لابد وأن يُفاجئ عزمي بشارة هؤلاء الذين يتابعون نشاطاته المتعددة، الكاتب والباحث الأكاديمي، القومي العربي، الناصري المتحمس، عضو الكنيست الإسرائيلي، المناضل الوطني والناشط السياسي. واليوم، ربما الروائي أيضاً، بكتابه الجديد "الحاجز" وتحت توصيف: شظايا رواية. وبما أننا تابعناه على هذه الجبهات كلها، فلن نغفل آخر نتاجاته.
قد لا يكون كتابه " الحاجز" شظايا رواية، ولو كان في التوصيف بدعة حداثية، بل رواية، دونما تقصد لتخريجة نجامل بها صاحبها على حساب الفن الروائي؛ إذ هكذا تصبح الرواية عندما يلعب الحاجز دور الشخصية الرئيسة، ويجب ألا نستهين بها على الإطلاق، الحاجز يبتكر الأحداث والمآسي معاً، ويقوم بما يعجز عنه الخيال، فيحجز الحركة ويقسم الفضاء، إلى "ما قبل الحاجز" و "ما بعد الحاجز"، أما الزمان فلا معنى لتقسيمه لأن المكان بفعل الحاجز يمتصه تماماً، ويحدد مكان الإنسان في أي ساعة من ساعات اليوم، حتى أنه يحدد مكان سكنه على المنوال نفسه، إما "قبل الحاجز" أو "بعده" وإن كان على الشارع الممتد ذاته.
الحاجز ثابت في مكانه، لكنه متحرك في الكتاب، يتنقل في المدن، ويتكرر من صفحة إلى صفحة، فلا تخلص من واحد حتى يطالعك آخر، تدور من حوله مصائر البشر، وهم شخصيات من لحم ودم، تسوطهم الشمس وتزعجهم، فيتعرقون ويتعبون من الوقوف، والتقدم بطيئاً في الدور صوبه دائماً، صوب الحاجز، عسى يجتازونه خلال دقائق أو ساعات، وربما تأجل اجتيازهم له لليوم التالي. يتلاعب الحاجز بأوقاتهم ويخضعهم لنظامه فيعطل أعمالهم وينتهك كرامتهم، مع أن الحاجز جماد من الجمادات، لكن يقوم على رعاية شؤونه على الطرف الآخر كومبارس من الجنود لا ملامح لهم سواء كانوا بيضاً أوربيين أو سمراً شرق أوسطيين أو سوداً أفارقة، لكنهم إسرائيليون، يعيدون لعب أدوارهم وإن تفاوتت، بالعنجهية والغطرسة والفظاظة، يسألونك بعدائية ويفتشونك بوقاحة ويرمقونك بحقد، بعضهم يتسامح معك وقد يخجل منك، ومنهم طيبون فعلاً، ومع هذا قد ينقلبون إلى أناس شريرين، في حال اشتبهوا بكيس أسود أو حقيبة أو بطن منتفخ، فلا تأمن على نفسك منهم.
لا أمان أمام الحاجز، وهذا حال الجميع، الرجال والنساء والأطفال، لا فرق بين عجوز أو امرأة حامل، أو مريض على وشك الموت. وحاذر أن تشملك العناية المكثفة لأصحاب الحاجز، كما حدث على حاجز شمال ـ غربي المدينة على طريق بيتونيا عندما أوقف الجنود سيارة إسعاف بيضاء اللون: مقال السائق جالس في مكانه، وهناك رجل يتناقش باستعطاف مع الجنود، باب سيارة الإسعاف الخلفي مفتوح وقد أخرجت منها حمالة ترقد عليها مريضة تئن، وجندي يفتش داخل السيارة، وكلما ازداد أنينها ازداد إصرار الجنود وصرامة تعبيراتهم الحازمة في تنفيذ مهمتهم، مع أن السيارة عبرت الحواجز المغلقة السابقة، والجنود يعلمون أنه لا يمكن أن تأتي سيارة إسعاف وهي في طريقها إلى المستشفى إلا إذا كان الأمر طارئاً وإلى العناية المكثفة مباشرة، لكنهم قرروا أن يولوا السيارة عنايتهم المكثفة. بعد أن يفرغ جندي من تفتيش جانب من السيارة أو الحمالة يلفت نظره جندي آخر إلى جانب آخر خفي لم يفتش بعد وهكذا... وإذا التقت أعين الجنود تفلت ابتسامة خبيثة وتختفي, وحال تدارك الابتسامة يحاول الجندي التخلص منها بسرعة والعودة إلى التعابير الصارمة والموضوعية، إنه يقوم بواجبه ولا يتلهى، لا يضرب ولا يشتم، إنه يفتش بهدوء وبصرامة، الإزعاج الوحيد هو أنه يفتش بشكل مستمر وثابت واستحواذي وتفصيلي وقانوني للغاية، يقول الرجل وهو زوجها:
طيب ما إنتو شايفينها سيارة إسعاف ومريضة.
ليه شو ما سمعت إنه نقلوا سلاح بسيارات الاسعاف.
طيب هاي مريضة وانت شايفها، وأنا جوزها.
مش شايف شي، لازم أفتش عشان أشوف، لو سمحت وقف عجنب.
كيف أوقف عجنب هاي مرتي.
فتتدخل امرأته:
وقف عجنب يا رجال خليه يفتش، منكون بمشكلة منصير بتنين، هلأ بقلك إنك بتزعج شرطي في أداء مهامه، بصفا أنا في المستشفى وحضرتك بالسجن، ومين بيبقى مع الأولاد؟ خلينا بس نخلص.
شفت مرتك كيف بتعقل؟ لو من الأول ما بتناقش كان صرنا مخلصين.
الصور والقصص واللوحات تتوالى دونما انقطاع، ودائماً ثمة مزيد من المضحكات المبكيات، الواقع غني بمآسيه، إذاً لن تتوقف. تحس نفسك بينهم، اللهجة العامية الفلسطينية، تضفي نكهة ملموسة، حارقة وحيوية على المواقف الطويلة المرهقة، تحس بأنك تعيش الحدث بانفعال ودون افتعال.
وما يدهشنا حقاً، روح السخرية التي كتب بها بشارة روايته، وما يتمتع به من قدرة على الملاحظة الحادة والذكية. المشاهد واسعة في الرواية رغم ضيق المكان والظروف الجوية غير الملائمة والمناخ المكهرب. الأحداث متلاحقة لا ينضب معينها، والحركة رغم بطئها الشديد على قدم وساق، ثمة ما يغلي داخل الصدور. والتطور الدرامي ينزع نحو المفاجآت، إذ فكرة شاردة أو وسواس تجعل الجندي يلغي الدور وينذر الواقفين بتبديد شملهم إلى بيوتهم، الحركة دائرية يشارك فيها الجميع بالانتظار واللغو والعناء، القسمة عادلة، لكن بعضهم، ومن الجانبين، لا يحتملون.
يتمأسس وجود الحاجز، فيُوَّلِد سوقاً من البائعين الصغار، وباعة قهوة وسوس، يحملون معهم كؤوساً بلاستيكية أو زجاجية، وكافيتريات تحمل لافتاتها عناوينها "الحبايب" و"الحصار"؛ ويُولد أيضاً قصصاً يومية، مؤلمة وقاسية، وأحياناً طريفة لا تخلو من كوميديا فاقعة. يجعلنا بشارة أسوة بهم نقف معهم على الحاجز، هناك على الأرض الفلسطينية، نشهد الحياة اليومية لشعبنا الأسير في أرضه، قد تزعجنا اليافطات والشعارات المكتوبة بالعبرية، لكن هذا هو الواقع، ملصقاتهم على سياراتهم حلت محل ملصقات أهل تلك البلاد "يا صلاة الزين" "سارحة والرب راعيها" "عين الحسود تبلى بالعمى" "القلب يعشق كل جميل"، ندرك معانيها، العرب يضعون الشعارات نفسها.
ولولا هذا السواد القاتم والعناء الذي يبدو بلا نهاية، لقلنا على سبيل مديحه، أنه كتاب جميل وعذب، جميل في لغته، وعذب في سيولته، وكأننا نمارس السخرية السوداء، وإن في موضعها الشاذ، لكنه رغم كل شيء، كتاب رشيق وفاتن.الحاجز" رواية، أو قصص، أو لوحات، أو شظايا، كتاب يضعنا على الحافة، حافة القهر والعذاب، ربما لأننا كقراء نشارك فحسب، لكنه يجعلنا نلامس الهوة، هوة اللاعدالة الإنسانية. قليلة هي الكتب التي تمتلك زخماً إنسانياً ساخراً بهذا المقدار من العنفوان والبساطة وعلى تماس جارح مع الحقيقة.
فواز حداد