكونات تشترك في حيازتها كل ديانات البشرية، هذه المكونات هي: الأسطورة- الطقس- المعتقد- السرديات، النهائية الكبرى أو الإسكاتولوجيا، أي الإخبار بنهاية الحياة بالنسبة للفرد والعالم بالنسبة للبشرية وما بعد ذلك من أحداث “2”
فيما بعد انتقل الباحث إلى ظاهرة “التدين” مفككًا عناصره ودلالته وأشكال حضوره في المجتمعات الإنسانية، مبرزًا التقاطعات والخصوصيات التي ميزت التدين حسب فترات التاريخ وتعدد الأديان “3” وبالنظر إلى المقاربة السوسيولوجية التي اعتمدها عزمي بشارة في عمله هذا، فذلك يقتضي بالضرورة الفصل بين الدين والتدين، إذ أن علم الاجتماع و الأنثروبولوجيا لا يدرسان الدين في الواقع كرسالة معيارية روحية، و إنما يدرسان “التَّدين” أي الشكل الاجتماعي للدين، لذلك عرفه ع.بشارة باعتباره “ليس التجربة الأولية للمقدس، بل هو أيضًا نفيها، ونفيها هو الذي يصنع الدين باعتباره ظاهرة” “4”، أي أن التدين هو من يخلق من الدين ظاهرة اجتماعية تاريخية و كونية، وهو ما يجعله بالتبع قابلًا للدراسة العلمية، و بذلك فالدين يجسد الدافع الحيوي والرمزي، والتدين يمثل الشكل الاجتماعي الذي يسعى إلى الاستحواذ والسيطرة على الأول حسب جورج زيمل “5”، أو كما يقول لنا في نفس السياق “بول تيليش Paul Tillich” بأن التدين يتجسد في أَجَّل مظاهره في الوظيفة الجمالية للروح البشرية المتمثلة في الرغبة المطلقة في التعبير عن المعنى النهائي للوجود” “6” وهذا التعبير يجد نفسه في الممارسة اليومية، بما أن تيليش -حسب ما أفاد به “جوناثان سميث”- كان مهتما بدراسة الطقوس خصوصًا طقوس عبادة الأصنام (التديُّن)، لذلك فإنه قدم تعريفًا في الواقع للتدين في أعمق أبعاده “7” وهذا ما يضيف عنصرًا مهما لتعريف التدين الذي انتهى إليه ع.بشارة.
بعد ذلك في الفصل الثالث قام ع.بشارة بعرض نقدي للنظريات الفلسفية والسوسيولوجية لكبار المفكرين الغربين منذ كانط حتى ماكس فيبر، إذ رد على هذا الأخير في اعتباره أن الدين يناقض ويعرقل سيرورة الحداثة “8”، و هو ما نقده ع.بشارة بتبيان أن هذا التناقض وهمي لأن مدار اشتغال الدين هو في أصله خارج مدار نفوذ الحداثة، فهذا في طبقة والحداثة في أخرى، غير أن هذا النقد الذي قدمه بشارة حسب وجهة نظري بعيد عن الواقع، إذ أن الدين يخترق كل مستويات المجتمع و بإزاءه تنفذ فاعلية الحداثة، وهو ما يؤدي إلى تصادمهما بشكل حتمي، والتجربة الأوربية خير شاهد، فإن حصل و تقوت شوكة الدين شموليًا في المجتمع و سادت سطوته في نسختها التقليدية والأصولية، فإنه بالقطع يعيق مسيرة التقدم والحداثة، والدليل العيني على ذلك الدول الإسلامية الناطقة باللغة العربية.
ثم يعرج مدير المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات إلى المفهوم الأساسي للدراسة، وهو مفهوم “العلمانية”، وفيه قدم تعريفًا ومنظورًا جديدًا كليًا لهذا المفهوم خصوصًا في التداول الفكري العربي، إذ أن أغلب المفكرين العرب يربطون العلمانية بالكنيسة المسيحية ودورها التخريبي وحدِّها من الحريات وتضييقها على الحركة العلمية في أوربا “9”، و بذلك انتهى الأوربيون إلى فصلها عن أكثر حقل اجتماعي له تأثير قوي وسلطة على باقي الحقول وهو السياسة، أما ع.بشارة من جهته قد تجاوز هذه التفسيرات الاختزالية الضيقة واعتبر العلمانية هي الانفصال الذي يقع بين حقلين اجتماعيين أو ثقافيين في سياق التاريخ، كانفصال الدين عن الخرافة، انفصال الفلسفة عن الأسطورة، انفصال الدين عن العلم، انفصال الاقتصاد عن السياسة المحلية (بالذات)، انفصال الفن عن التقاليد القديمة وغيرها، أي أن العلمانية -وفق هذا المنظور- هي “انفصال عنصرين اجتماعيين أو ثقافيين عن بعضهما، في السبيل الذي يجعل لكل منهما استقلالية ذاتية انطلاقًا من مرجعيته الخاصة التي تتطور في دخلانيته، الشيء الذي ينفي حاجته إلى مرجعية بنائية تقع خارج حقله الاجتماعي”.
ولضرب الأمثال على ذلك وجد بشارة التاريخ غاصًا و مليئًا بهذه النماذج، فمثلًا تعتبر اللحظة التاريخية التي انفصل فيها التفكير الفلسفي اليوناني عن التفكير الأسطوري (الذي كان مرجعًا لأي تفكير آنئذٍ) لحظة تاريخية علمانية، إذ لم يصبح للتفكير الأسطوري أي أهمية خارج نسقه الديني الخاص، على الأقل في حقل الفلسفة، حيث أصبح هذا الحقل الوليد مستقلًا عن أي مرجعية تقع خارج الفلسفة و العقل.
و يمكن أن نضيف إلى ذلك مفهوم الله نفسه كمفهوم خضع لعلمنة روحية لو جاز التعبير، و بيان ذلك يقع في أحداث تاريخ هذه الفكرة، فالبشرية ابتدأت تؤمن بتعددية في ملكوت الآلهة، هذه الأخيرة كانت محايثة للعالم الأرضي، غير أنه ومع ظاهرة “التوحيد” منذ الديانة الزرادشتية، سوف تتوحد هذه القوى الرمزية (الآلهة) في شخص مفهومي واحد هو “الله”، بإزائه سوف يبتدئ الله في الانقطاع عن المحايثة للبشر وللأرض ويصعد إلى السماء تدريجيا، إلى أن يغيب فيها كليا مع الإسلام، و هذا يعتبر حدثًا ثقافيًا علمانيًا إذ أصبح الله منفصلًا عن الأرض والتشبيه والمحايثة، وأصبحت له خصائص امتدت له من غير الأديان القديمة (كمرجعية لهذا المفهوم)، وأصبح مفهومًا جديدًا بمرجعية الأديان التوحيدية المنفصلة عن مرجعية الأديان الوثنية التعدية، وبذلك يظهر أنه ليس فقط مفهوم الإله التوحيدي هو المعلمن عن أصله القديم، بل حتى الأديان التوحيدية تعتبر أديانًا معلمنة ضد امتداد أديان التعدد “10”، أي أنها شكلت مرجعية خاصة بها لشرعنة عقائدها منفصلة عن مرجعية أديان التعدد.
غير أن هذه السيرورة التاريخية، في أي اتجاه تسلك على المستوى الاجتماعي؟
الحاصل من قراءة مشروع ع بشارة يؤكد بأن العلمانية تبدأ في حقل الثقافة والقيم، خصوصًا في طريقة التفكير والنظر إلى الذات والآخر والعالم، فحينما تنفصل هذه النظرة عن نظرة الأجداد ونسقهم الثقافي، إلى الحد الذي يصبح فيه كل جيل يشترك في وعي يتحدد في استقلاله الفكري وضرورة مواكبة إنتاجه الثقافي لمستجدات الواقع الاجتماعي فإن ذلك يعتبر بداية العلمنة، التي هي بحق انقطاع عن السابق أو القديم وبناء ما هو مستقل ومستحدث باستمرار، دون التنكر طبعًا للقديم الذي يعتبر ذاكرة ثقافية وتراثًا وليس مرجعية آنية للقيم والثقافة والتنظير للواقع خصوصًا المادي، هكذا عندما تتعلمن الثقافة، يصل الأثر إلى كل حقول المجتمع (دين- علم- سياسة- اقتصاد- فن- قيم- …)، فيحدث استقلال كل هذه الحقول عن بعضها البعض، فتصبح مرجعية لذاتها، و بذلك لا يعود الدين مثلًا مرجعية للسياسية، بل تصبح السياسة مرجعية لنفسها، و قل ذات الشيء عن الدين.
من جهة أخرى لا يعود العلم في حاجة إلى مرجعية خارج حقله وإنما مرجعيته يحددها العُلماء والإبستيمولوجيون (عُلماء العِلم)، وليس كما كان في القرون الوسطى حيث كان العلم ممتزجًا بالدين ولا يُعترف به إلّا انطلاقًا من تأكيده لأطاريح الأديان، فمنذ أن انفصل العلم الحديث عن الدين، صارت مرجعيته تتحدد داخل ميدان اشتغاله وهو الماديات، وبذلك انقطعت الروحانيات عن توجيه نتائجه و نظرياته باعتبارها مرجعية غير علمية.
وهكذا فسيرورة العلمنة تبتدئ من الثقافة وتمر على حقول المجتمع لتصل لأهمها وهو حقل السياسة، فلا توجد علمنة تبتدئ من السياسة مباشرة “11”، بل إن ذلك مستحيل إذا لم تتوفق العلمنة في حقل الثقافة والعلم ونظرة الأفراد إلى الواقع أولًا وانحسار تراث أجدادهم الرمزي والمادي في حياتهم العملية (رغم وجود مسارات عكسية ناجحة في بعض التجارب مثل اليابان إلا أنها مناقضة للمسار الأوربي للعلمنة)، أما العلمانية السياسية فهي آخر مظاهر هذه السيرورة، بل هي ثمرتها، و بالتالي فالعلمانية سيرورة تاريخية عرفتها كل المجتمعات بوتائر ودرجات مختلفة، إذا لم تعرفها سياسيًا فإنها عرفتها ثقافيًا حتمًا، و إن كان وطء ذلك خفيف على بعض المجتمعات.
هكذا يرى ع.بشارة أنه لا داعي لإنكار وجود العلمانية في المجتمعات الإنسانية كافة في شتى مستوياتها وحقولها، بل يعتبر بشارة أن فهم الدين والتدين لم يعد مستقلًا بل لم يعد ممكنًا دون فهم سيرورات العلمنة التي تتعرض لها المجتمعات الإنسانية خصوصًا في الفترة المعاصرة “12”، و لتقديم أحد وجوه هذا الاعتبار نحيل إلى الدراسة التي قام بها السويسري “باتريك هاني” المعنونة بـ”إسلام السوق”، و التي يوضح فيها أن الاقتصاد الرأسمالي أحدثَ تحولات واضحة في أنماط التدين الإسلامي، إذ انصرفت مجموعة من الماركات التجارية إلى توضيف إشارات إسلامية في نشاطها الاقتصادي، و هو ما سهل وصول سلعتها إلى الزبناء، إذ أصبح سائدًا في المجتمعات الإسلامية ما يسمى بالبوركيني (لباس البحر الإسلامي)، الأغنية الإسلامية، بل حتى الألعاب الإسلامية (كـ فُلَّة عوض Barbie باربي الكافرة)، هكذا ثم استحداث أنماط جديدة للتدين وقعت في أثر أحد وجوه العلمانية المعاصرة وهو الاقتصاد الرأسمالي “13”.
إضافة إلى ذلك فقد وقف باحثو دراسة الإسلام اليومي L’ISLAM AU QUOTIDIEN في المغرب إلى أن الوسائط الإعلامية بالنسبة للمبحوثين هي أول مصدر للمعلومة الدينية (خصوصًا النساء)، و ذلك ما أحدث تحولات في أنماط تدين المسلمين بعد الثورة الإعلامية منذ ثمانينات القرن الماضي “14”، ما يفيد بكل وضوح بأن أنماط التدين لم يعد في الإمكان فهمها دون فهم موجات العلمنة التي تَفِد على المجتمعات المعاصرة.
2- الجزء الثاني/المجلد الأول- “العلمنة والعلمانية الصيرورة الفكرية”:
و هو أضخم أجزاء هذه الموسوعة إذ اقتطع منها أكثر من 900 صفحة، ووسَّع فيه عزمي بشارة تحليل مفهوم العلمانية من خلال فصله عن مفهوم العلمنة، كما أنه غطى بشكل بارع مختلف التحولات الاجتماعية والسياسية في أوروبا منذ العصر الوسيط، إلى أن انتهت إلى وصول العلمنة إلى حقل السياسة في الفترة المعاصرة، إذ أن العلمانية السياسية لم يُعترف بها دستوريًا في فرنسا مثلًا إلّا سنة 1905م، ولم تطبَّق فعليًا إلّا بعد الحرب العالمية الثانية حسب “أوليفييه روا” “15”، أي أن ما يوجد قبلها هو سيرورة تاريخية كانت تتوجه باتجاه هذه النتيجة.
استنتج ع.بشارة في هذا الجزء أن العلمانية لفظ وصفي وأن مضمونه وما يعبر عنه وجد قبله بقرون، أي أن الظاهرة العلمانية وجدت في التاريخ قبل أن يتنبه إليها البشر ويطلقوا عليها هذه الكلمة “16”، ما يضفي الكونية على الظاهرة العلمانية كما هو الحال مع الظاهرة الدينية، و بذلك تتحدد دلالتها في أنها موقف من التمايز (الانفصالات بين الحقول الاجتماعية) لا من التمايز ذاته، وهي أساس للتقدم الإنساني وموقف إيجابي من انحسار الدين في مجاله باعتباره دينًا وليس شيئًا آخر، وبالمقابل تكون “العلمنة” سيرورة تاريخية يشهد التاريخ بواقعيتها، على اعتبار أنها عملية تطور للمجتمعات الإنسانية سمتها الأساسية هي الدُّنْيَوة، دنوية الوعي والممارسة البشرية لناحية وعي كون هذه الممارسة بشرية دنيوية، بالإضافة إلى أنها سيرورة تمايز عناصرها الدينية عن غير الدينية و تحديد مجال نفوذ كل منهما “17”.
في هذا المجلد 1 من الجزء 2 درس عزمي بشارة مجموعة من الأحداث الكبرى في تاريخ أوروبا؛ كعصر النهضة وحقبة النزعة الإنسانية، وكذا حدث الإصلاح الديني وظهور المذهبية الدينية، وبروز ظاهرة الدولة القومية بدل الدولة الإمبراطورية، بالإضافة إلى عصر الأنوار، فمن خلال تفكيك هذه السيرورة يستنتج بشارة أن كل هذه الأحداث كانت لحظات مشهودة في تطور العلمانية في أوربا “18”، إذ يقول مثلًا عن الإصلاح الديني في أوروبا وعلى رأسه زعيمه الشهير مارتن لوثر: إنه لم يكن علمانيًا و لكنه فتح بإصلاحه ذاك الطريق أمام العلمانية. “19”
كما أن النزعة الإنسانية التي عملت على التبشير بإمكانات وكفاءات الإنسان و دقواه المبدعة، كل ذلك أكسب الإنسان الأوربي وعيًا حرَّره من ثقافة القرون الوسطى، واتجه بفضله نحو تشكيل ثقافة ومجتمعات جديدة منفصلة عن بنيات ثقافة ومجتمعات القرون السابقة “20” تبعًا لذلك، و بإزاء هذه التغيرات الاجتماعية والسياسية الجذرية يستقصي ع.بشارة التغيرات الفكرية والعلمية التي واكبت أو وجهت نسبيًا هذه التغيرات، أو التي حللتها وحاولت فهمها، وهنا سيعرض الباحث طائفة من النظريات الفلسفية والعلمية التي اهتمت بالواقع الجديد منذ كانط وهيغل إلى ماركس و نيتشه، ومن فرانسيس بيكون وتيوتن إلى أوجيست كونت، حيث أصبحت العلمانية في القرن الذي عاش فيه هذا الأخير (19م) آيديولوجية وظاهرة طافية في المجتمعات الغربية، واكبتها أفكار علمية وعلموية شتى كالمادية الجدلية والفلسفة الوضعية “21”.
وهكذا فإن عصر النهضة والنزعة الإنسانية والإصلاح الديني بما تحمله هذه الأحداث من تغيرات جذرية في مجالاتها، يجسد الدرج الأول لسيرورة العلمنة التي تقع مبدئيًا في شكل انفصالات في نسق الثقافة عن ما هو قديم، ثم بعد ذلك انتقلت التغيرات أو سيرورة العلمنة إلى باقي حقول المجتمع خصوصًا العلمي، حيث ستشهد أوربا تشييد بناء إبستيمولوجي للعلوم قطع كليًا مع البناء الإبستيمولوجي لعلوم القرون الوسطى الذي كان يتأسس على مقولات الكتب المقدسة والأنبياء “22”، ثم شهدت القارة العجوز بعد ذلك حدوث ثورات سياسية “23” وتغيير الأنظمة وقواعد الممارسة السياسية باتجاه تقدمي مختلف كليًا عن قواعد وأشكال الممارسة السياسية التي كانت سائدة في القرون الوسطى، فواكب ذلك أو نتج عنه ثورة صناعية (اقتصادية في القرن 19م) و بعده ثورة علمية في القرن 20م وتوِّج بثورة تكنولوجية ورقمية في عصرنا الراهن، وكلًا من الثورات الأربع (السياسية- الإقتصادية- العلمية- التكنولوجية) سرعت من وتيرة سيرورة العلمنة في المجتمعات المعاصرة.
و تبقى في هذا الجزء أهم إضافة وهي تبيان بدقَّة متناهية منشأ وكيفية نشوء الظاهرة العلمانية من بدايتها في نسق الثقافة مرورًا بحقول المجتمع وصولًا إلى أهمها وأكثرها تأثيرًا؛ وهو حقل السياسة، إذ يعتبر هذا المجلد بحقٍ تطبيقًا و تجسيدًا للأفكار النظرية التي طُرحت في الجزء الأول، وهو ما يبين التسلسل المحكم و الحبكة المتقنة لهذه الدراسة العلمية.
إحالات ومراجع :
(1) عزمي بشارة، "الدين و العلمانية في سياق تاريخي- الجزء الأول الدين و التدين"، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، الدوحة-بيروت 2013 ، ط1، صـ 17-117-303-336.
(2) خزعل الماجدي، علم الأديان، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الرباط-بيروت 2016 ، ط1، ص 33-37 .
(3) عزمي بشارة، "الدين التدين" ج1 ، المرجع "1" ، صـ 171-232.
(4) المرجع السابق، صـ 186 .
(5) سابيينو أكوافيفا و إنزو باتشي، علم الإجتماع الديني- الإشكالات و السياقات، ترجمة عز الدين عناية، هيئة أبو ظبي للثقافة و التراث، مركز كلمة ،أبو ظبي 2011، الطبعة الأولى، صـ 63.
(6) Tillich Paul, "Theology of Culture", Edited by Robert C. Kimball. (New York: (Oxford University Press, 1959) ,p 7-8.
(7) Jonathan Z. Smith , "Religion, Religions Religious" , in "Critical Terms for Religious Studies", Edited by Mark C. Taylor , EDITORIAL ADVISORY BOARD , (The University of Chicago Press, 1998), p 281.
(8) عزمي بشارة ، "الدين التدين" ج1، المرجع السابق ، ص 290 و ما بعدها .
(9) ليس أقل المفكرين العرب الكبار الذين يتبنون هذا المنظور "محمد عابد الجابري" .. انظر كتابه ، "الدين والدولة وتطبيق الشريعة" ، (سلسلة الثقافة القومية 29، قضايا الفكر العربي 4)، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت لبنان 1996 ، ط1 ، ص 110 .
(10) عزمي بشارة ، "الدين التدين" ج1 ،المرجع السابق ، ص 206-207-208 و ما بعدهم .
(11) نفسه ، ص 422.
(12) تعقيب عزمي بشارة عن مداخلات الأساتذة الباحثين في ندوة: "تقديم و مناقشة ثلاثية الدين و العلمانية في سياق تاريخي" ، تونس فبراير 2016 ، منشورات المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات الإلكترونية ، ص 87.. كما ورد في ، "الدين التدين" ج1 ، ص 407 .
(13) باتريك هاني، "إسلام السوق" ، ترجمة عومرية سلطاني ، تقديم هبة رؤوف عزت ، مدارات للأبحاث و النشر ، دبي 2016 ، ط 1 .
(14) Mohammed El Ayadi , Hassan Rachik , Mohamed Tozy , "L’ISLAM AU QUOTIDIEN Enquête sur les valeurs et les pratiques religieuses au Maroc" , Editions Prologues, Casablanca 2006, p 196.
(15) أوليفييه روا ،الإسلام و العلمانية ، ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي ، بيروت 2016 ، ط 1 ، ص 36 .
(16) عزمي بشارة ، "الدين والعلمانية في سياق تاريخي"- الجزء الثاني/المجلد الأول ، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات ، بيروت 2015 ، ط 1 ، ص 41 .
(17) المرجع السابق، صـ 41
(18) ع.بشارة ، الجزء الثاني/المجلد الأول "العلمنة و العلمانية الصيرورة الفكرية"، م.س.ذ ، ص 101-356 .
(19) المرجع السابق، ص 193 .
(20) ع.بشارة ، الجزء الثاني/المجلد الأول ، م.س.ذ ، ص 179 و ما بعدها.
(21) المرجع السابق، ص 679-700 .
(22) المرجع السابق، ص 357 و ما بعدها .
(23) حسب تحليلات "ألكسيس دو توكفيل" فإن المجتمع الفرنسي (كمجتمع علماني) عرف عدة تغيرات اجتماعية بنيوية تمثلت من الناحية الاقتصادية في الإنتقال من الفيودالية إلى الرأسمالية، و في الثقافة من التفكير الأسطوري إلى التفكير العلمي ، و في العلاقات الإجتماعية من التأسيس على قاعدة الدين و الإيمان إلى التأسيس على قاعدة المواطنة و الإنسانية، غير أن الحقل الوحيد الذي لم يواكب هذه التغيرات و بقي دون تغير هو "الملكية الفرنسية"، و من أجل تغييرها بنيويا قام الفرنسيون بثورة 1789م ، ما يعني أن الثورة السياسية هي نتيجة أو محفز باتجاهها ما وقع قبلا من ثورة ثقافية و اجتماعية .. انظر كتابه ، "النظام القديم و الثورة" ، ترجمة خليل كلفت ، المركز القومي للترجمة ، القاهرة 2010 ، ط1