عمار ديوب
مقدمة
يعد كتاب المفكر عزمي بشارة “الجيش والسياسة – إشكاليات نظرية ونماذج عربية” إضافةً نوعية إلى المكتبة العربية بخصوص العلاقة بين الجيش والسياسة. ليست هذه القراءة معنية بعرض أفكار الكتاب، وهي مهمة ضرورية، وتصدى لها كُتّاب ومواقع كثيرة، بل مهمتها قراءة نقدية له، ومحاولة تأصيل إشكالية هذه العلاقة في بلداننا واختلافها عما هو الحال في أوروبا، حيث نظام الحكم الديمقراطي، والرأسماليات الصناعية، ووجود آليات دستورية وقانونية للمحافظة على السياسة والسلطة من دون ضرورةٍ لتدخل الجيش في السياسة، إلّا في الأزمات الداخلية الكبرى (هتلر، موسوليني). التدخل العسكري في الخارج، من القضايا التي لم يتصدَّ لها كِتابنا هذا، إذ هناك مناقشة قديمة تتناول الاحتلالات القديمة والحديثة التي كان للجيش الدور المركزي فيها، وقد فعلت الولايات المتحدة الأميركية ذلك بصفة خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وأوروبا بصفة خاصة قبل هذه الحرب.
أولًا: إسرائيل والشركات الأمنية والميليشيات
لن أناقش هنا موضوع إسرائيل بوصفها دولة احتلالية استيطانية، وهي نتاج هيمنة الإمبرياليات على العالم، وقاعدة عسكرية متقدمة لها في منطقتنا، ومن أجل تأبيد تخلّفها واحتجاز تطورها. وكذلك نتاج صمت المجتمعات “المحكومة من هذه الإمبرياليات” عن مسوغات وجود دولة الصهاينة؛ أقصد أن السياسة الأوروبية والأميركية، وعلى الرغم من اعتمادها الديمقراطية، المستندة إلى فكرٍ وعلاقات حداثية وكونها وارثة مشروع الحداثة والتنوير، ويفترض أنها تأخذ بالحسبان حقوق الإنسان والشعوب، وعلى الرغم من وجود قرارات دولية تؤكد ضرورة إعطاء الفلسطينيين حقهم في أرضهم، وحق العودة وإعلان دولتهم، نقول على الرغم من كل ذلك، لم يعطَ الفلسطينيون حقوقهم. أريد القول إن الجيش والسياسة بل الديمقراطيات الغربية كلها هي بمنزلة مشروع رأسمالي “قومي” وكوني، وذلك لفرض سيطرة الإمبرياليات، ولاحقًا العولمة على العالم، ولمصلحة أنظمة وشعوب محدّدة، ألا وهي دول الإمبرياليات الكبرى. إن وجود قطاعات شعبية وسياسية، يسارية خاصة، رافضةٍ لكل ما تقدم، لا يغير في الأمر شيئًا.
إضافة إلى موضوع إسرائيل، هناك تشكيلات عسكرية أمنية جديدة، ظهرت في أميركا “بلاك ووتر” ولا نجد مثيلًا لها في أوروبا، وكذلك ظَهر ما يشبهها في روسيا “فاغنر”، وهي شركات أمنية عسكرية لا تدخل ضمن المؤسسات العسكرية الرسمية؛ هي ظاهرة جديدة تتعاقد مع الدولة للقيام بمهمات “قذرة” في الخارج، كما جرى في العراق بعد احتلالها 2003، وفي سورية من خلال المجموعة الروسية. هذه الظاهرة تستحق الدراسة العميقة، فمثلًا لماذا شُكلّت أصلًا، إذ إن أميركا أو روسيا لا تحتاجان إليها؛ فهما الدولتان اللتان تخصّصان أكبر ميزانية للقطاع العسكري فيهما عالميًا.
موضوع الشركات سابقة الذكر، أثبته أعلاه، في إطار بروز ظاهرة المليشيات الرديفة للجيوش العربية، أو بديلًا “حالة ليبيا” التي هي في معظمها مليشيات طائفية وقبلية وبلطجية بامتياز. يؤكد الدكتور بشارة أن الجيوش العربية ولا سيما بعد نكسة حزيران، وبدلًا من أن تكون جيوشًا لتحديث الدولة والمجتمع، و”تنتج هوية وطنية” أصبحت “تكرس البنى الطائفية التقليدية”.
إذًا، هناك حالة تراجع كبيرة في دور الجيش عربيًا؛ فإذا كانت حال الجيوش كما ذكرنا، فإن المليشيات الأخيرة التي برزت مع انهيار النظام بصفة خاصة، ولا سيما في سورية بعد 2011، وفي العراق مع مدّة حكم المالكي، ولاحقًا مع الحرب ضد داعش، تُدلل على انهيار المجتمعات كذلك، ومن ثم قادت أنظمةُ “الجيوش” الشعوبَ العربية نحو الانهيار الكامل، وهو ما نلاحظه من خلال العودة إلى التشكيلات الاجتماعية لما قبل الوطنية. طبعًا لا تستقيم المساواة بين الظاهرة الأميركية الروسية، والميليشيات العربية، ولكنها أيضًا تستحق وقفة نظرية، تناقش الموضوع من زاوية خصوصية النظام الأميركي أولًا، ومرحلة العولمة وملازمة شركات كهذه لها، وكذلك دراسة الشكل “المافيوي” للنظام الروسي، الذي يشبه كثيرًا حالة الدول “العالم ثالثية الاستبدادية” على الرغم من أن روسيا تمر بمرحلة تحول من رأسمالية الدولة “الاشتراكية” إلى دولة رأسمالية إمبريالية، وهو ما يميز مرحلة بوتين، واستراتيجيته في استعادة الدول التي انفكت عن الاتحاد السوفياتي في تسعينيات القرن المنصرم، لإقامة حلف جديد “إجباري” مع روسيا، وكذلك محاولاته لفرض روسيا دولة عالمية من خلال تدخله في سورية خاصة، ودعم إيران وتبني سياسة فاعلة ومنافسة لأميركا في المنطقة العربية وعالميًا.
ثالثًا: تفنيد رأي هنتغنون ونشأة الجيوش
يتناول الكتاب مطولًا رأي المفكر الأميركي صموئيل هنتغنون في كتابه “الجندي والدولة: نظرية العلاقة الحديثة – العسكرية وسياستها”، وينتقد مفهومه لمهنية الجيش ويُفترض أن تكون وظيفته وظيفة الأطباء أو المهندسين، وسواهم، وطبعًا في رأي الدكتور بشارة إن ذلك قد يؤدي بالجيش إلى الطاعة “العمياء” وتنفيذ جرائم، كما جرى في فيتنام والعراق وأفغانستان، والأمر ذاته تمارسه جيوش سورية وإيران وسواهم، إذ يتدخل الجيش “المهني” ليرتكب جرائم ويدمر المدن؛ يرفض الدكتور بشارة ذلك، ويقترح برنامجًا تثقيفيًا للجيش، وبما يعزّز لديه ثقافة الحرية والديمقراطية، ومن ثم تصبح وظيفته حماية الدولة ومواطنيها ومهما تغيرت الحكومات. يتناول الدكتور عزمي بالنقد مجموعة نظريات غربية عن موضوع الكتاب “الدولة الثكنة، الدولة البريتورية وسواها”، وفي رأيه تظل قاصرة عن إعطاء رؤية أكثر موضوعية عن إشكالية الكتاب المركزية “العلاقة بين الجيش والسياسة” في العصر الحديث.
ويبتغي الدكتور بشارة الوصول إلى الأمر عينه في بلداننا كذلك، وهذا من أكبر المستحيلات، والسبب هنا أن مشروع الطبقة الرأسمالية “القديمة الليبرالية والجديدة المتوسطة” في الحكم وأشكال السيطرة السياسية المختلفة لا تسمح بذلك، وسنتطرق إلى الموضوع لاحقًا.
تسمح الطبقة الرأسمالية -بثوراتها الصناعية وتطويرها للديمقراطية، وبما يستوعب الصراعات الاجتماعية والسياسية، وفي مدى قرون عدة- بذلك التحييد لدور الجيش في السياسة، على الرغم من أنه من الطبيعي أن يكون له دورًا كما يُنظّر الدكتور عزمي.
إن مفكرنا يشرح تطور العلاقة بين الجيش والسياسة، ويقدم إسهامًا مهمًّا في توضيح نشأة مفهوم الجيش عالميًا، وكيف تغيرت من جيوش تعتمد على التراتبية الطبقية إلى جيوش تعتمد على التساوي بين الأفراد، وأن ما يميز بين عناصر الجيش الرتبة العسكرية والتعليم، أي إمكانات الأفراد وليس المنزلة الطبقية؛ ففي المنطقة العربية نشأ العسكر ضمن إطار جيش الدولة العثمانية، إذ كانت الأخيرة محتلة “لدولنا”. وباستيلاء الجيوش الأوروبية على دول الرجل المريض ومناطقه، عاد قسم كبير من هؤلاء، ليؤدوا دورًا في تأسيس جيوش دولهم.
يشير الكتاب إلى أن هذا الأمر تحقّق بصورة كبيرة في العراق، أمّا بقية الدول من مثل مصر وسورية ولبنان فقد قضت الجيوش الأوروبية فيها على “الضباط العرب العثمانيين” بالكامل.
في الأحوال كلها، كان تشكيل الجيوش العربية والشرطة أسرع النُويّات الحداثية في تحديث المجتمع العربي، ويشير الدكتور بشارة هنا إلى أن الجيش أدى دورًا أساسيًا في تشكيل الدول، وما لا يتوسع فيه أن ذلك جرى تحت سيطرة الاحتلال الفرنسي أو البريطاني، ومن ثم فما تأثير ذلك في طبيعة الطبقة البرجوازية القديمة والحديثة وفي الضباط وفي رؤيتهم للسياسة، ومجمل تاريخنا الحديث.
بخصوص سورية، أوضح كتابنا نسبيًا كثيرًا عن دور هؤلاء الضباط، ولكن بخصوص تجربة مصر أو العراق أو لبنان، فقد تضمن الكتاب أفكارًا تفيد أن هذه الجيوش أُنشِئت بأعداد قليلة وبعتاد خفيف، واعتمدت في تشكيله على “تنشيط” الهويات ما قبل الوطنية، إذ أسست فيه أفواج عسكرية وفقًا لبنى الطائفية أو القومية.
مسألة استقرار الدول الصناعية من دون تدخل الجيوش في السياسة، إلا في الأزمات الكبرى، توضح أن الميزانيات الكبرى للجيوش في أوروبا كلها ولا سيما في أميركا، تستدعي مناقشة جدية، فلماذا هذه الجيوش، وما دورها في استراتيجيات تلك الدول؟ وطبعًا ليست مهمة الجيوش ردع كل من روسيا أو الصين فقط، بل هناك القضايا الداخلية التي قد تحدثُ فيها أزمات كبرى، ولا تجد لها حلًا إلّا بتدخل الجيش وفرض النظام. ومن ثم التثقيف الذي يقترحه الدكتور عزمي لتهميش فكرة المهنية، وردًا على هنتغنون وواقعيته ومحافظته، ومنعًا للّبرلة داخل الجيوش، وإبقاء الأخيرة طيعة وقابلة للقيام بأسوأ الأفعال كالقتل والحروب، وأشكال العنف كله، التي قد تتلاشى مع أي أزمات كبرى. لنلاحظ أن ما يفعله الجيش الأميركي في كل من أفغانستان أو العراق كان عملًا إجراميًا كاملًا، ودَمّرَ المجتمعات الحديثة فيها، وأشاد فيها أنظمة طائفية أدّت دورًا أساسيًا في خلق صراعات من طبيعتها لم تنته بعد.
يمكن الاستنتاج هنا: إن المهنية التي يقترحها هنتغنون، أو التثقيف الذي يقترحه عزمي، قد لا يكونان طريقًا لتحييد الجيش في عدم التدخل في شؤون السياسة في أزمات معينة، بل إن الجيش ذاته، ومسوّغات ضخامة ترسانته، ليست من أجل حماية الدولة وتمثيل مصالح الطبقات أو السكان جميعهم، بل لحماية الدولة التي تمثل مصالح الطبقة البرجوازية أولًا، وهو يتدخل في الأزمات الكبرى كحال أزمة ألمانيا أو إيطاليا قبل الحرب العالمية الثانية كما ذكرنا، ووجود تهديد حقيقي من الطبقات العمّالية في القيام بثورات اشتراكية، وقلب نظام الإنتاج وليس نظام الحكم فقط.
التدخل الأميركي والأوروبي والروسي في العالم المُخلَّف، هو أمر مختلف، ويتعلق بالهيمنة على العالم واقتسامه في ما بينها، ولم يتوقف أبدًا، وإن تغيرت أشكاله وأسبابه؛ فهناك تطور لآلية اقتسام العالم، وتبدأ بما قبل الثورة البلشفية وبعدها، وفي أثناء الحرب العالمية الثانية، وتعاظم دور حركات التحرر الوطني والقومي، وفي أثناء الحرب الباردة، وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي وسقوطه، وحاليًا مع مرحلة بوتين، حيث الأخير يحاول استعادة مجد الاتحاد السوفياتي في السيطرة على العالم، وإن لأسبابٍ مختلفة، بعد تحوّل الدولة إلى رأسمالية، وبصورة مافيوية، كحال تدخله في جورجيا وأوكرانيا وسورية.
ثالثًا: دور الجيش بعد مرحلة الاستقلال
يرى مفكرنا أن الجيش الذي استلم السلطة والسياسة بعد الحرب العالمية الثانية، في كل من مصر وسورية والعراق، يمثل الطبقات الوسطى، وجاء للحكم بسبب فشل البرجوازية الليبرالية القديمة في مواجهة الأزمات الخارجية، ونقصد نكبة فلسطين 1948، وكذلك المسألة الزراعية الداخلية، وعدم قدرتها على تطوير التعددية والديمقراطية وإرسائها بصورة ثابتة، وسوى ذلك كثير. هذا الجيش يمثل ضبّاطًا من رتب متوسطة ودنيا ويندر وجود الرتب العليا.
في كل حال، ما لم يُقدم له الدكتور بشارة تسويغات كافية هو لماذا استلمت الطبقة المتوسطة الحكم، وما تأثير استلامها له؟ ولماذا تمكن الجيش استلام السلطة وتأبيد وجوده فيها؟.
يقول الدكتور بشارة “إن الجيش والطبقة الوسطى كليهما لا يشكلان طبقة اجتماعية أو أيديولوجية أو سياسية واحدة”؛ إذًا هذا فعل منافٍ للتاريخ، ولأنه كذلك، كان نظام الحكم فرديًا، ولا سيما في سورية والعراق، وكان للجيش دورٌ كبيرٌ فيه، كذلك في مصر والجزائر ومختلف دول العالم المخلّف. إذًا، استلام الجيش “والطبقة الوسطى” للسلطة والسياسة في التشكيلة الرأسمالية هو ضد التاريخ؛ فهو لا يمتلك رؤية مستقلة وخاصة لنظام الإنتاج أو السياسة. الطبقة الوسطى مكانها الطبيعي بين الطبقتين الأساسيتين، أي البرجوازية الصناعية والطبقة العاملة، ويتصاعد دورها وأهمّيتها في المجالات كافة بسيطرة الطبقة البرجوازية الصناعية. بمعنى آخر يظل الجيش والطبقة الوسطى فاقدين للمشروعية التاريخية ولمشروعٍ تحديثي للمجتمع.
النقطة الأخيرة مشكلة، فهناك جيوش كان لها هذا الدور كما الجيش التركي؟ نرى هنا أن دور الجيش كان ضروريًا للانتقال من نظام الإنتاج القديم “الزراعي” إلى نظام إنتاج حديث، والسياسة الحديثة وتحديث بنى المجتمع كلها، ونضيف إن دور هذا الجيش الكبير في تركيا كان سببًا في انقلابات عسكرية عدة في تاريخ هذه الدولة. إذًا الجيش في بعض الدول العربية “سورية” يَحكم بوصفه قوة منظمة منضبطة، ويحوز على السلاح، ويسيطر على النظام عبر أجهزة الأمن والبنى الأهلية القديمة، وبسبب ذلك يسيطر زعماءٌ أفرادٌ يتحكمون بمؤسسات الدولة كلها كما يصف الدكتور عزمي حكمهم بـ”سلطوي رث” أو “السلطاني في مظهر شمولي”؛ فنظام حكمهم هذا يتطلب تضخمًا في أعداد الجيش والأمن ليستوعب العاطلين عن العمل، وكذلك الاستناد إلى عصبية طائفية أو قبلية “اليمن، وليبيا”، والأكثر دقة في حالة سورية، إلى عصبية جهوية، كما أشار الدكتور عزمي في شرحه لتجربة الجيش والسياسة في سورية، فيرى أن المسألة بدأت بعد عام 1963، تحشيدًا لمجموعات في الجيش لأسباب جهوية، ولكنّها تطورت، ولا سيما بعد 1984، والانتهاء من الحرب ضد الطليعة والإخوان المسلمين، إلى عصبية طائفية، ولاحقًا وبعد عام 2000، وتحديدًا منذ عام 2005، أصبح الجيش يمثل سلطة عائلة الأسد. أظن أن الأكثر دقة القول إن قواعد النظام “الاجتماعية” تمثّل تيارًا عريضًا من المنضوين في الجيش والأمن، ولكن قيادته من الفئات العلوية الموثوق فيها، إذ لعب النظام على مخيال “السردية الطائفية التاريخية”، ولكن الأمر ظل غير معلن وضمن أطر استخباراتية، ولم يتقونن كما حالة لبنان التاريخية، أو العراق ما بعد الاحتلال الأميركي 2003 مثلًا.
قيادات الجيش والأمن في سورية، وعلى الرغم من أن أغلبها من الطائفة العلوية، وهناك حسابات عشائرية في الطائفة ذاتها، ومنذ الثمانينيات كان هناك تسلسل مناصب للضباط، إلا أن الأمر ظل غير مقونن وقابلًا للانتكاس، كما في حالة ترحيل رفعت الأسد، أو حتى في خلافات الضباط الكبار مع الحكم، ولدينا حالة وزير الدفاع “علي حبيب”، وهو شخصية مهمة ومؤثرة. لا يقلّل ما ذكرته من أهمية إجراء دراسات دقيقة عن المسألة الطائفية في سورية، ومنذ الستينيات، وتطوراتها وتصاعدها في إثر الثمانينيات؛ يدعم فكرتنا هنا أن عزمي ذاته يكتب عن شرائح طبقية متعددة استفادت من إرساء النظام للتحول الليبرالي واقتصاد السوق، لتتحول إلى مافيا اقتصادية تحوز على أكثر من 60 في المئة من اقتصاد سورية، وأن الشخصيات الأساسية فيها من الطائفة العلوية “مخلوف، شاليش”.
رابعًا: العصبية الطائفية ظاهرة حديثة
هناك فكرة نظرية أكدها الدكتور عزمي، وهي أن العصبية الطائفية ليست استمرارًا للماضي، على الرغم من أنّه يحدّد بروز الطائفية مع الدولة العثمانية منذ قرون عدة، واضطهاد أصحاب المذاهب بوصفهم يتبعون لها وليس للنص القرآن، وكذلك بسبب التدخلات الاستعمارية باسم حماية الأقليات. ولكنَّ مُفكِّرنا، وحينما يشرح مفهوم العصبية، فهو لا يراها آتيةً من الماضي وظلّت كما هي، بل هي نتاج الانقلابات التي حدثت، ولنقل نتاج أزمة الطبقة البورجوازية المتوسطة؛ فكان أن فَعّلت الجهوية والولاءات القديمة، وسيّستها بما يخلق قاعدة اجتماعية لها. أيضًا، قد تمارس الأنظمة تحييدًا لكتلة مجتمعية كبرى عبر تسييس الأديان وصراعاتها والمحافظة على التقاليد، ولا سيما حينما لا تتوافر تشكيلات طائفية ومذهبية كثيرة، كحال مصر زمن السادات بخاصة ولاحقًا، أي إن تسيس الأديان أكبر من الخلافات بين المسلمين والأقباط هنا. ومن ثم هناك طائفية قديمة متوارثة “اجتماعية”، وكذلك بفعل التدخل الاستعماري الأوروبي، ولكنّها رفضت أن تصبح هوية طائفية سياسية للشعب، كما حاولت ذلك الاحتلالات الأوروبية، ورفضت”الطوائف” بأغلبها ذلك التسييس، وانحازت إلى تشكيل دول حديثة مع بقية التشكيلات الأهلية الوطنية.
فكرة الدكتور بشارة هذه، تنطلق من رفض رؤيةٍ استشراقية ومحلية مستجدة، ومرتبطة بمرحلة الانقلابات العسكرية، وصعود الإسلام السياسي، ولا سيما بعد الثورة الإيرانية، والتنافس بينها وبين الوهابية السعودية، ويمكن إضافة الدور الصهيوني “الحديث عن دولة يهودية صافية” في ذلك، وتأثيره في ابتعاث الأصوليات، وتؤكد أن شعوبنا كانت طائفية، وستظل، ولن يتغير الأمر، ومن ثم لا بد لها من تشكيل دول طائفية. الفكرة الأخيرة نجدها عند كثير من الكُتاب “الطائفيين والليبراليين” الذين يفاخرون بالنظام الطائفي في لبنان، ويعدّون الأمر طبيعيًا وصحيحًا ومنسجمًا مع التاريخ، ويجب على بقية الدول العربية المرور بتلك المرحلة وربما الاستقرار فيها، وأنها طبيعة مجتمعاتنا.
يشير الدكتور الدكتور بشارة إلى إحدى المشكلات التي ستواجه التحول الديمقراطي، وهي كيف سيجري استيعاب الإسلام السياسي في الحياة السياسية.
أطرح الموضوع هنا، مع مناقشتي لمسألة الطائفية، وذلك للقول إن الطائفية بوصفها شكلًا سياسيًا للحكم تعتمده الطبقات البرجوازية المُخفِقة التي هي أدوات للدول الإمبريالية، إذ وظيفتُها نهب الثروات والأموال، وتحويل دولنا إلى أسواق لتصريف المنتوجات، وضبط مجتمعاتنا في إطار صراعات قديمة، ومن خلال سلالات حاكمة ووراثية. لنلاحظ هنا أن الدول الجمهورية العربية كلها سعت للتحول إلى مَلَكية.
دور الإسلام السياسي يأتي في سياق المناقشة عن الطائفية، ومن متابعتنا لدوره في أكثر من دولة عربية، فإن الخلاصة تقول إنّه لا يمتلك مشروعًا اقتصاديًا مختلفًا عن الليبرالية، ومشروعه السياسي لم يتأصل مواطنيًا ووطنيًا، واجتماعيًا ينطلق من مبدأ المحافظة على التقاليد، ويستند إلى تعاليم دينية تمييزية، وثقافية انتقائية وبما يخدم مصلحته المعاصرة. ومن ثم تظل الفكرة مطروحة: كيف سيجري تجاوز الطائفية، ومنها الإسلام السياسي، بوصفها قوى سياسية وتصادر الجذر الثقافي والديني لمصلحة رؤيتها وبرنامجها؟. أجد هنا أن العرب وغير العرب، أمام قضية مصيرية، فإمّا أن يساهموا في بناء السياسة وفقًا للمنظومة المعرفية الحديثة، ووفقًا لأصول السياسة الحديثة، أي الديمقراطية المستندة إلى المواطنة، واعتماد الأخيرة المصدر الأساس للدستور وللقوانين، وقضية فوق المناقشة، وإمّا أن يظل التلاعب قائمًا بالطوائف، وتطييفها من الجيش مرة، والطائفيين، ومنهم الإسلاميين، مرة أخرى، وثالثة من خلال الدول الإمبريالية.
خامسًا: فصول الكتاب
الكتاب الذي بين أيدينا يتألف من ثلاثة فصول، الأول نظري، ويخوض فيه المفكر مناقشة مهمة حول إشكاليته، ويركز على أبرز مفكري الغرب، ومفرِّقًا بصورة حازمة بين المفهومات التي تتناول أشكال الحكم والدول، والتطورات المحتملة لها، ومفندًا كثيرًا من المفهومات المربكة التي تشوش القارئ والمهتم بتطورات السياسة. الثاني يخص سورية، ويحلّل فيه الدكتور بشارة وبشكل مقتضب كيفية نشأة الدولة السورية ومشكلاتها حينذاك، ويطرح قضية الهوية الوطنية والتباسات تشكلها واختلافات القوى “التقليدية” في ذلك، ثم يمرحل مناقشته لعلاقة الجيش بالسياسة إلى أربعة مراحل، منذ زمن الاستقلال ومرورًا بتشكيل اللجنة العسكرية في مصر، والتطورات فيها، وكيفية تداخل المحلي والجهوي والطائفي فيها، واستبعاد فئات “طائفية” منها لمصلحة فئات “طائفية” أخرى، ويناقش بإسهاب مرحلة الستينيات والخلافات فيها، وما جرى من تطورات في حزب البعث ذاته، وكيفية سيطرة العسكر عليه، والخلافات بين قياداته، ولا سيما بين حافظ الأسد وصلاح جديد، وإلى مرحلة الإحكام الكامل لعائلة الأسد على الجيش، وبما يوصلنا إلى فكرة مهمة مفادها أن الجيش كان يُحكَم به، ولم يكن يَحكم بذاته، وهي حالة العراق والسودان ودول كثيرة. الفصل الثالث يخص مصر، ويناقش فيه التطورات في الجيش المصري، وبدءًا بثورة تموز 1952، والخلافات بين الضباط الأحرار، وغياب أي احتمال لانتقال الدولة إلى دولة لمواطنيها كلهم، وبقاء التجربة ضمن سيطرة العسكر أو محاولة سيطرة رئيس الجمهورية “عبد الناصر” على الدولة بمؤسساتها كلها، وهو ما حصل بشكل كامل مع السادات، ومع مبارك أصبحت الدولة دولة الأمن.
توسّع المؤلف في تطورات الجيش المصري، وكيفية فرض بنودٍ دستورية، ليصل بنا إلى مفهوم “دولة الضباط” أو دولة في الدولة، ويسوق لنا كثيرًا من الأفكار التي توضح لماذا استطاع الجيش المصري إعادة النظام القديم إلى الحكم 2013، والانقلاب على النظام الديمقراطي؛ الجيش المصري في مرحلة حكم السادات ومبارك، عمل من أجل تشكيل قطاع اقتصادي خاص به، ومشروعات تعود لمصلحة ميزانيته، ورفض كل محاولة لإخضاع قطاعاته لمؤسسات الدولة، وشكل حسابًا بنكيًا خاصًا به، ولم يشكّل حكم حسني مبارك تهميشًا له كما شاع، وكما حال جيش تونس مثلًا أو ليبيا، بل ظل الجيش يتمتع بمؤسسات قوية؛ وعلى الرغم من تفاوت مخصّصات ميزانيته من واحدة إلى أخرى، فإنه ظل قطاعًا مستقلًا بذاته.
ثورة 2011، دفعته إلى التدخّل وحسم “عدم الاستقرار”، إذ لم تستطع القوى السياسية الاتفاق حول شكل الدولة الديمقراطي، وظلت هناك مشكلات تباعد بين هذه القوى، وهو ما لعب عليه الجيش، وحيَّد وجذبَ قطاعات شعبية وسياسية لمصلحته، وهذا ما سهّل له الانقلاب؛ وبحدوثه سُحقت التجربة الديمقراطية الوليدة. تحرُّكُ الجيش، وحدوث الانقلاب، يوضح أن هذا الجيش كان فعلًا “دولة ضمن الدولة”، ولم يكن مؤمنًا بحيادية الجيش أو بضرورة مهنيته، وما نشهده مؤخرًا 2018 من إعادة الجنرال عبد الفتاح السياسي لترشيح نفسه للرئاسة، يفتح مناقشة في الكتاب تقول بأنه للجيش دور في السياسة دائمًا، ولكنه يتغير من حقبة إلى حقبة. وفي هذا يقول مفكرنا “كلما كان المجتمع أكثر تقدمًا، يكون دورُ الجيش رجعيًا، وكلما كان المجتمع أقلَّ تقدمًا، يكون الجيش أكثر تقدمية”، فكرته هذه تتطلب مناقشة معقدة، فهل يمكن القول إن دور الجيش الأميركي أو الأوروبي رجعي؟ نعم هو كذلك حينما يتدخل ليقمع الشعب في مرحلة الأزمات الكبرى لمصلحة النظام الحاكم، أو حينما يُوظَّفُ في المشروعات الاحتلالية مثلًا “كوجود الجيش الأميركي في أفغانستان والعراق..” وكذلك وجود الجيش الروسي في سورية. فكرة المقتطف الثانية، توضح دور الجيش في البلدان المخلفة، إذ كان له دور في استنهاض قدرات المجتمع من خلال الإصلاح الزراعي والتعليم العام والتصنيع وأيضًا خوض معارك وطنية، ولكن جيش “ما بعد الاستقلال ذاته” هو من أوصل الأنظمة إلى الفردية وخسارة الحروب الوطنية مع إسرائيل، والمساهمة في قيام أنظمة شمولية، ودول قابلة للانتكاس، ولتتشكل مؤسساتها وفقًا للتشكيلات الأهلية، وليس وفقًا لفكرة المواطنة، وفي هذا نلاحظ انقلاب الجيش المصري على “التقدم” المجتمعي بعد 2011، وهو دور رجعي بامتياز، وهو ما يوضحه الدكتور بشارة حينما يسخر من فكرة المهنية التي كانت صفة للجيش المصري، ومفهومًا دافع عنه هنتغنون. أيضًا بما يتعلق بالجيوش في أوروبا، وعلى الرغم من دورها المشار إليه “الرجعي”، فهي تقف على الحياد ما لم تتأزم الأوضاع بما يؤدي إلى ثورة مجتمعية على النظام الرأسمالي، وحينها تتقدم بوصفها قوة رجعية و”إجرامية” مثالنا هنا “هتلر وموسوليني وآخرين”، وقبل ذلك، دورها في استعمار العالم قبل الحرب العالمية الثانية.
يتضمن كتابنا أراءً ثمينةً بما يخص أغلب الدول التي حدثت فيها انقلابات عسكرية، ويفرق بينها وبين الثورات، وكيفية تحول بعض الانقلابات إلى ثورات، وما الفرق بين الثورة والإصلاح وكيفية تحول الثورة إلى إصلاح أو العكس، وتغيّر دور الجيش حينما يصبح في السلطة، وأن تجارب كلٍّ من مصر وسورية والجزائر والعراق وليبيا واليمن مختلفة، بل إن هذه التجارب ذاتها مختلفة بتغير الشروط التاريخية.
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة