لن يمنح شارون "السلطة" الفلسطينية أراضي احتلت عام 1948, وهو يحاول اصلاً فرض الحدود وضم جزء مما احتل عام 1967 في اطار ما يسميه هو "فك الارتباط من طرف واحد" لأنه لا يوجد شريك فلسطيني لأفكاره المتعلقة بدولة فلسطينية على 40 في المئة من أراضي الضفة الغربية إضافة إلى قطاع غزة. وكنا قد بينّا في تحليل لخطاب شارون من مؤتمر هرتسليا أنه يجب أن يؤخذ بجدية لأنه لا يؤمن بامكانية التوصل الى حل دائم حالياً, وأنه سيتخلص من "خارطة الطريق" عبر فرض للحدود من طرف واحد يبدو كأنه "انسحاب من طرف واحد", كما يبدو خطوة جريئة خاصة وأن اليمين الاسرائيلي سيقيم القيامة ضد سحب أي مستوطنة. واليمين لا يخسر بذلك شيئاً لأن الضجة و"الأزمة الوجودية" المثارة حول المستوطنات التي ستفرغ تحمي المستوطنات الاخرى على الأقل من أي تفكير بتفريغها.
وسحب المستوطنات السبعة عشر (لماذا ليس الواحد والعشرين؟) من قطاع غزة ليس مقدمة لسحب تلك التي في الضفة ما دام لا يتم في مفاوضات. ولا يمكن تكرار حفلات المواجهة مع المستوطنين والأزمات الوزارية والاستفتاء وكافة التخريجات وألوان الفهلوية التشاطر والتذاكي كل عامين او ثلاثة. واسرائيل تسحب من هنا وتثبت الاستيطان هناك. وواضح ان شارون يحبذ فرض خطوات من جانب واحد لأنه يفترض عدم وجود طرف فلسطيني مستعد أن يقبل بأفكاره الحالية. وهو مستعد ان يدفع ثمن فرض الحدود من جانب واحد بسحب مستوطني 17 مستوطنة في قطاع غزة لا أمل لها في الحياة في داخل القطاع اطلاقاً. ينشغل الرأي العام العربي والعالمي بالخلاف الداخلي الاسرائيلي حول سحب المستوطنات ولكن يتم في خضم النقاش تهميش مسألة ان هذا كله يتم في سياق فرض الحدود من طرف واحد وتأكيد السيطرة الاسرائيلية على مناطق من الضفة الغربية.
ولا يمكن ازاء هذه الصورة أن نتجاهل ما لا يقال ويجب ان يلاحظ: أن شارون هو الشاغل الرئيس للرأي العام العربي, كأنه الذات الفاعلة الوحيدة في غياب الفعل السيـاسي العربي. الجمـيع ينتظر ماذا سيقول, وقد وصل الأمر ان تبث وسـائل اعلام عربية خطاباته بثاً مباشراً, وهذا يعكس وضعاً عربياً مشلولاً وخطيراً. فالرجل يعلن عملياً وفاة "خارطة الطريق" قد باتت ديدن قوى التسوية العربية وصنوها. وهو مع ذلك يريد ان يبــقي على تفاهم استراتيجي مع الولايات المتحدة, ويسابق الزمن لقصم ظهر الحركة الوطنية في الضفة والقطــاع عبر اعمــال تنكيل وقمع مستمرين, وذلك في سنة الانتخابات الأميركية, وقبل إعادة الانتشار من طرف واحد. هذا هو الفضاء السياسي الذي يتحرك في داخله في سلسة طويلة من المناورات تتضمن ميدانيا على الساحة الفلسطينية فيما عدا انهاك وضرب الحركة الوطنية خلق حالة من الفوضى فلسطينياً بمحاصرة الشرعية والمرجعيات الوطنية, وفرض الحدود من طرف واحد مع اعادة الانتشار.
في مثل هذه الحال يرجو حكام اسرائيل ان تنشأ حالة من الفوضى او الارتباك, وان تؤدي هذه الحالة الى صعود قوى مؤهلة لتنظم العلاقات مع أميركا واسرائيل وبعض الدول العربية, وأن تفرض بلغتها الأمن والنظام, وأن تبدأ عملية تفاوض لا تنتهي لترتيب العلاقة بين الكيان الفلسطيني المتولد عن اعادة الانتشار واسرائيل بما فيها مسائل الحل الدائم. وهذا سيناريو محفوف بالمخاطر.
وكلما صمد شارون امام مبادرة سلام عربية نسمع اصواتاً تدعو لتغييرها بتنازلات جديدة ثم انتظار تصريحات شارون ومبادراته المقبلة. ويزداد هذا السلوك السياسي العربي عقماً وعبثاً في غياب افق لتسوية شاملة في المدى المنظور. لقد رأينا مبادرة جنيف, وهي تتحول بالتدريج الى مسعى لإقناع العرب واوروبا بتبنيها رسمياً لتتحول إلى نقطة انطلاق جديدة لتنازلات مقبلة في المفاوضات. لقد غيرت وثيقة جنيف بعض ثوابت الحل بإتجاه مســلمات اليســار الصهيوني مثل التنازل عن حق العودة وعن ازالة المستوطنات كافة من دون أن يكون اليسار الصهيوني في السلطة. وبقينا مع سطر الوثيقة الأخير ألا وهو تنزيل سقف مبادرة السلام العربية حتى قبل بدء المفاوضات.
عربياً, لا يمكن التعويض عن فقدان زمام المبادرة لصالح شارون بالتعويل على دول اجنبية. ولو شكل العرب حالة منظمة بالحد الأدنى في اطار يجمعهم على رغم التعددية, وبالتعددية القائمة فإنهم سيراهنون على انفسهم ان كان ذلك في التعامل مع اوروبا او الولايات المتحدة. ولا يمكن ألا يتوفر الحد الادنى من التنسيق العربي لدى التعامل مع الولايات المتحدة, وان يتوفر في التعامل مع اوروبا. وبدونه لن تعرض اوروبا خدماتها على العرب من طرفها. واذا استمر العرب بالتعامل مع الولايات المتحدة بالشكل الرث الذي نشهده حالياً فإنها مسألة وقت حتى تعدل اوروبا الرسمية موقفها ليستقيم في القضايا العينية المطروحة مع الموقف الأميركي, وذلك على رغم رأيها العام الودود للقضية الفلسطينية. وقد شهدنا هذه العملية تتكرر عدة مرات في السنوات الأخيرة. فكلما أبدى العرب ضعفاً تجاه الولايات المتحدة وكلما تسابقوا فرادى على تخفيض سقف الثوابت الوطنية والقومية لكسب ودها لصالح هذا النظام او ذلك, كلما حصل تراجع في الموقف الاوروبي تجاه القضايا العربية. لا مكان ولا مبرر للجمع بين ضعف داخلي ورهان على الخارج.
يتطلب الامر بالطبع ضغطاً شعبياً أكبر لفرض الحد الأدنى المطلوب من العرب على الأنظمة في تعاملها مع الولايات المتحدة, حينها سنرى ان الموقف الاوروبي وغيره تجاه العرب يتحسن ويصبح اكثر ثباتاً, ولكن لا مجال للحديث عن رهانات على قوى خارجية في وضع العرب الحالي.
أما على المستوى الفلسطيني فلن نجدد كثيراً إذا قلنا أنه لا سبيل آخر سوى اتفاق السلطة وفصائل المقاومة على برنامج سياسي وعلى استراتيجيات النضال بالخطوط العريضة. وتبدأ هذه العملية في حركة فتح ذاتها. وتنتظر الحركة قرارات صعبة ففرض النظام يتطلب مواجهة مع القوى المحلية العفوية الأكثر تمسكا بالثوابت مما يفتح المجال لتيارات نقيضة تعادي القيادة بحجة النظام ولكنها تطرح بديلاً سياسياً اميركياً وتنتظر فرصتها. وترك الأمور على ما هي عليه يؤدي الى فوضى تطيح بكل شيء.
والبديل لترتيب الوضع الداخلي هو حل السلطة ونشوء حلة فوضى. والسلطة اذا ارادت الاستمرار دون التحول الى ادارة جيتو بعد اعادة الانتشار لا تستطيع ألا أن تصل الى اتفاق مع فصائل الكفاح المسلح, وهي لا تستطيع ان تلج هاوية الحرب الاهلية. وقد بات هذا الأمر يتطلب اطاراً للحوار وتوسيعاً وتعميقاً له من حوار على "هدنة" أو "وقف اطلاق النار" الى حوار حول اطر النضال والعمل السياسي. هذا يتطلب من كافة القوى ان تلتزم بقرارات مرجعية مشتركة وان تطور حداً أدنى من التفاهم السياسي. من أجل ذلك لا يمكن أن يكون الحوار تكتيكياً هدفه من ناحية السلطة وقف اطلاق النار ومن ناحية الفصائل تمرير المرحلة الصعبة, بل يجب أن يكون الهدف تحديد ايقاع المقاومة ونوعها واطار البرنامج السياسي الملزم في المفاوضات. أما وقف اطلاق النار الشامل فلا يفترض أن يكون من طرف واحد بل من الطرفين. أصبح هذا الموضوع وجودياً للحركة الوطنية الفلسطينية, خصوصاً ازاء غياب امكانية تسوية شاملة في المرحلة القريبة القادمة, ومحاولة دفع الفلسطينيين الى حسم في موضوع التسوية في غياب امكانية تسوية وعلى حساب وحدتهم الداخلية في ظل الاحتلال.
حول تبادل الاراضي بالسكان... وما زلنا مع تصريحات شارون, لا نعرف الكثير من التفاصيل عن أفكاره بشأن مبادلة اراض مأهولة بمواطنين عرب واقعة داخل الخط الأخضر مقابل ضم أراض "غير مأهولة" من الضفة الغربية لاسرائيل. ولكن مع ذلك يجب أخذها بالجدية التي تستحق لأنها تعكس ثقافة سياسية عنصرية, إذ لا وجود لدولة حديثة ديموقراطية أو غير ديموقراطية تتعامل مع جزء من المواطنين كأنهم "مشكلة ديموغرافية" أو "قنبلة ديموغرافية" إلا وأدّى سلوكها هذا الى مذابح وادانة دولية. وفي رأي شارون أنه اذا كان لا بد من تبادل الاراضي فلتتخلص اسرائيل من مواطنين عرب. هذا إذا كان لا بد...
وكأن شارون يردد صدى خطاب نتانياهو في مؤتمر هرتسليا نفسه, منجم الاقتباسات الطافية ودليل الصحافي الكسول الى المؤامرات السهلة: أن المشكلة الديموغرافية الحقيقية هي مشكلة عرب الداخل. وينطلق شارون من ضرورة تقليل عدد العرب المواطنين في الدولة العبرية وذلك في سياق حل دائم مع الفلسطينيين. وهو يقول ذلك لصحيفة معاريف بشكل مخفف: "أوعزتُ بفحص الجوانب القانونية لمثل هذه الخطوة"!, ولكن واضح أنه أكان شارون جدياً في الخطوة ذاتها أم لا, واذا حضر طرف فلسطيني أم غاب فإن ما يتبقى من هذا الكلام هو أنه يرسم بالـ "فونت" العريض القاتم علامة سؤال على مواطنة العرب في الداخل. إنها مواطنة غير مفروغ منها, ولذلك فهي بحكم تعريفها مواطنة غير متساوية. وهذا ما ينص عليه قانون المواطنة الاسرائيلي ذاته الذي يميز بين مواطنة أيديولوجية نابعة عن تعريف الدولة ورسالتها التاريخية ولا يمكن فصلها عن اليهودي بحكم كونه يهودي, ومواطنة طارئة ناجمة عن بقاء عرب في البلاد كأنها مفارقة تاريخية. وهذه مواطنة قابلة للنزع والفصل بينها وبين حاملها, فهي لا تحق له لكونه هو. لقد منحت له, وما منح يؤخذ ايضا. هذا تمييز بنيوي قائم في تعريف الدولة لذاتها كدولة اليهود. انه تمييز عنصري.
وهم يعرفون ان "الترانسفير" غير وارد لأنه يعني العودة على تجربة اللجوء التي يرفضها أي مواطن عربي في الداخل وسوف يقاومها والنتيجة هو مذبحة حقيقية. اذاً التهجير كاقتلاع بالقوة غير وارد. وشارون لن يتخلص من المواطنين العرب مع ارضهم سوية, فماذا يبقى؟ يبقى ان تواصل اسرائيل سيطرتها على الأرض ويسمح للناس الاقامة عليها ولكن مواطنتهم تكون في اطار السلطة او الدولة الفلسطينية التي تقوم في اطار حل دائم, كخطوة كفيلة بتأمين بقاء مجرد من الحقوق السياسية. وبرأيي فإن ما يتبقى من اقتراحات شارون بخصوص عرب الداخل هو الفصل بين إقامة المواطنين العرب residence وبين حقوقهم السياسية التي تحملها المواطنة citizenship . وهذا تعبير عن مزاج سياسي قائم في المؤسسة الصهيوينة الحاكمة ويعكس رغبة بالتخلص, في اطار الحل الدائم, من دور المواطنين العرب المحتمل او الممكن في الداخل.
من ناحية أخرى تريد اسرائيل ان تورط عرب الداخل في حالة ابتزاز من نوع التعبير المستمر عن الرغبة بالبقاء كمواطنين في الدولة وهي تعتبر ذلك مديحاً لها, اذ أن العرب في الداخل يدفعون الى تأكيد التمسك بالمواطنة في إسرائيل في مقابل الدولة الفلسطينية. ولا حد للفخر الاسرائيلي بهذه التعبيرات عن التمسك بالمواطنة الاسرائيلية. كانك تمسك بتلابيب مكسيكي في اميركا وتسأله عن سر تمسكه بالمواطنة الأمريكية, مع الفرق أن المواطنين العرب في الداخل لم يهاجروا الى اسرائيل, بل هي التي هاجرت اليهم.
وما السؤال الا ابتزاز. فالفرد كفرد يبحث عن حياة افضل خاصة في ظروف الأزمات وحالة عدم الاستقرار. ولكن العرب في الداخل لم يهاجروا الى اسرائيل, بل هم في وطنهم. وبمعنى ما فإن المواطنة قد فرضت عليهم في البداية, وبدونها أي بدون "الهوية الاسرائيلية" لما كانوا بقوا في وطنهم. لم تكن هنالك أداة قانونية اسرائيلية أخرى للبقاء. وقد كانت لعنة حقيقية تحت الخكم العسكري ثم تحولت الى امتياز مقارنة بوضع الفلسطينيين القانوني تحت الاحتلال. ثم تحولت المواطنة إلى إطار الحياة اليومية والسياسية وإلى أداة للمطالبة بتحسين الظروف والمساواة.
طبعاً في البداية كان هنالك من تعاون مع إسرائيل, مع الدولة التي قامت على خرائب الشعب الفلسطيني في ظروف عزلة وحصار بعيداً عن الأمة العربية. وقد رافقت حياة العرب في الداخل دائماً قوى انتهازية تدعوهم إلى التخلي عن الهوية الوطنية والانتماء الوطني مقابل المساواة في الحقوق التي تمنحها المواطنة الاسرائيلية. وهذه القوى ما زالت موجودة وتغير خطابها ومظهرها بموجب الظروف, ولكنها موجودة. وتصريحات شارون تقويها, لأنها تدفع هذه القوى للتعبير عن الولاء والإذعان للسياسة الإسرائيلية مقابل المواطنة. وبهذا المعنى فإن هذا يقوي نزعة شارون أن تكون المواطنة مشروطة بالولاء السياسي أو الخدمة العسكرية أو الخدمة الوطنية أو غيرها من تعبيرات الولاء للمشروع الصهيوني.
وتكرر إسرائيل مسألة الديموغرافية حتى بات سلوكها يؤكد أنها ليست دولة يهودية وديموقراطية بل دولة "يهودية وديموغرافية". لا توجد دولة مسكونة بهوس ديموغرافي بهذا الشكل. في كل مكان في العالم ينعت التعامل مع قسم من المواطنين كأنهم مشكلة ديموغرافية بالعنصرية. وفي أي حال فإن حل المسألة في المناطق المحتلة بنظر الغالبية في اسرائيل حاليا هو الانفصال من طرف واحد وقيام كيان فلسطيني منقوص السيادة مغلف خارجياً بجدار الفصل العنصري وتقع الحدود على شرقه حيث يرابط الجيش الاسرائيلي و"تشجع" اسرائيل (وهذا تعبيرهم) الهجرة الى شرقي النهر. وأكاد أجزم بأن شارون يعتقد ان مستقبل الكيان الفلسطيني محكوم بالارتباط بشرقي الاردن وليس بإسرائيل غرباً. فإسرائيل تخشى ان يطور مثل هذا الارتباط دولة ثنائية القومية .