قام نظام الفصل العنصري (ابارتهايد) في جنوب افريقيا بتأسيس مفهوم الدولة او السيادة على:
1) نشاط استيطاني ضمن مشروع كولونيالي انفصل عن الدولة او الدول الاستعمارية الام.
2) تشكل جماعة قومية من خلال هذا الاستيطان تؤكد على تميزها “العرقي الارقى” عن السكان الاصليين، بحيث تعبر الدولة عن سعي هذه الجماعة الى الحرية والاستقلال، رغم انها تشكل اقلية من ضمن سكان هذه الدولة.
3) نظام حقوقي من الفصل العنصري يبقي “العرق الادنى” في نطاق الدولة، ولكنه يحرمه من حرية التنقل، ومن حق الاقتراع، فأبناء العرق الادنى السكان الاصليون هم نظريا مواطنون ولكنهم في الواقع رعايا الدولة خاضعون لها، والدولة ليست تعبيرا عن تطلعاتهم، ثقافتهم، بل هي اداة لسيطرة “العرق الارقى” عليهم.
4) سيطرة نخب “العرق الارقى” على مقدرات البلاد الاقتصادية وثرواتها، بما في ذلك الارض.. اثمن الثروات اطلاقا.
5) ثقافة سياسية ودينية منتشرة ترتكز على نظريات عرقية تتبناها الدولة والكنيسة، وتشكل تبريرا نظريا وأخلاقيا لنظام الفصل العنصري.
قامت هذه الحالة الاجتماعية الثقافية السياسية في جنوب افريقيا وانفردت بتسمية ذاتها “ابارتهايد” حالة فصل منذ العام 1948، وقد رفضت كافة لغات العالم استقبال هذه الكلمة بترجمتها، وبقيت كما هي كلمة من لغة “الافريكان” (لغة غالبية المستوطنين البيض ذات الاصول الهولندية) تعبر عن حالة متفردة من العنصرية الرسمية الصريحة المترجمة حقوقيا بالنصوص.
وقد منع هذا السلوك اللغوي، الرافض لاستقبال الكلمة بترجمتها كتعبير عن رفض العنصرية الرسمية كنظام حكم، من اجراء عملية مقارنة بين الابارتهايد وانماط اخرى من الفصل العنصري ما زالت موجودة.
وفيما عدا حالة ناميبيا التي انتدبت جنوب افريقيا على حكمها من قبل عصبة الامم، واخضعها الابارتهايد الى حكمه بالقوة حتى بعد انحلال عصبة الامم، فيما عدا حركة التحرر الوطني في جنوب غرب افريقيا (ناميبيا)، لم تطالب غالبية السكان في جنوب افريقيا بالانفصال عنها كدولة واقامة دولة اخرى، كما لم تطالب بطرد الاقلية البيضاء التي انفصلت ثقافيا وسياسيا عن دولتها الام فقد كانت معركة الغالبية في جنوب افريقيا ضد الفصل العنصري ولا يمكن ان يكون الانفصال علاجا للفصل او ردا عليه.
ولكن هنالك حالات استيطانية تم فيها الفصل واقامة الدولة كتعبير عن توق الاقلية للسيادة دون الحاجة الى نظام حقوقي للفصل العنصري داخل الدولة، اذ تم طرد الاغلبية خارج حدود الدولة، اي تم تحويلهم الى لاجئين.
لقد قامت دولة اسرائيل ضمن مشروع كولونيالي استيطاني احتضنته دول استعمارية لاهداف مختلفة، ولكن دون وجود دولة استعمارية أم، يشكل الاستيطان امتدادا لنفوذها. ولم يكن بالامكان اقامة دولة يهودية في فلسطين دون طرد السكان الاصليين الذين شكلوا اغلبية.. وقد شكلت الحرب غطاء لعملية الطرد الواسعة النطاق.
وكما في حالة المستوطنين البيض في جنوب أفريقيا لم يفهم المستوطنون الصهيونيون أنفسهم كحالة استعمارية، بل كتجديد لمشروع حضاري مدني سحيق، وكحالة من التحرير الذاتي بتشكيل الأمة عبر الاستيطان. يندرج هذا الفهم الذاتي للصهيونية على انها حركة تحرير ذاتي لليهود من المنفى ضمن نمط من الوعي يسمى الأيديولوجيا، ولم يزعج هذه الأيديولوجيا ان تستخدم أدوات استعمارية كلاسيكية في عملية احتلال الأرض واقامة مشاريعها الاقتصادية والارتباط بالمصالح الامبريالية في المنطقة ضد تطلعات شعوبها، والتعامل مع السكان الأصليين كأنهم يشكلون حالة ما قبل قومية من البداوة، وبالتالي لا تتوفر لديهم تطلعات وطنية وقومية سيادية.
لقد وفر طرد السكان على الصهيونية إقامة نظام حكومي من الفصل العنصري حتى العام 1967، ولكن بقيت في إسرائيل اقلية من العرب لم تقل نسبتها في أي سنة من السنين عن 15% من مواطني الدولة وتبلغ حاليا 20% من مجمل مواطني الدولة.
ولكن “الدولة اليهودية” قامت كدولة لليهود، وليس للسكان الذين أقاموا على أراضيها عند قيامها. ولا يغير في هذا الفهم الذاتي للدولة ان غالبية اليهود الساحقة تتألف من مواطنين في دول أخرى، انها مع ذلك دولتهم. ويحق لأي منتم للدين اليهودي ان يصبح مواطنا كامل الحقوق ويحظى بامتيازات مقارنة بالسكان العرب إذا قرر الهجرة والتوجه الى إسرائيل. في حين لا يحق للاجئ الفلسطيني العودة الى دياره التي هجر منها قبل عقود معدودة، كما يصعب على المواطن العربي في إسرائيل ان يمنح الجنسية لأخيه او قريبه او زوجته في عملية لم شمل للعائلات.
لقد قامت الصهيونية بعملية فصل عنصري عبر الطرد والاحلال بالاحتلال، واستولت الاقلية على كافة مقدرات البلاد الاقتصادية وأولها الأرض، واعتبرت الدولة تعبيرا عن حقها بالسيادة أي ليس كتعبير عن حق تقرير المصير للسكان وانما كنفي لهذا الحق وبقيت في إسرائيل ذاتها أقلية عربية اخضعت بالكامل لعملية تخطيط وبناء مؤسسات الدولة اليهودية وعملية استيعاب الهجرة.. ولم تكتفِ الأقلية بالتحول الى أغلبية عبر الطرد بل خططت بشكل سافر وعلني للتحول الى أغلبية في كل منطقة من مناطق البلاد عبر عملية مصادرة أرض ما تبقى من العرب في الدولة لصالح عملية الاستيطان واقامة المدن اليهودية.
واعتبر السكان العرب مواطنين ومنحوا حق الاقتراع، لأنهم اقلية لا تشكل خطرا ديموغرافيا حاليا، ولكنهم اخضعوا في الوقت ذاته لحكم عسكري حتى العام 1966، وقد حول الحكم العسكري مواطنتهم الى مجرد لقب يكاد لا يشمل حقوقا الا وينتهكها في الوقت ذاته.
لم تحتج إسرائيل الى نظام فصل عنصري حقوقي رسمي، ولكنها مارست سياسة فصل عنصري ضد الأقلية في فترة الحكم العسكري، ولم تحتج إسرائيل الى كنيستين واحدة بيضاء والثانية سوداء لأنها استندت اصلا الى تطابق بين القومية والدين. وخلافا لحركات قومية أخرى، لم تحاول الصهيونية، كحركة علمانية، ان تسخر الدين والتميز الديني في خدمة بلورة هوية قومية خاصة، بل انشأت تطابقا كاملا بين الهوية الدينية والقومية، بحيث أصبح من المستحيل فصل الدين عن الدولة، لأن الأمة ذات السيادة بنظرها تتألف من المنتمين لهذا الدين.. وعملية الانتماء للأمة لغير اتباع هذه الديانة تشترط عملية تحويل الدين. لا حاجة هنا لكنيستين ولا لنظرية عرقية، فمفهوم الأمة ذات السيادة اقصائي بحكم تعريفه الصهيوني.
يمارس التمييز العنصري في إسرائيل في كافة مجالات الحياة دون حاجة لتأسيس نظري او حقوقي تفصيلي. فالتشريعات الأساسية للدولة، باعتبارها دولة اليهود، تحدد وظيفة كافة أجهزة الدولة وفهمها لذاتها.
وتتجاهل الصهيونية بذلك، ليس فقط المواطنين العرب الذين بقوا ضمن حدود اسرائيل، وتنفي حق اللاجئين بالعودة الى ديارهم، بل تعترض طريق بناء جماعة قومية يهودية في فلسطين باصرارها على اعتبار يهود العالم مواطنين بالقوة، ان لم يكونوا مواطنين بالفعل.
اللا سامية هي اسوأ اشكال العنصرية واكثرها بربرية ومثابرة التي عرفتها اوروبا في اوروبا.. ولكن الصهيونية لا ترد على العنصرية اللا سامية بالمساواة بل بالانفصال عن اوروبا من اجل تمثيلها استعمارياً في الشرق العربي والانفصال عنه في الوقت ذاته، وذلك بنفي حقوق السكان الاصليين وبمناصبة تطلعات شعوب المنطقة العداء.
لقد استطاعت اسرائيل ان تحافظ على هذه الحالة حتى العام 67، ولكن منذ ان خضع فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة للاحتلال المباشر، ولم تتمكن اسرائيل من تكرار تجربة الطرد، دخلت حالة الفصل الاسرائيلي في دوامة. اذ لم يعد بالامكان ضم الفلسطينيين الذين بقوا على ارضهم ومنحهم المواطنة، لان هذا الضم يؤدي الى تغيير التوازن الديموغرافي في اسرائيل بحيث تضطر الى الاختيار بين احد خياري جنوب افريقيا التاريخيين: 1) دولة ابارتهايد بالمعنى الرسمي والحقوقي وهذه دولة زائلة لا محالة، 2) دولة ديموقراطية علمانية لجميع مواطنيها، وهذه حالة تنفي يهودية الدولة. ماذا فعلت المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة؟ قررت ألا تختار احد الخيارين وكرست حالة احتلال اسوأ بكثير من الابارتهايد في جنوب افريقيا فقد ارست اسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة كل موبقات الابارتهايد:
1) حرمان غالبية السكان من ممارسة حريتهم وتطلعاتهم الى الحرية والاستقلال، الامر الذي ادى الى صدام مستمر ودموي مع حركة التحرر الوطني الفلسطينية تحول فوراً الى صدام مع النشاط اليومي الحياتي للسكان.
2) القيام بنشاط استيطاني دون ضم، ولا يوجد تعبير اصدق من الاستيطان عن الابارتهايد الاسرائيلي. فاسرائيل تقوم ببناء استيطان يهودي على ارض عربية تقطنها اغلبية عربية، وتجهز لهذا الاستيطان بنية تحتية كاملة من الطرق وخطوط الكهرباء والتلفون، وذلك بتسخير الطبيعة والمكان في خدمة هذا الجهد الاسيتطاني الاستعماري، وبتجاهل بل وصراع مع حاجات وتطلعات وتصورات الاغلبية الساحقة، سكان البلاد الاصليين،
3) ممارسة مستمرة للعقوبات الجماعية على السكان،
4) الانفصال عن السكان بحرمانهم من حقوق المواطنة، دون اعتراف بالحقوق التي يمنحها لهم القانون الدولي كواقعين تحت الاحتلال،
5) اغلاق المناطق المحتلة ومنع السكان من التحرك بحرية في وطنهم، كلما تطلب ذلك الفهم الامني للمصالح الاسرائيلية وقد تحولت حالة الحصار الى حالة دائمة لا تحجز المناطق المحتلة عن العالم الخارجي فحسب بل تحجب مدنها وقراها عن بعضها البعض،
6) عدم احترام الملكية الخاصة للسكان ومصادرتها اذا تطلبت ذلك المصلحة العامة الاسرائيلية المعرفة تعريفاً ايديولوجياً صهيونياً. يتنافى الاستيطان وطبيعته واصرار اسرائيل عليه مع الطبيعة المؤقتة للاحتلال.. ولكنه في الوقت ذاته لا يندرج ضمن سياسة ضم تؤدي الى اقامة نظام ابارتهايد حقوقي ورسمي.
وتحاول اسرائيل تجاوز هذه المعضلة بفرض نظام من الحكم الذاتي على السكان يعتبر سلاماً دائماً اي يشترط بوقف الصراع. ولكن الحكم الذاتي للسكان في دولة بانتو Bantu state هو حل وسط بين عدم قدرة اسرائيل على اقامة نظام ابارتهايد رسمي وبين عدم استعدادها لقبول شروط السلام العادل والاعتراف بالاستقلال الكامل وغير المشروط للشعب الفلسطيني وتصفية الاحتلال هذا هو شكل الابارتهايد الجديد الذي يقوم في فلسطين التاريخية.