حسام أبو حامد
يثير مصطلح "السلفية" أسئلة نقدية أكثر مما يوحيه استعماله الشائع اليوم. وفي كتابه "في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟"[1]، يعيد بشارة طرح المصطلح بعيدا عن الفهم التبسيطي الاختزالي له، بعد انتشار استخدامه دون تدقيق.
وإذا كانت تعريفات السلفية تُجمع على أنها عودة إلى الكتاب والسنة ونبذ البدع، فإن بشارة يحفر في هذا التعريف الموجز، ليبين أن السلفية مُعطى تاريخي بحت، يعبر عن وجود سلفيات متعددة، سنّية وشيعية، نميز داخل كل واحدة منها سلفيات، أو مدارس سلفية متعددة. فلا تحيل السلفية، برأيه، على منظومة أفكار متجانسة، كما درج على ذلك الاستعمال المهيمن للمصطلح لدى الدراسات الشرق أوسطية وحتى دراسات الإسلاميين، بل هو استعمال مُعقّد حافل باتجاهات متعددة.
عموما، يبين بشارة أن السلفيات المختلفة رغم عودتها جميعا إلى القرآن والسنة، فإنها لا تعود إلى المكان نفسه "بل إلى متخيلات للماضي وللسلف مختلفة تماما، وإن كانوا يستخدمون النصوص ذاتها في رسمهم وتصويرهم لأتباعهم" (ص32). وليست السلفية العامة، الممثلة بالعودة إلى القرآن والسنة، نمط تدين قائم بذاته، فقد ينتشر الفكر السلفي نفسه في أنماط التدين الشعبي، أو الرسمي، أو الحركي، أو السياسي، فيؤدي التفاعل بينها وبين كل نمط إلى نتائج مختلفة. تفاعل السلفية مع التدين الحركي السياسي هو الأهم عند بشارة، بوصفه الحالة العينية التي يتناولها بالبحث.
السلفية: التباسات مصطلح مُشكَل
الدراسات الشرق أوسطية، متأثرة بالنقد الجذري الإبيستمولوجي للاستشراق التقليدي، تجاهلت ما أنجزته الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية، سواء كانت مصيبة أم معقولة أم زائفة، مما أدى إلى جهل حقيقي لبعض تلك الدراسات بالنصوص التاريخية، وأصول المفاهيم قيد الدراسة، لتعتمد على ترسيمات جاهزة، أو نصوص مجتزأة منتقاة، من المؤلفات الكلاسيكية الإسلامية، ولم يقتبس الباحثون في حقل تلك الدراسات مؤلفا كلاسيكيا عربيا، فضلا عن باحث عربي واحد في مؤلفاتهم، بيد أن "العودة إلى الحفر في التاريخ تأتي غالبا بنتائج مخالفة، وأحيانا مناقضة، للترسيمات عنه. ومن هذا القبيل الاصطدام بين تاريخ السلفية (تاريخ السلفيات على التحقيق)، وتاريخ نشوء مفهومها ومصطلحها وتطورها من جهة، وترسيماتها المنتجة والمستهلكة اليوم على نطاق واسع حتى في الكتابات الأكاديمية (المعتبرة) من جهة أخرى" (ص11).
ومن ضلالات تلك الدراسات أيضا مماهاتها بين الأصولية والسلفية، بمعناها الاصطلاحي، واعتبارها مرادفة للحركات الإسلامية كلها اليوم، بوصفها إحيائية وسلفية وصحوية. لكن بشارة ينبه إلى تعارض مفهومي بين السلفية والأصولية ما بين السياقين الغربي والعربي الإسلامي. إذ برزت الأصولية Fundamentalism في السياق الأول بوصفها استراتيجيات يحاول عبرها مؤمنون واقعون تحت ضغوط اجتماعية كبرى الحفاظ على هويتهم المميزة، بوصفهم شعبا أو جماعة، أو إعادة صياغة تلك الهوية في مواجهة الجديد الذي يفرضه التطور، أو التكيف معه، دون التخلي عن الأصول، وإنما تطهيرها مما علق بها. بيد أن المفهوم الإسلامي الكلاسيكي الراسخ لـ"أصولي"، والآتي حتما من خارج العلوم الاجتماعية يعني اصطلاحا المنسوب إلى علم الفقه، أو علم الأصول، فيتضمن استقلالاً في الرأي واجتهاداً في ضوء الأدلّة، أو الأصول، وليس الاتباع وإعادة إنتاج التقليد. فالمماهاة بين السلفية والأصولية من حيث الأخيرة ترجمة لمصطلح Fundamentalism تؤدي إلى تضليل في السياق الثقافي العربي، من دون شرح موسع عن أصول مصطلح العلوم الاجتماعية هذا.
وإذا كانت السلفية تعني في الأصل، بدلالتها العامة، الالتزام بالقرآن والسنة وحدهما وسيرة الرسول والسلف من الصحابة والتابعين، وفق سلسلة متواصلة من إعادة إنتاج للأثر، فإن المعيار دائما في ما يناسب السلف هو ما أجمعوا عليه. لكن إجماعهم، كما يذهب بشارة، يبقى محلّ خلاف، فمن هم أهله؟ هل هم أصحاب القرون المفضّلة كلها الواردة في حديث "خير القرون"، أم إجماع أحدها؟ وهل الجيل هو مائة عام أم جيل؟
وما أن استقر مصطلح السلفية على تعريف ضيق نسبيا يختص بتيار ديني مذهبي اعتقادي محدد، حتى عادت الظواهر التي تطلق عليها تسمية سلفية وتعددت ليضيق بها المصطلح. ولا يعني ذلك قبولا من بشارة بالترويج للمصطلح على أنه يختص بنمط تديّن متزمّت في الجزيرة العربية، إذ برأيه أنه (على الأقلّ) لا يقتصر على الجزيرة العربية، بل يشمل العالم الشيعي، وبإمكاننا الحديث عن سلفية سنّية وأخرى شيعية.
وخلافا للتبسيطات البحثية التي أشاعت علاقة ما هوية بين السلفية والوهابية، فإن بشارة يرى العلاقة بينهما علاقة إشكالية، تمثل الوهابية فيها استعادة لنسخة محددة من السلفية الآثارية أو الحنبلية، حتى أحمد بن حنبل نفسه لم يكن "حنبليا" كما صوره الحنابلة وتصوروه، وفرضوا عليه بأثر رجعي انتماء إلى مذهبهم. يضيف بشارة أن الوهابية من جهتها أعادت تخيل أحمد بن حنبل وبنت أقواله وأخباره أو ما نسب إليه، وهي أخبار متعارضة ومتعددة، ليغدو مذهب الحنابلة مذهبا عقديا وفقهيا في الوقت ذاته، وقامت السلفية الحنبلية، منذ البداية، على اقتران بين الفقه والاعتقاد، بينما احتاجت باقي المذاهب الفقهية لتقيم تلك العلاقة إلى أكثر من قرن ونصف القرن.
السلفية والإصلاح:
يذهب بشارة إلى أن الفرق بين الإصلاح الديني، على الرغم من العنصر السلفي الذي يتضمنه، والإسلام السلفي الحركي المعاصر، هو الفرق بين الإيمان بالتقدم والإيمان بأن البشرية تتدهور وتتراجع عن عصر ذهبي خلفته وراءها. ولملائمة الإسلام مع الحداثة يعود السلفيون الإصلاحيون إلى الإسلام النقي لتطهيره من التقاليد البالية والشوائب، وللحيلولة دون تحول الحداثة إلى صيرورة نزع الهوية. هكذا يبدو الإصلاحيون، برأي بشارة، سلفيين مجازا، فعودتهم وسيلة لتطهير الدين من عوائق التطور والوعي التقهقري بالتاريخ، ارتقاءً بالمجتمعات ضمن الحضارة الإسلامية، لا خارجها، وفي سياقات المؤمنين الحضارية والوطنية.
يميز بشارة بين سلفية محمد بن عبد الوهاب الذي لم يتجاوز "المذهبيات الفقهية بل ذوب فهمه السلفي للإسلام في مذهبية فقهية - اعتقادية، هي المذهبية الحنبلية المتخيلة، فتمذهب بدوره من حيث ادّعى تجاوز المذهبيات الفقهية" (ص25)، من سلفية رشيد رضا الإصلاحية التي "شكّلت قاعدة فكرية لنمط التدين الحركي السياسي الذي تمتد جذوره إلى السلفية والإصلاح في الوقت نفسه" (ص26).
وفي الوقت الذي بدت حركة الإصلاح الديني السلفي المديني بروتستانتية، دعت إلى العمل والإصلاح كي يساعد الله والإسلام من يساعد نفسه، حتى تحقيق العدل وشرع الله، بدت الوهابية حركة بيوريتانية طهرانية نجدية معادية للحداثة، برز السلف في الأولى بوصفهم نقطة انطلاقة مرجعية للتقدم، بينما هم في الثانية نقطة عودة وانكفاء، وإعادة إنتاج الإسلام الأول الصحيح المتخيّل. فالوهابية تنتمي إلى "فضاء الإنتاج الإسلامي لأيديولوجيا الوعي التقهقري بالتاريخ في إطار ترسيمة أن كل زمان شر مما قبله" (ص28).
أما السلفيات الجهادية المختلفة، فكثيرا ما تعمل على هدم التقاليد والتراث بمعول الإسلام النقي، كما تتصوره أو تتخيله وتعيد إنتاجه، بعد تمثله وتمثيله في عملية التنشئة التربوية والأيديولوجية لكوادرها والقواعد الاجتماعية التي تسيطر عليها. فهل حركة الإحياء الإسلامي أو الصحوة الإسلامية، بحسب وجهة النظر هذه، هي نوع من "العودة"؟ يجيب بشارة أنها "على العموم، ليست عودة إلى الإسلام التقليدي، بل هي صراع ضدّه، بدليل أنها خرجت عن إطار المدارس الفقهية التقليدية الراسخة في ضوء المذاهب الأربعة المعتمدة... وهي لا تعترف بالمجتمعات الإسلامية وتراثها الحضاري، بما في ذلك الديني، بل بالدين وحده كما تتصوره منفصلا عن المجتمعات ومنزلا نقيا، وبالجماعة الإسلامية، الأمة المجردة، المنفصلة عن كل ظرف تاريخي، كما تتخيلها في المدينة، وكما تصوّرها الأحاديث التي ينتقونها، وكما تخيلتها قصص السير والمغازي، وليس كما وجدت فيها، إنها الأمة الإسلامية المحض، الجماعة المقدسة المجردة، التي لم توجد ولن توجد" (ص55).
سيكوسوسيولوجيا الجهادية السلفية
العودة إلى السلف وأصول الدين ليست مجرد رد فعل على الحداثة، بل ينبغي فهمها أيضا بوصفها إحدى آليات الحفاظ على الذات في مواجهة الأزمات، التي تظهر تاريخيا كنمط متكرر لكنه متبدل ومتغير، عبر "تجديد" الأخذ بمصادر وينابيع أولى. يبين بشارة أن آلية كهذه جرت في حال ابن تيمية، وابن القيم، بعد انحلال الدولة تحت وطأة التتار والحملات الصليبية، وما جرى بعد انهيار الدولة العثمانية، لكن التجديد ونمط العودة ووظيفته ودوره يختلفان جذريا في كل مرة. أما الرابط بينهما فهو تكرار نمط التفاعل مع الظرف التاريخي بهدف الحفاظ على ذات جماعية مفترضة بالعودة إلى سير الأوائل (سلفية الإسلام الشعبي) أو مرتكزات فكرية عند سلف من الفقهاء (السلفية الفقهية). لكن بشارة يؤكد أنه "ليس خط تطور فكري مستقل يولّد فيه كل فقيه أصولي سلفي فقيها آخر بعد قرون في المدرسة ذاتها. فلا يوجد تاريخ أفكار مستقل يقود إلى السلفية الجهاديةً في أيامنا، ويحمل تقليدا من ابن حنبل إلى ابن تيمية وابن القيم، بحيث يمتد منهما خيط مباشر إلى ابن عبد الوهاب ومدرسة المنار وغيرها، بل هي تطورات سياسية وثقافية وتبدلات في نمط العيش وأزمات وهزات اجتماعية تدفع إلى تنظير فقهي. وهذا يبحث عن مرتكزات فقهية ومصادر تشرعنه، ويجعل من نفسه امتدادا لها، بحيث تبدو خطا متصلا" (ص101).
منهجيا، يبدو لدى بشارة أن فهم تنظيمات ما بات يعرف بالإسلام السياسي غير ممكن دون فهم السياق الاجتماعي الثقافي الذي صعدت عبره تلك التنظيمات، في صراعها مع النظم السياسية في الدول الإسلامية، الذي أدى إلى صراع مع الغرب بشكل استطرادي مبني في أيديولوجيات تلك التنظيمات التي نظرت إلى تلك النظم متماهية أو متكيفة مع هذا الغرب. أما مفردات هذا الصراع: أزمة الدولة والهوية، العلاقة بين الذاكرة والتاريخ، الاندماج، القضية الفلسطينية، التحديث... وغيرها. لذلك لا يمكن التعامل مع تنظيمات الإسلام السياسي على أنها مجرد اشتقاق طبيعي من السلفية الوهابية من نوع من تاريخ الأفكار.
وبوضع تنظيم القاعدة في سياقه الاجتماعي الثقافي، يتبين لبشارة أنه نتيجة العولمة، وظاهرة منفصلة نسبيا عن نشوء الحركات الإسلامية القطْرية قبل توطّنه كتنظيم محلي شكّل مركزا عسكريا وأيديولوجيا (وافتراضيا) للجهاد هو الصراع مع النظام العالمي الجديد بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، استخدم العنف ودعا إليه، متجاوزا الحدود، غير متمركز في أرض محددة.
يحاول بشارة استخلاص سيكوسوسيولوجيا إنسان السلفية الجهادية في حالة القاعدة، فيعود إلى السيرة الذاتية لمنفذي هجوم 11 سبتمبر/ أيلول ليرى فيه نمطا "من الإنسان الحديث أو المعرّض للحداثة ثقافيا واجتماعيا، فتديّنه أيديولوجي. إنه تحديد للهوية في هذا العالم، ويشبه عملية بحث الفرد المستلب أو المغترب عن المعنى، أكثر مما يشبه التدين التقليدي بوظائفه المتوارثة" (ص107).
يشير بشارة إلى استثناءات من هذا الحكم العام، إذ انضمّ إلى التنظيم شبان ذوو انتماء إسلامي وعالمي يدفعهم، وهناك من ضمّته إليه عوامل اقتصادية، وأخرى اجتماعية، وطائفية. كما تقاطع الانتماء للقاعدة مع معارك وانتماءات محلية، وفي حالات كان الدافع تقيّة وخوفا بعد سيطرة التنظيم على مناطق في العراق وسورية. أما حركة "الإخوان المسلمين" فبدت في تلك السيرة مرحلة مدرسية ابتدائية أو إعدادية في التكوين التربوي الحركي الإسلامي العام. تجربة السجن والظلم والإذلال، مع التأثر ببعض الأشخاص المؤدلجين دينيا وأصحاب الكاريزما، دفع بعض القاعدة إلى التطرف. يتبين مع بشارة أيضا، أن غالبيتهم لا يتحدرون من أصول ريفية أو فقيرة، فلم تتلاءم درجة تعليم ومستوى ثقافة منفذي هجوم 11 سبتمبر وانتمائهم الطبقي مع مواصفات الشخصية المعدة سلفا بواسطة الخبراء على هيئة "نموذج للشخصية المرشحة للقيام بعملية انتحارية".
يخلص بشارة مع فرانسوا بورغا إلى أنه "في كل مكان تثبت الدراسات الاجتماعية للأرضية الإسلامية حقيقة واحدة: تنوع النشاط الاجتماعي وضحالة تفسير اجتماعي – اقتصادي بحت لالتزامهم" (ص110).
جدلية العلاقة بين المعرفي والتاريخي
ينبّه بشارة إلى أنه يجب التخلي عن البحث عن "النقاء الفكري" الإسلامي "المتخيل" عند ولوجنا عالم الإسلام السياسي الحركي، هنا حيث تفوح في معرض الصراع على السلطة الطائفية والعشائرية والجهوية والكسب الحزبي والاستزبان، التي لا علاقة لها بالمثل القومية التي تترفع عن ذلك. هنا نلج عالم السياسة بمعناها العملي الذي يحيل إلى الواقع مباشرة، بتناقضاته وإرغاماته وصراعاته، وحيث تتصارع القوى الاجتماعية والأيديولوجية في سبيل التعبئة والتجنيد.
إذا، "الحركات السلفية كافة، إصلاحية كانت أم جهادية أو غير ذلك، حركات... أيديولوجية نشأت في العالم الحديث بآليات التنظيم الحديثة ونتيجة ضغوط العالم الحديث نفسه" (ص120). ولا يمكن عزل التطور الفكري الإسلامي عن التطورات التاريخية وأسئلتها في كل مرحلة. وبتطبيق ذلك على تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية (داعش)، يجد بشارة أنهما عصيّان على الفهم دون النظر إليهما بعلاقتهما بالهيمنة الأميركية ما بعد الحرب الباردة، واحتلال أفغانستان والعراق، ونشأة الطائفية السياسية العربية، وأزمة الدولة العربية وعنفها المطرد.
يذهب بعض المستشرقين إلى التعامل مع نشوء حركات إسلامية واندثارها، ليس بوصفها أصوليات تكرر ذاتها، بل تقليد في التاريخ الإسلامي، لكن بشارة يرى أنه حين تنشأ حركة إسلامية في الحداثة "في إطار الدولة القومية، ليست مجرد نص أصولي يتكرر منذ ابن حنبل أو ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب وغيرهم.. وحتى لو تكرر ظهور الأصولية والدعوة إلى العودة إلى الأصول في مراحل الأزمات، بحيث تشكّل نمطا، فإنها تبقى حركات وتيارات في سياق تاريخي محدد في إطار الدولة القومية الحديثة أو المستحدثة... أليست الحاكمية نظرية إسلامية محضا ومقلوبة لمفهوم السيادة الغربي؟" (ص120).
ورغم نصوص مُؤسِّسَة (الغزالي ابن تيمية رشيد رضا المودودي...) يلجأ اليها الحركيون الإسلاميون المعاصرون كتقليد نظري، لا يمكن كتابة تاريخ الأفكار بمعزل عن السياق التاريخي والبنية الاجتماعية والدور السياسي في الحقبة المقصودة، فالتنقلات من سلفية إلى أخرى، يبين بشارة، لا يُفسَّر بالفكر وحده، بل يتجاوزه في حد ذاته لفهم الحركة الاجتماعية السياسية، وتحديد شروطها التاريخية التي حكمتها، وإلا قادنا التحليل الميكانيكي إلى الوقوع في فخ التفكير التراثي عبر التعامل مع الإسلام الحركي السياسي المعاصر كأنه استمرار طبيعي لحركة أفكار وتقاليد لها تاريخها الخاص بها، ولصحّ "ادعاء الحركيين الإسلاميين أنهم يمثلون تقليد "أهل السنة والجماعة" لا أكثر ولا أقل" (ص 133).
ولكن أليس من خط رابط بين نصوص معينة في القرآن والسنة النبوية وممارسات تنظيم داعش؟
يوضّح بشارة أن ملايين البشر قرأوا تلك النصوص ورّددوها بوصفها نصوصا دينية مقدسة لا نصوصا سياسية. قلة قليلة من المسلمين استخدمتها دليل عمل سياسي. فليست كل الأوتوبيات مستقبلية، وليست كل يوتوبيا دينية ثورية أيضا، فمنها ما يبقى في التدين الشعبي أمثولة أخلاقية، ومنها ما يُمارَس ضمن العيش في جماعة تطمح أن تكون مجتمعا بديلا سيرا على صراط مستقيم، يصلح مثالا يحتذى من خارج المجتمعات القائمة في نمط حياة "أخوية"، ومنها ما يتحوّل أيديولوجيا سياسية، ومنها ما يتجاوزها ليتحول إلى برنامج سياسي ينفذ بالقوة، ويفرض على المجتمعات، كما قلب تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية الأوتوبيا كابوسا دمويا، فأقام مملكة العقاب على الأرض، برّرها باقتباسات من القرآن تجيز العذاب في الدنيا للمرتدين والكفار.
المشكلة عند بشارة ليست في النصوص بل في إعادة إنتاجها، ففهم تنظيم الدولة الإسلامية لا يبدأ بتحليل هذه النصوص، ولا نصوص الفقهاء، كما لا ينتهي بها، فهذه النصوص هي أيديولوجيا من حيث كون الأخيرة وعيا زائفا، وشكلها الأيديولوجي المتطرف هو وعي مقلوب، ولا يمكن بالنسبة لها استعادة التاريخ إلا بعد تخيله من جديد بتفسير من حاضرها وليس من ذلك الماضي في القرن الأول (خير القرون)، فـ"الوعي الكرستولوجي والاسكاتولوجي[2] المهدوي الإسلامي وثيق الصلة بالوعي له لتقهقر عن أصل أول ثابت فسد ما بعده" (ص 141).
يمكن العودة إلى سلفيات مختلفة، والبحث بينها عما هو مشترك على مستوى تاريخ الأفكار وتفاعلها، لكن لا يمكن فهم ما إذا كانت تطورات في السلفية نفسها، أم تنويعات في داخلها، أم تحولات جديدة صوب سلفية "جديدة"، من دون وضع تطور الأفكار في سياقها التاريخي، والظروف الاجتماعية السياسية والثقافية. فالأمر يتعلق عند بشارة بفهم جدلية العلاقة بين المعرفي والأيديولوجي، ولا غنى عن التفسير الاجتماعي والسياسي، والخلفية الفكرية والنفسية للفاعلين الاجتماعيين - السياسيين، ودور الصراع السياسي، حتى في شرح الفرق بين نص وآخر، وإلا بقينا أمام تواصل واستمرارية لا نميز فيهما أي ظاهرة.
دين جديد/نبوة جديدة: ما بين الوهابية والسلفية الجهادية
يصر البحث عند بشارة على أن حركة ابن عبد الوهاب بدت أشبه بتأسيس دين جديد، عبر تخيّل مطابقته مع الدين أول ظهوره، لا من حيث المضمون والنصوص، بل كذلك من حيث المنهج وطريقة نشر الدين والبيئة الاجتماعية. بفضل ضعف التقاليد الدينية السائدة ومؤسساتها، وبفضل السيف، انتشر هذا "الدين الجديد"، أما المقارنة التي عقدها ابن عبد الوهاب بين جاهلية سبقت الرسول وبين أوضاع عصره، فإنها تتضمن ادعاء نبوة مُضمرة بأنه يعمل في الدعوة كما فعل النبي في الجاهلية.
وخلافا لما هو رائج، فإن أوّل من استخدم في العصر الحديث مفهوم الجاهلية، في وصف حالة ذهنية اجتماعية وليس مرحلة سابقة على الإسلام، هو ابن عبد الوهاب وليس قطب أو المودودي، فشخّصها حين وصف مجتمع الجزيرة في عصره، مشددا على خصلة أصيلة في رؤية الإسلام الأول للجاهلية، وهي فقدان حالة الدولة، وغياب ولي أمر مطاع، وكان هذا أبعد ما يكون عن مفهوم قطب والمودودي للجاهلية، لكن التيار القطبي الإخواني ومنذ كتاب "معالم على الطريق" طوّر نظريته في "الجاهلية" الجديدة، أي جاهلية المجتمعات الحديثة والمعاصرة، وتحوّل من "تكفير الدولة" إلى "تكفير الأمّة" الذي رافق اللقاء مع التيارات السلفية الوهابية التي تسيست[3].
ورغم أن الوهابية لم تمثل إسلاما سياسيا حركيا بالمعنى المتداول لدى باحثي العصر الحالي، إلا أنها أصبحت مركّبا أساسيا في أيديولوجيا بعض هذه الحركات في القرن العشرين. فبفضل الثروة النفطية والصراع العربي في الستينيات بين السعودية ومصر، واستغلالها غربيا لمحاربة المعسكر السياسي الراديكالي الغربي في تلك الحرب، وفي محاربة الشيوعية، تحولت الوهابية إلى عقيدة سلفية منظمة ونسقية لدولة ثرية ذات مؤسسة دينية متكاملة، لتصبح السعودية وباكستان مركزين لعملية التصدير الأيديولوجي السياسي للوهابية.
يضيف بشارة أن تحوّل الوهابية إلى حركة أيديولوجية عالمية مكّنها من التأثير في أنماط التدين في بلدان أخرى بتفاعلها معها، لكن ذلك غير أيضا شكل الوهابية نفسها في السعودية، لتتحول من حركة دينية سلفية ذات بعد شعبي إلى مؤسسة دينية رسمية تابعة للدولة مؤثرة شعبيا، لكنها عادت وانشقّت إلى مؤسسة دينية باتباعها على مستوى التدين الشعبي، وبوعّاظها ومناهجها وجمعياتها ذات التوجه المتزمت و"المعتدل" سياسيا (التوجه التبريري للحكم)، وإلى سلفية داخل السلفية ذات بعد حركي سياسي تدعو الوهابية ذاتها إلى العودة إلى أصولها، يلتفّ حولها، في مجتمع جماهيري، أتباع متضررون من سياسات الدولة.
مع موجة عودة الأفغان العرب انتشر نمط التيارات التكفيرية في بلدان أخرى، ونشأ الجيل الثاني من الجهاديين السلفيين، وأنماط جديدة من الحركات الإسلامية العنيفة لم تكن معروفة من قبل. استند منطق حركات كالقاعدة وما نشره الأفغان العرب في بلدانهم سياسيا إلى نهج سيد قطب في تجهيل المجتمع المسلم وتكفيره في وقت واحد، ومع أن الوهابية أثرت في نمط التدين الشعبي باتجاه أشد تزمتا، إلا أنها لم تقدم نظرية سياسية شمولية ثورية كالتي قدمها سيد قطب، الذي استند إلى نظرية الحاكمية لدى المودودي، التي حلّت مسألة السيادة في الدولة الإسلامية، فكانت الحاكمية هي طريق الجهاديين الأوائل في تلك الفترة إلى سلفية ابن تيمية، والسلفية الوهابية، وليس العكس. فأعيد فهم السلفية والسلفية الجهادية جهاديا تكفيريا.
يمكن تلمس تأثير الوهابية في المركّب السلفي الجهادي في فرض نمط الحياة عند الجيل الثاني (أبي محمد المقدسي وأبي قتادة الفلسطيني...) وعند كتاب التنظيم وشرعييه، حيث راج الاستشهاد بابن عبد الوهاب على حساب سيد قطب.
أخيرا: من خلال جدلية العلاقة بين المعرفي والتاريخي، يخلّص بشارة مصطلح السلفية من التباساته، بإنزاله من مستوى تاريخ الأفكار، والفهم التراثي، إلى خضمّ الحركة الاجتماعية، وشروطها التاريخية التي حكمتها، ومن الانتقائية والاجتزاء التي درجت عليهما الدراسات الشرق أوسطية عن الإسلام، ويعيد تأسيس السلفية بوصفها ظاهرة سيكوسوسيولوجية.
تأتي هذه الدراسة استكمالا لجهود عزمي بشارة البحثية السابقة نحو التأسيس منهجيا ومعرفيا لسوسيولوجيا عربية، في وقت يحتاج فيه العرب، شعوبا وصنّاع قرار، مزيدا من فهم لأنفسهم، ولمجتمعاتهم بظواهرها المتشابكة والمعقدة، للإجابة عن التساؤلات التي تطرحها مرحلتهم التاريخية الراهنة، وتقديم الإجابات النظرية والعملية اللازمة لعودتهم ذواتا قادرة على الفعل التاريخي، بدل استمرارهم موضوعات لفعل التاريخ وعلى هامشه.
[1] عزمي بشارة: في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟ (بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018).
[2] مع شيء من التبسيط، تهتم الكرستولوجيا بالبدايات، أما الاسكاتولوجيا فتهتم بالنهايات.
[3] حاول الإخوان التخلص من التيار القطبي، كما يوضح بشارة، في رسالة المرشد الثاني للإخوان "دعاة لا قضاة" لتحاول التكيف سياسيا مع المجتمع وطلاقها السياسي والاعتقادي مع العنف في التسعينيات من القرن الماضي، لكن النظم التسلطية حافظت على وضعها في سلة واحدة مع الحركات المتطرفة الأخرى، وتكثف عنوان مرحلة ما بعد انقلاب السيسي في استئصال الجماعة. لكن أيضا، لم يحصّن الإخوان أنفسهم من القطبية، فبراغماتيتهم جعلتهم يتأرجحون بينها وبين التيار الوسطي بحسب الظروف، والقادة الذين تصدروا الحركة. راجع ص 114.
المصدر: ضفة ثالثة