يلفت تكتيك اسرائيل في الحالة السورية النظر, فهو يرمي بكل ثمن الى خلق الانطباع ليس فقط بأن العرب يصطفون بالدور لصنع السلام معها ارضاء لاميركا, بل انهم مستعدون لأن يفعلوا ذلك بالشروط الاسرائيلية. من هنا تتزايد التصريحات الاسرائيلية, والتسريب تلو الآخر وبدون ترتيب واضح إلا من خلال المزاج المشترك الذي يوحدها أن السوريين يبثون رسائل رغبة باستئناف المفاوضات, وأنهم مستعدون للتنازل عن شروطهم بخصوص نقطة البداية. وتستغل الدعاية الاسرائيلية ميل أي مواطن عربي الى تصديق كل شيء بعد صورة صدام اياها, وبعد صور غيره من دون عبارة "سيداتي سادتي لقد ألقينا القبض عليه". والنزعة لارضاء اميركا قائمة لدى انظمة تريد ان تحتفظ بالسلطة بشكلها الحالي, مع تعديلات تمكن اميركا من طرحها كإصلاحات مقابل تغيير في السياسة الخارجية. وترى اسرائيل انها هي, من دون سواها, وعلاقة هذه الانظمة معها, تشكل امتحان هذا التغيير في السياسة الخارجية العربية. انها الامتحان الحقيقي للتغيير.
ولو كان الموضوع متعلقاً بالسلام لما برزت مشكلة, فسورية لم تغير موقفها بخصوص التـــسوية المرتـــبطة بمبدأ استعادة اراضيها التي احتلت عام 1967 كاملة. ولو كانت متعلقة بالسلام لترجمت اسرائيل فعلياً ادراكها النظري ان السلام الدائم لا يمكن إلا أن يكون شاملاً الى ترحيب بالتفاوض مع سورية على اساس قرارات الشرعية الدولية. فحتى على المسار الفلسطيني كيف يمكن ان يتم التعامل بجدية مع قضية اللاجئين الفلسطينيين في المفاوضات من دون لبنان وسورية؟
وقد نشّطت سورية اخيراً من تصريحات قياداتها بخصوص استعدادها للعودة للمفاوضات, أو جددت التعبير عن هذا التوجه في الصحافة العالمية أخذاً في الاعتبار الحاجة الى التعبير عن ذلك ازاء المتغيرات الدولية والاقليمية. وقد بدت اقتراحات سورية او ديبلوماسيتها العلنية محرجة لاسرائيل وتوترت ردود الفعل الاعلامية الاسرائيلية ضد تجاهل شارون لمقترحات السورية. كما اختلفت الاجهزة الامنية الاسرائيلية بالنسبة الى "مدى جديتها", رغم ان هنالك توجهاً عاماً بل اجماعاً على جدية سورية في المفاوضات في الكتابات الاقل صحافية والاكثر بحثية في كتب لصحافيين اسرائيليين من امثال رفيف دروكر في تقويم مرحلة باراك والمفاوضات مع سورية. وكانت الكتابات المعمقة عن مرحلة باراك قد لحست كل ما كتبته الصحافة الاسرائيلية حول تعنت سورية ووجهت الاتهام لباراك بإفشال المفاوضات لأن قراءة استطلاعات رأيه العام, وليس صنع الرأي العام, قد استحوذت عليه.
ولكن السلام ليس هو المسألة, ولو كان السلام هو محور التصريحات الاسرائيلية لأحرجت اسرائيل فعلاً ولقل منسوب الوقاحة لديها, لأنه في مرحلة شارون ليس لديها ما تقدمه لسورية سوى معادلة السلام مقابل السلام الشاميرية المعروفة. فشارون لن يوافق على الانسحاب الى حدود الرابع من حزيران ولن يفكك مستوطنات الجولان او ينسحب منها. وحزب العمل اصلاً غير متحمس للخيار السوري, وجزء من قاعدته الانتخابية يدعم مستوطني الجولان. وترى المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة ان المرحلة هي مرحلة ضغط على سورية دولياً واقليمياً وأي انجاز يمنح لها مقابل تحركها السياسي يقويها طبعاً, او يعطيها متنفساً بلغة شارون. ولذلك فإن عدم الرد وعدم الاكتراث هو جزء من الضغط الموجه اليها. ولكن مع ذلك يبقى هنالك فرق بين اسرائيل والولايات المتحدة, على مستوى الرأي العام على الاقل. فليست لدى الولايات المتحدة مشاعر تجاه السلام او عقد تاريخية بالنسبة الى العلاقة مع العرب او بالنسبة الى اعتراف العرب بها. واذا اسعفت القارئ الذاكرة فسيتبين هذا الفرق في مرحلة مسار اوسلو عندما عارضته اميركا عملياً وذهبت فيه اسرائيل في البداية من دون تنسيق مع اميركا. لأنه خلافاً لموقف اميركا الواثق بأنه ظهرت امكانية لانهاء مرحلة منظمة التحرير الفلسطينية برزت من زاوية النظر الاسرائيلية الخاصة امكانية ان تفرض شروطها السياسية على منظمة التحرير ولو بثمن ابقائها على قيد الحياة. وهنالك عناصر في اسرائيل تدعو شارون ان يمنح سورية فرصة او ان يخضع نياتها لفحص جدي. واذا كان بالامكان ابتزاز مواقف تاريخية مؤاتية من وجهة نظر اسرائيل فستختلف الاجندات الاسرائيلية والاميركية.
ولكن شارون ليس رابين وهو يعرف ان الفحص الجدي يعني ايضاً فحصاً جدياً لاستعداد اسرائيل الانسحاب من هضبة الجولان وتفكيك المستوطنات. ويعرف كتساف ذلك ايضاً ولذلك يحول الموضوع ببهلوانية اعلامية الى فحص لرغبة الرئيس بشار الاسد بزيارة اسرائيل. وكأن الخلاف هو على الزيارة, وكأن الخلاف هو على ممارسة السلام وقد تم, وليس على شروط سلام لم يتم. يصرح كتساف ليس من دون تنسيق مع مكتب رئيس الوزراء ثم يسرب من يسرب من مكتب رئيس الوزراء انه ليس لدى كتساف الصلاحية وهكذا...
والموضوع برمته ليس السلام ولا التسوية. ويحتاج المرء الى خبرة كبيرة ليتخيل كمية الكذب والاحتيال والاعتبارات الداخلية التنافسية في السياسة الاسرائيلية. وفي المرحلة الراهنة ليس السلام مع سورية هو ما يشغل اسرائيل الا اذا وافقت سوريا على الشروط الاسرائيلية واستسلمت لها, وهذا غير وارد. ولكن لو كان وارداً لما رفضته اسرائيلي بسب وجود او غياب الديموقراطية في سورية بل سيتحول الرئيس السوري الى رئيس حكيم بنظر اسرائيل, ولن تخلو شخصيته من السحر والجاذبية كما يتم تصوير زعماء عرب حالياً في الاعلام الاسرائيلي وقد كانوا يكنون بعكس هذه الصفات.
المسألة هي الأجواء التي ترغب اسرائيل ببثها من خلال هذه الرسائل ان المنطقة كلها تصطف بالدور لارضاء اسرائيل. ويجري بشكل مكثف تسريب تصريحات حول مفاوضات سرية وتحركات عربية باتجاه اسرائيل وتشمل التسريبات الدول العربية كافة التي لا تربطها باسرائيل علاقات سلام. وسورية تعلن انها لا ترى مجالاً لمفاوضات سرية, وهذا اعلان في مكانه. فالتأثير المعنوي بنظر اسرائيل لا يقدر بثمن لأن الاشاعة حول التهافت عندما تنتشر في دول لا تثق ببعضها البعض اصلاً تؤدي بذاتها الى تهافت, كما تؤدي الى كسر معنويات الناس على مستوى المنطقة العربية, فهذه مسألة هيمنة ثقافة. هذا هو الخيط الناظم الاساسي للتسريب الإعلامي المستمر في ما يتعلق بالتحركات السياسية العربية الفعلية منها والوهمية.
الحالة النفسية والمعنوية التي يراد بثها هي حالة تسلل فردي غير منظم نحو اسرائيل. فلول قبائل متحالفة صورياً تتبعثر الى كل الاتجاهات بعد خسارة في معركة, "كل واحد يلحق حاله". والحالة العربية ليست كذلك تجاه اسرائيل على الاقل, وحيث يتم التسلل الفردي فعلاً لا يفترض ان تكون كذلك.
لا بد ان شارون يفرك عينيه غير مصدق ان كل هذا يحل به, او عليه. فعلى رغم سوء الحال العربية, وعلى رغم الحادي عشر من ايلول, وعلى رغم السياسة الاميركية العدوانية في المنطقة العربية, بدأ الرجل عهده بلهجة تكاد تكون اعتذارية تجاه الولايات المتحدة خشية ان يحصل اي خلاف وبحثاً عن "السترة" دولياً مع حزب العمل, ومتأثراً بوضعه الدولي السابق, ومؤكداً مبدأ الدولة الفلسطينية ليبدو صاحب برنامج سياسي على الأقل.
آمن شارون دائماً بسياسات القوة ولام الحكومات الاسرائيلية على انها لا تدع الجيش لاسرائيلي ينتصر فعلاً بتحرير يديه ليحارب حتى النهاية وليفرض استسلاماً حقيقياً على العرب. كانت هذه تعليقاته بعد حرب عام 1973, وكانت هذه تعليقاته على معارضيه في حرب لبنان. انه يؤمن بسياسات القوة وفكرته عن العرب منذ عام النكبة سيئة للغاية. وكان بعض المحليين المتفائلين يعتقدون ان فيه جانباً براغماتياً يمكنه من فعل أي شيء, بما في ذلك ازالة المستوطنات التي بناها بيديه, اذا تطلب ذلك أمر وصوله الى السلطة او استمرار وجوده فيها.
ولكن التحول في السياسة الاميركية حل في عهده, وكذلك حالة تداعي الجدار العربي مقابل تشييد الجدار الصهيوني. وكل شيء يوحي له ان يتمسك بآرائه العنصرية المسبقة التي فطر عليه سياسياً, أن العرب فلول امام سياسات القوة الحازمة اذا توفرت لدى صاحب هذه السياسات رؤية استراتيجية ووضوح في الهدف يمكنه من الالتصاق به رغم تقلب ضعفاء النفوس وضغوطهم.
وقد شاءت المفارقات ان يستفيد شارون من توجهه الأصلي هذا في فترة يقدم العرب فيها مبادرة سلام كان يفترض ان تثمر في محاصرة شارون. ولكن ما أن يصمد أمامها هنيهة حتى يبدأ العرب بعرضها فرادى في مزاد, او بالأحرى مناقصة العلاقة الاميركية مع كل دولة عربية على حدا. ويبتسم شارون, فلا يحتاج المرء الى ذكاء خارق لمعرفة انه المستفيد من اعتقاد الكثيرين من العرب ان المفتاح لقلب اميركا والطريق لكسب ودها وعطفها هو التنازل في الموضوع الاسرائيلي.
اميركا في العراق, في الخليج, هي في بيتنا يقول المؤيدون العرب لهذا التوجه. والقضية الفلسطينية اصبحت قضية محلية لا تهم أحداً, يؤكد مشجعو هذا التوجه في الغرب, فقد اختفت من الصفحات الاولى في الصحافة الغربية, وكأن وجودها على الصفحات الأولى كان مفيداً بمعنى ما. وهي, مع الاحترام لكل الضحايا, يتابع هؤلاء, لا تقارن بدموية او محورية القضايا الأخرى التي جعلت العالم يستنفر كما في البوسنة وكوسوفو والعراق وغيرها. والولايات المتحدة لن تخرج عن طورها لإبداء الاهتمام بالقضية الفلسطينية عشية الانتخابات الاميركية.
وفي ما عدا كون القضية الفلسطينية قضية عادلة يثبت تاريخها انها كل شيء إلا قضية محلية, وأن هذا التهويل العالمي النزعة انها محلية هو دليل عالميتها. فلا توجد قضية محلية اخرى مهما كانت دموية تحظى بمثل هذه الحملة العالمية لاثبات محليتها. وهي ليست عالمية بسبب مركزية الشعب الفلسطيني أو عبقريته بل بسبب مركزية اسرائيل والمسألة اليهودية وبسبب حساسية المنطقة العربية. وان كان هذا كله لا يكفي فعلينا ان نضيف انها آخر قضية كولونيالية عالقة, وأنها تحتل مكانة في قلب كل عربي لأنها بقية التركة الاستعمارية خاصة في المشرق, ولأنها متعلقة بشرعية الأنظمة, وألف لأنها أخرى.
ولكن كل المحاولات الكبيرة لتصغير القضية الفلسطينية هي الواقع مقدمة لعرضها كنزاع قبلي محلي على قطعة ارض, هكذا يستطيع المعتدل الليبرالي ان يهز رأسه بحكمة الوسطي المـــتوسطة أسفاً من حماقة قيادتين سنحت لهما فرص لتحقيق السلام فضيعاها, ولا مخرج امام الشعبين ســوى تغيير القيادتين او انتظار مجيء قيادتين معنيتين بالتسوية.
في كل هذا الهذر المتعجرف الذي يتحدث بلهجة المدرس بخيبة أمل من شعبين كاملين لا تذكر كلمة احتلال, ولا يتم التمييز بين المحتل والواقع تحت الاحتلال. في مثل هذه الحالة يعفى الصراع من معايير العدالة والانصاف, ويتم التعامل معه من زاوية ضرورة توفر حكمة الزعماء العشائرية اللازمة لحسم القضايا من منطلق الواقعية وفهم ما هو متاح في ظروف الاستفراد الاسرائيلي بالشعب الفلسطيني.
في مثل هذه الظروف الصعبة يتم تحويل الصراع الى صراع قبيلتي رعاة على قطعة ارض تحسمها قوة القوي وحكمة المهزوم في تقبل الهزيمة وحقن الدماء وقبول شروط القوي, او يتم التمسك بعدالة القضية والتعبير عن عدالتها بشكل عقلاني يمكن من مواجهة الفرضيات اعلاه اضافة الى تعديل وسائل النضال بحيث تتلاءم مع متطلبات الصمود لفترة طويلة لا يلوح فيها أمل لتسوية عادلة. وما قلناه أعلاه يطرح عادة بشكل حجج متماسكة عقلانياً بحيث اذا قيلت بنبرة مرتفعة بدت كالتأنيب والنهي الموجه ضد اولاد عاقين لا يعرفون مصلحتهم.
وفي ما عدا طرحها اعلامياً, وهذا ممكن فردياً ويقوم به افراد في المرحلة الحالية, لا يمكن البدء بتنفيذ هذه المهمات من دون أن تكون هذه موضوعاً لبحث في اطار قيادة موحدة للشعب الفلسطيني. لقد بات هذا الامر ملحاً.