لم ينقسم المثقفون العرب بشكل عام الى معسكرين رئيسيين ابان حرب الخليج الاخيرة بغض النظر عن موقف تأييد أو عدم تأييد الحرب علناً. فالموقف من الحرب لم يعكس دائما انقساماً ثقافياً او فكرياً حقيقياً بقدر ما عكس شكل طرح الموقف علناً في أوساط شعبية معادية للعدوان واللياقة السياسية، وصعوبة تأييد عدوان أجنبي ضد العرب عارضته غالبية اوروبا وعارضته رسمياً الدول العربية المؤيدة له فعلياً. والتصريح علنا بغير الموقف الذي يؤمن به المثقف هو تعبير عن ثقافة سياسية معينة جدا تخشى الديماغوغيا وتخشى سالبي الثقافة الجماهيرية ولا تستسيغ النقد العلني الا اذا كان النقد موجها نحو الخارج. وفي صفوف المعارضين لفظاً كان هنالك مؤيدين للعدوان فعلاً. وحتى لو قررنا ان نتجاوز العلنية الى المواقف الفعلية، فقد نتوصل الى وجود معسكرين فعليين ضد أو مع الحرب على العراق بغض النظر عما يجاهرون به علناً. ورغم قرب هذا الانقسام الفعلي من واقع المواقف لا لفظها الا أنه لا يعبر بشكل كامل عن النقاش الثقافي السياسي الحقيقي الدائر على الساحة العربية. فهو، على سبيل المثال لا الحصر، قد يقسم المواقف، والادق ان نقول الدوافع، بمعيار "حب وكره" الولايات المتحدة. في حين علينا ان نبحث عن انقسام قيمي تتوزع بموجبه المواقف من مسائل مطروحة في المجتمع العربي او المجتمعات العربية، او عن انقسام حول تحكيم العقل، او انقسام حول سبل ادارة المجتمع الحديث والسياسات الوطنية وعلاقتها بالبعد القومي، وتحقيق المساواة امام القانون والرفاه الاجتماعي، ثم العلاقة بين هذا كله وبين سياسات الولايات المتحدة الامريكية في المنطقة وتحالفاتها القائمة في البلد المعني.
فهل يصح الموقف من نظام صدام حسين اساساً لهذا الانقسام، هل يدور الخلاف حول الموقف من نظام صدام حسين؟ من الصعب ان نعثر بين مؤيدي نظام صدام حسين على من يؤيد الديموقراطية وحقوق الانسان والمساواة والحرية والعدالة الاجتماعية كقيم، او ينحاز للمنهج العقلي في رؤية وتنظيم المجتمع. واذا كان من بين مؤيدي هذا النظام من يضمر في قلبه مثل هذه الافكار فإن تأييده لنظام صدام يسخف ما يضمر. فاضافة الى الديموقراطيين قد نجد من بين معارضي النظام من يؤيدون انماطاً اخرى من الدكتاتورية، كما قد نعثر بسهولة على معارضين للنظام بسبب علمانيته لا بسبب ديكتاتوريته، او من منطلق تحزبهم او تقديمهم خدمات لقوى اقليمية اخرى وغير ذلك. لا يعكس الانقسام حول الموقف من نظام صدام حسين الانقسام الفعلي القائم في الثقافة العربية، مثلما لا يعكسه الموقف من الحرب بشكل عام. ولا يمكننا القول ان معارضة نظام صدام حسين نبعت من موقف ديموقراطي عموماً، كما لا يمكننا القول ان معارضة الحرب ضد نظام صدام حسين كانت معادية للديموقراطية ولقضية الديموقراطية في المجتمع العربي عموماً. ولكن هذا لم يعف، ولا يعفي أي مثقف ديموقراطي او مدعٍ للديموقراطية او حتى للتنور من اتخاذ موقف ضد هذا النظام، تماماً كما ان وجود معارضين للعدوان مؤيدين له فعلاً، ووجود معارضين للعدوان لاسباب غير مقبولة مثل التضامن مع النظام ذاته لا يعفي المثقف الوطني من اتخاذ موقف ضد العدوان.
وعلى كل حال يسأل السؤال؟ هل الموقف من الديموقراطية هو معيار الانقسام بين المثقفين على الساحة العربية الثقافية؟ هنالك قوى تطالب بالديموقراطية من أجل ان تسنح لها الفرصة للمشاركة في الانتخابات او كأداة لمحاصرة النظام القائم دوليا دون ان تكون هذه القوى ذاتها ديموقراطية او ملتزمة بقيم ديموقراطية. انها لا ترى من الديموقراطية إلا عملية تداول السلطة ولو لمرة واحدة على الأقل. ولكنها لا ترى ان قضايا مثل حكم القانون وحقوق المواطن بالحد الأدنى لا بد ان تسبق عملية تداول السلطة لكي تكون الاغلبية قد تعودت على احترامها وتوقعها من اي سلطة قادمة، ولكي تحترمها في عملية التبادل الاجتماعي القائمة. فقط مع أخذ القيم الديموقراطية لعين الاعتبار تصلح قضية الديموقراطية لتكون احد المعايير لانقسام ثقافي فعلي على الساحة العربية. فقد نضج هذا الموضوع ليصبح قضية ثقافية من الدرجة الاولي، وتزول بالتدريج العوائق والاوهام التي منعته من ان يتبوأ هذه المكانة، اذا يتناقص عدد المثقفين المتنورين والاصيلين في انتاجهم الثقافي الذين يأملون خيرا من سياسة غير ديموقراطية.
ليست المواقف المعلنة الآنية بالنص الحرفي من قضايا هي المعيار، فهل المقياس هو المواقف؟ وكيف تشخص الموقف المضمرة؟ لا جدوى من البحث في النوايا والقلوب او افتراضها. والموقف المعلن هو عموما اكثر اهمية من غير المعلن. ولكنه وحده كمجموعة كلمات وألفاظ وتعابير مهما كانت متماسكة منطقيا لا يعني الكثير. المقياس هو الموقف المعلن في سياق اجتماعي سياسي محدد ومدى انسجامه مع مواقف صاحبه الاخرى، ومدى انسجامه مع الممارسة السياسية.
ولا ادري اذا كان الاختلاف القائم فعلاً في الثقافة السياسية العربية هو تعبير عن انقسام بين معسكرين أو ثقافتين أو أكثر، هذا اذا استخدمت قضية بعينها كمعيار للانقسام، اي اذا استخدمت الديموقراطية مثلا كمعيار لاختيار توزيع المواقف حولها. ولكن لا شك ان قضية الديموقراطية تصلح لتوزيع المواقف الثقافية بنجاعة اكبر من قضايا تبدو ثقافية محض مثل قضية التطبيع مع اسرائيل. فالأخيرة رغم أهميتها تطمس الفوارق بين المواقف الثقافية وتجمع حول معارضتها مواقف متبانية من كافة القضايا العقلية والاخلاقية التي تشغل الثقافة السياسية العربية في المرحلة الراهنة. الموقف ضد التطبيع مع الثقافة الصهيونية هو موقف سليم براي كاتب هذه المقالة، ولكنه لا يكفي لتبرئة ذمة احد، لانه قد يتحول الى "الملجأ الاخير للنذل"، اي قد يتحول الى مانح شرعية لاصحاب مواقف نذلة في كل ما عدا التطبيع من قضايا بما في ذلك التواطؤ مع سلطة ضد زملائهم المثقفين او تحربض سلطة غير ديموقراطية عليهم.
ومن الجانب الآخر من المتراس رمى مؤخرا في وجهنا كاتب كلمة العدد في "يديعوت احرونوت" قفازة مدعياً ان العقبة الحالية امام السلام هو موقف اولئك المثقفين العرب الرافضين لاعتبار اليهود شعباً له حق على الارض في دولة، اولئك الذين يتمسكون باعتبار الصهيونية حركة كولونيالية. ومن الطبيعي ان نرفض مثل هذا التحدي. فتحدي سيفر بلوتسكر اللبرالي في "يديعوت احرونوت" هو وجه المرآة الآخر للمثقفين العرب الذين يختزلون كل شيء بدورهم الى الموقف من التطبيع مع اسرائيل، ولا يهتمون بأي قضية لا تترجم الى : مع التطبيع او ضد التطبيع.
ألا توجد شرعية لاتخاذ موقف اخلاقي وعقلاني ضد الصهيونية؟ بل يوجد اساس عقلاني واخلاقي لموقف ديموقراطي معادي للصهيونية. ما ترغب به اسرائيل هو ان نقف على قاعدة الثقافة السياسية الصهيونية في كل ما يتعلق بالصراع وتاريخ الصراع كامتحان لتنورنا وديموقراطيتنا لأن هذه الثقافة السياسية تؤثر تأثيراً مباشراً على الصراع والمفاوضات. وبالامكان الاحتفاظ بالموقف المعادي للصهيونية ثقافياً دون عداء لليهود ولا للتعايش معهم، بالامكان تبني موقف عداء معلن للمواقف العنصرية ضد اليهود مع الاحتفاظ بالموقف العقلاني والمنحاز للعقلانية ثقافياً وللموقف الاخلاقي المؤيد للعدالة والرافض للمساواة بين المحتل والواقع تحت الاحتلال. ان المساواة بينهما ليست تعبيرا عن تنور بقدر ماهي تعبير عن عجز يرافقه انحطاط ثقافي وسياسي يأدلجه.
وأخيرا، تدهورت مواقف بعض المثقفين الراديكاليين العرب الى سياسات الهوية المحض في معرض تعبئتها الرأي العام ضد السياسة الامريكية والغربية والصليبية والصهيونية بصياغة تتضمن قبولا علنيا او ضمنيا لمبدأ صراع الحضارات، وهو آخر تجليات العنصرية المتسوقة بين نظرية تعتمد البيولوجيا الفيزيولوجيا ونظرية تعتمد النسبية الثقافية ونظرية الحضارات والعلوم السياسية. وتسهل هذه المواقف تعبئة الجماهير ضد عدو خارجي وترهن الصراع ضد اي ظلم وضد اي خصم داخلي بامكانية اثبات العلاقة بينه وبين الخارج او اختلاق رابط معه ليتحول الخصم الداخلي الى مجرد امتداد للصراع الخارجي ( هذا رغم وجود عملاء فعلا ليست هنالك حاجة لاختلاق روابط مع الخارج بشأنهم)، وليصبح الصراع الداخلي ايضاً مجرد صراع بين وطنيين وعملاء. وقد طمست هذه الثقافة الصراعات الحقيقية في المجتمع العربي حول العدالة الاجتماعية وحول المساواة وحقوق المواطن، واخضعت كافة الصراعات الاخرى للصراع مع عدو خارجي مما ادى الى استهانة بقضايا الشعوب العربية الحقيقية مثل قضية الشعب العراقي مع نظام صدام حسين والنخب المتحالفة معه او الخاضعة له. لقد كانت سياسات الهوية "ضد الخارج"، وتحديد الهوية سلبيا من خلال النفي، هي الملاذ الأخير لبعض القوى القومية والاسلامية التي ليس لديها مشروع سياسي وطني، ولا تحاول تطوير برنامج سياسي.
تصح سياسات الهوية في حالات محددة جداً يتم فيها تهديد هوية اقلية بفعل سياسة منهجية وحتى هناً ايضاً يحتم الوقف الديموقراطي وضع حدود هذه السياسات لكي لا يقمع باسمها كل تناقض داخلي ولكي لا تتحول الى سلم تسلق لقيادات تدعي الحديث باسم "جماعة الهوية" لتحصل على مكاسب لنفسها كمن يتحدث باسم الهوية. ومن هنا غرام هذه الثقافة بالرمزية وعشقها للتمثيل الرمزي وصناعة الرموز فبذلك تحتكر ملكية وسائل انتاج الهوية كرأسمال يستثمر لتحقيق ارباح لصالح تقدمها هي.
هذا التدهور الى سياسات الهوية لا يمكِّن من مواجهة السياسات الامريكية ايضاً لأنه يتعامل معها بشكل يمنع التمييز بين السياسة والمصالح القابعة خلفها وبين واحدة على الاقل من هويات اصحابها المفترضة. ويحول اضافة الى ذلك دون مخاطبة تناقضات قائمة في المجتمع الامريكي وفي المجتمعات الغربية عموماً. فخطاب الهوية يوحد هذه المجتمعات خلف السياسات الرسمية، عبر جمعها في هوية واحدة.
طرحت هذه الثقافة السياسية ذاتها بحدة ابان الحرب االاخيرة على العراق ولم تميز بين العمالة لامريكا وبين جذور وجود معارضة وطنية حقيقية في العراق، كما لم تبذل جهداً للتمييز العلني بين الحقيقة والوهم، بين الواقع والتمني فيما يتعلق بظروف النظام العراقي وقدرته على الصمود بعد ثلاثة عشر عاماً من الحصار، وفي ظل تخليها المقصود عن اي ادوات للتحليل الاجتماعي والسياسي العقلي الا نظريات المؤامرة المختلفة والتعلق بحبال الهواء التي رماها الصحاف في هواء البث المباشر. ولم تبق بعد الصدمة إلا مجموعة ضباط تتهمهم بالخيانة لتفسر خيبتها.
بموازاة هذه النزعة ارتفعت اصوات معارضة لهذا التيار تستغل انهيار النظام العراقي، وكأن أحد توقع أمراً آخر، من أجل خلط الحابل بالنابل كإثبات لخطأ مواقف لا علاقة لها بالنظام العراقي. خذ مثلاً اعتبار عروبة العراق مشكلة، او ان القومية العربية مشكلة. والتحذير حتى من محاولة الجمع بين القومية والديموقراطية باعتباره محاولة تبشيرية وعظية، او اعتبار الانتصار الامريكي ضد النظام العراقي انتصاراً للمواقف الامريكية وفرصة للتباهي بالتحالف مع الولايات المتحدة ومواقفها في المنطقة.
ونحن لا نتكلم عن شماتة انظمة غير ديموقراطية متحالفة مع امريكا بأنظمة غير ديموقراطية وغير متحالفة مع امريكا او شماتة انظمة بالحركات الشعبية ومظاهراتها، فهذه حالة من البؤس الثقافي والسياسي لا تستحق التعليق لا هي ولا مثقفيها الذين تنقسم وظيفة السنتهم بين الثرثرة ولعق المؤخرات، وبين المنافحة الجوفاء اتي تنضح بما فيها فراغا، والتملق الذي ينضح بغير ما فيه. انما نتحدث عن حالة ثقافية تلتقي فيها مجموعة منطلقات واقعية او مصلحية او براغماتية او متنورة وديموقراطية فعلاً، ولكن لا يوجد لها تنظيم سياسي حقيقي ولا تمثل تياراً يطرح نفسه كبديل سياسي. وهي بالمجمل تعبر عن اشمئزاز من اوضاع الانظمة العربية ولكنها متصالحة او متعايشة معها بشكل عام وتحاول ان تقنع الولايات المتحدة ان تتخذ موقفاً أكثر نقدية تجاه الانظمة وذلك عبر بعض الحوارات التي يقوم بها مع الامريكان صحافيون ومنظمات غير حكومية ورجال اعمال متنورون. يعتبر ممثلو هذه الثقافة السياسية كل هزيمة عربية برهاناً على صدق مقولاتهم بشكل يذكر، وهم على الجاني الآخر من المتراس كما يعتقدون، بصلاة أحد قادة الاخوان المسلمين في السجن حمداً على هزيمة نظام عبد الناصر امام اسرائيل. ولا يصعب اثبات العلاقة بين ما ينتقدونه لدى الانظمة وبين الهزائم نظرياً. فبعد بانتقاء مواضيع النقد يصبحون نظريا على حق. ولكن عملياً لا علاقة بين الهزيمة وبين اهدافهم وممارساتهم السياسية. اولاً لأنهم لم يشاركوا في إلحاق الهزيمة بالنظام العراقي مثلاً، وثانياً لان لا احد شاركهم في وضع اهداف الحملة على العراق، وثالثاً لأنه ليس لديهم مشروع سياسي او اهداف سياسية مصاغة اصلاً .
وبامكانهم فقط ان يستخدموا الهزيمة باثر رجعي للترويج بشكل علني لمقولات مثل: لا جدوى من الاختلاف مع امريكا ويجب البحث عن طرق للتفاهم معها، وهؤلاء لا يدعون للحوار الجدي مع الولايات المتحدة كدولة وكمجتمع، وهذا مطلوب، وانما يتضح في السطر الاخير انهم يدعون الى تلقي الاملاءات والاوامر من البنتاغون والبيت الابيض . وينتهي هذا التوجه العاجز عن تقديم اي مشروع وطني ديموقراطي يقف وراءه تنظيم سياسي الى الاضرار بالديموقراطية بتنفير الجماهير من مواقفه تجاه العدوان ضد العراق ومواقفه الداعية للتسليم غير المبرر بالهزيمة في فلسطين ليلتقي في النهاية مع الانظمة التي ينتقدها قناعة منه ان الانظمة الحالية ارحم من التوجهات الشمولية العلنية المنتشرة بين الجماهير.