صدر حديثاً كتاب جديد هو نوع من السيرة الذاتية لعزمي بشارة عنوانه «في نفي المنفى» (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2017)، وذلك على شكل حوار طويل أجراه معه الزميل صقر أبو فخر، وتناول فيه تجربته الفكرية والسياسية منذ بداياتها الأولى في وطنه فلسطين حتى خروجه ملاحقًا إلى المنفى في عام 2007، ومؤلفاته الفكرية في المرحلة التي تلت ذلك. وهذا الكتاب رحلة شاملة في دروب شائكة وشائقة مشاها عزمي بشارة بثبات منذ أكثر من ثلث قرن، وهي تشكل في خبراتها السياسية المتعددة واختباراتها الفكرية اللافتة، تكثيف لتجربة فلسطينية وعربية قل نظيرها. على أن هذا الكتاب ليس مجرد سيرة فكرية للدكتور عزمي بشارة، وليس سيرة سياسية في الوقت نفسه، كما انه ليس سيرة شخصية فحسب، إنما هو ذلك كله معاً، أي عصارة لتلك التجربة الثرية المتعددة الجوانب.
وفي هذا الحوار الذي امتد على ثلاثة عشر فصلاً مع مقدمة وترجمة شخصية يكشف عزمي بشارة بطريقته الفكرية النقدية الجوهر العنصري لإسرائيل، ويجول في شعاب القضية فلسطين والسلام المستحيل، ويروي قصة خروجه القسري من بلاده، والثمن الذي دفعه جراء مواقفه المؤيدة للمقاومة، ثم ينعطف إلى أحوال العالم العربي ولا سيما سورية وآلامها، ويعيد النظر في الناصرية والبعث واليسار والماركسية ليصوغ نظرية جديدة وثاقبة في شأن النهضة والعلمانية والديمقراطية، ونظرة نقدية لافتة للإسلاميين الجدد وحزب الله. وطروحاته حول عقم البحث في العلاقة بين الدين والديمقراطية وضرورة حصره في بحث العلاقة بين الديمقراطية وأنماط التدين وأنماط العلمنة التي مر فيها مجتمع من المجتمعات، مع عرض لقصة مؤلفه الضخم «الدين والعلمانية في سياق تاريخي».
مهما يكن الأمر، فإن هذا الكتاب يحتوي إجابات مستفيضة عن عشرات الأسئلة التي تستولي اليوم على هواجس الشبان العرب وعقولهم، خصوصاً الشبان الفلسطينيين، مثل العروبة وفلسطين واليسار وأطروحاته، وتجربة تمثيل العرب الفلسطينيين في الكنيست، وحدود التجربة الحزبية في نطاق الدولة الإسرائيلية والسلام وياسر عرفات والتجربة النضالية الفلسطينية، والعنف خصوصاً عنف الجماعات الإسلامية والأنظمة، وسورية والثورات العربية والتشيع السياسي وحزب الله... وأخيراً حلم العودة إلى الوطن.
ختم عزمي بشارة نضاله الحزبي منذ أن أُرغم على مغادرة وطنه قسراً، ثم ختم نشاطه السياسي المباشر وتفرغ للإنتاج الفكري والعمل الأكاديمي. ومع ذلك فإن عزمي بشارة ليس محايداً سياسياً. وهو، كما يظهر في هذا الكتاب الحواري، ما زال يدافع عن الأحلام ضد الكوابيس مستنداً إلى مواقف مميزة وإلى ذخيرة معرفية لا تضاهى. وقصارى القول في هذا الميدان أن كتاب «في نفي المنفى» ليس تلخيصاً لهذه التجربة الغنية المتعددة الأبعاد والأغوار، إنما هو رحيق هذه التجربة في خلاصتها العميقة والشاملة.
صحيفة المستقبل