يوم الاثنين الماضي، 26 أيلول (سبتمبر) فاز أرييل شارون على المطالبين بتقديم موعد إنتخاب رئيس الحزب ومرشحه لرئاسة الحكومة ومن ضمنهم نتنياهو، بفارق 104 أصوات من بين حوالي ثلاثة آلاف وخمسين عضوا في مركز الليكود. ولا يعتبر هذا فوزاً ساحقاً بأي مقياس، لكنه بنتائجه فوز على أية حال. فهو كافٍ لقلب حسابات من هدفوا إلى تقديم موعد انتخاب رئيس الحزب ومعه طبعاً موعد الإنتخابات البرلمانية. لقد فشل أول إنقلاب على رئيس حكومة يقوم به حزبه، وبالتالي بقي التاريخ الحزبي الإسرائيلي الغني بالخدع والمؤامرات خالياً من إنقلاب كهذا. ووضع حداً، حاليا للتوقعات حول حجم التأييد الذي قد تحصل عليه قائمة منفصلة يؤسسها شارون لو تجرأ وغامر بشق الحزب كما فعل بن غوريون عندما أسس حزب "رافي" ضد حزبه وخسر.
وبهذه النقطة نبدأ. فلا شك برأينا أنه من عوامل فوز شارون هو تهديده المبطن، والمعلن من قبل "المقربين"، أنه لن يتوانى عن شق الحزب إذا نجح الإنقلاب عليه. فقد أقنعت هذه "الحجة" العديد من المترددين، حتى من معارضيه غير المترددين، لأنه قد تترتب عليها نهاية حكم الليكود في الإنتخابات القادمة برأيهم، هذا عدا الرفض الغريزي للتخلي الطوعي الغبي، على الأقل في سريرة نشطاء أحزاب السلطة في عصرنا، عن أكثر من سنة سلطة ثمينة من ناحية المنافع والوظائف وغيرها. فأحزاب السلطة تقيس منافع البقاء في السلطة أيضا قبل بقاء قيادة الحزب أمينة لخطه.
وبالإمكان فعلاً الإسهاب في تحليل مدى حرص شارون على وحدة الليكود الذي يدعي أنه أسسه. ليس لدى الرجل أي ولاء لأي حزب. وهو بهذا المعنى شخصية وطنية كما في المدرسة السياسية العربية، أي باعتبار أن المصلحة الوطنية كما يراها هو، متلاحمة مع رأيه ومتطابقة مع مصلحته، هي فوق الحزب والحزبية. وكان شارون في الواقع كضابط متخرج لتوّه من معارك القناة بعصبة حول جبينه قد أقنع مناحم بيغن بتوسيع "غاحل" (حيروت واللبراليين) ليشمل قوى أخرى مثل "المركز الحر" وغيرها لفرض الإنتصار على حزب العمل. وعل كل حال هذا لا يجعله مؤسساً كما ادعى زعيم اللبراليين في ما بعد سمحا ايرليخ ضد شارون. فمؤسس الليكود هو بيغن من دون منازع. ولكن شارون كان يهدف إلى ترتيب مستقبله السياسي غير الممكن في الحزب الحاكم، أي حزب العمل الذي كان يسمى "المعراخ" في حينه (تجمع مباي ومبام). وكان شارون وعيزر فايتسمان جنرالي الليكود الوحيدين في مقابل دزينات من الجنرالات في حزب العمل الحاكم.
لا يعاني شارون من ولاء خاص للأحزاب فقد تعامل مع الاحزاب التي استضافته كأداة للوصولية الشخصية. وقد شن معارك داخل الليكود وهاجم رؤساء الحكومات جميعاً من جهة اليمين بمن فيهم نتنياهو أيام "تصالح" مع عرفات في تشرين أول/أوكتوبر 1996 بعد إنتفاضة النفق، وفي فترة مفاوضات "واي" بين نتنياهو وعرفات برعاية الملك حسين، عندما وجه شارون نداءه الشهير لشباب المستوطنات ليحتلوا التلال، وحينها ظهر مصطلح النقاط الاستيطانية غير القانونية.
ومشهد إغلاق الميكروفون لشارون، رئيس الحكومة من الليكود في مؤتمر حزبه وقطع مكبرات الصوت لمنعه من إلقاء خطابه بعد إتلاف الأسلاك تماماً يذكّر بمشهد أخرجه ومثّله شارون نفسه. ولا بد أن الناس يذكرونه بنفس حجمه الحالي وصوته السوبرانو المخنوق وهو يمنع من الكلام رئيس الوزراء اسحاق شامير المشهور بتشدده وتصلبه. في العام 1990 ضغطت حكومة الولايات المتحدة على شامير للتقدم بمبادرة ما تقترب من أفكار طرحها وزير الأمن في حكومته رابين في بداية الإنتفاضة الأولى. وقد تقدم شامير بأفكار لا تتضمن التفاوض مع م.ت.ف. ولكن شارون اتهمه بالرغبة بالتفاوض مع المنظمة وحاول منعه من إلقاء خطابه في المؤتمر. فكيف منع شارون رئيس حكومته من الكلام؟ أخذ شارون الميكروفون في خضم خطاب الأخير وراح يسأل أعضاء المركز أمام رئيس حكومته المذهول مما يجري:" من منكم مع تصفية الإرهاب؟ "من يؤيد أرض إسرائيل؟"من يؤيد وحدة القدس؟" "من يؤيد التفاوض مع المبعدين؟". عندها أدرك شامير ما أدركه بيغن وايرليخ ويدين من قبله، أن الرجل لا يعرف الروادع في السياسة الحزبية.
مجرد خاطرة: مستشار شامير الأول في حينه ضد شارون كان نفس مستشار شارون الأول حاليا ضد نتنياهو ألا وهو الوزير إيهود أولمرت!!.
لم يهتم شارون كثيرا بإنهاء أو إلقاء خطابه. فالخطاب في نظره ليس عاملا في الإنتصار، بل هنالك عوامل أخرى أهمها السلطة ذاتها وسياسة القوة داخل الحزب نفسه. فبيديه مقاليد الحكم وإلى جانبه أميركا وهو قادر على تهديد حزبه بفقدانهما.
التشويش على صاحب حق الكلام على المنبر إلى درجة منعه من الكلام وتبادل اللكمات هو مشهد مألوف في الليكود. هذه ثقافة حزب الليكود الرعاعية الغوغائية. وفيه يتعايش الغوغاء مع محاضري الجامعة والضباط ورجال الأعمال والسياسيين. لا يتخيل ذلك الكثيرون في أوروبا. فالغوغاء هناك وإن انضموا إلى حزب حاكم يكونون عادة هادئين في إجتماع مصيري. فقط في إسرائيل يصرخ الانتهازيون ولصوص الوظائف وخزينة الدولة كأنهم في سوق. شيء ما إسرائيلي جدا في الليكود. هكذا تبدو إسرائيل في السوق وفي محطة الباصات وفي المعارض والساحات العامة وفي حملات التنزيلات وغيرها. ليست إسرائيل هنا أوروبية أو شرقية. بل هي شيء آخر تماما، إنها إسرائيلية. وفي المقابل هنالك نخبة واسعة تؤيد الليكود وغيره ولا تصرخ كالباعة المتجولين في السوق، وهي التي تدير البلد وتسلم في الوقت ذاته بقوة الغوغاء السياسية. خلطة غريبة ولكنها تحوي أيضا نخبة واسعة في المجالات كافة. وهي رغم انتشار الغوغائية ما زالت واسعة نسبةً لحجم المجتمع.
وشارون نفسه ليس مجرد انتهازي مارق بين الأحزاب بحثاً عن وظيفة سياسية أو عن منصب نائب أو وزير يتخيله المرء بسهولة إن كان ذلك في الكنيست أو البرلمانات العربية الراهنة، بل هو جزء من نخبة عسكرية إقتصادية سياسية لديها تصور متين في ما يتعلق بمصلحة الدولة، وهي تحاول أن تفرضه.
قلنا اذًا إن شارون فهم نفسية الغوغائيين الذين استخدمهم في الماضي، وقد هددهم بتقويض نظام المنافع الحزبية التي يعيشون عليها فانتقل قسم منهم من النواة الأيديولوجية الصلبة التي قد تطعمهم كلاماً، ولكن وصولها إلى السلطة ليس مضموناً، ونتنياهو انتهازي أصلاً لا يختلف عن شارون إلا بكون الأخير رئيس حكومة حالياً والأول رئيس حكومة ممكناً، وتقل إمكانيته إذا شق شارون الحزب. هؤلاء حسموا لصالح العصفور الذي في اليد، أي بقاء الحكم بيد الليكود. وماذا أيضاً؟ ليس الكثير في الحقيقة. فالإنتصار جاء بالكاد، والتفوق كان ضامراً لا يبرر إستلال الكثير من النظريات لتفسير إنتقال مائة شخص من معسكر لآخر. وبالإمكان شراؤهم في النهاية، فهذه حكومة ووظائف وتراخيص وقوة سياسية تتحول إلى منافع شخصية أيضاً. ولكن لا بد من الإشارة إلى تأكيد بوش لشارون علناً أنه سوف يفوز في الإنتخابات. وفي ذلك تعبير غير مألوف عن رغبة أميركية لا بد أنه ترك انطباعا على أكثر من عضو مركز في الليكود. فمن في إسرائيل يبحث عن خلاف مع أميركا؟ ونحن هنا سوف نوفر على أنفسنا وعلى القارئ العودة إلى تاريخ علاقة شارون مع أميركا وانتقاده لارتباط بلاده المفرط بها حين كان في المعارضة، أو حين كان مجرد وزير، وتاريخ صراعه مع إدارة ريجان وموفدها فيليب حبيب أيام الحرب على لبنان. ولكن لا بد من رؤية أهمية الولايات المتحدة لمن يحكم في إسرائيل، وخوف بعض أعضاء المركز الثلاثة آلاف من قيادة البلاد باتجاه مخالف لرغبة أميركا.
لم يكن حسم المعركة أيديولوجيا على كل حال. بل حسمها الخوف على المصالح وتهديد شارون بشق الحزب ومباركة بوش لشارون بالفوز قبل أن يفوز، ولا شك أن بوش قد قصد انتخابات البرلمان وليس انتخابات داخلية في الليكود. أي أنه تم ربما رغم استمرار وجود أغلبية تعارض فك الإرتباط. وهي أغلبية لا شك تعارض الانسحاب من دون إتفاق من أجزاء واسعة من الضفة الغربية.
وهي عندما تستسلم لشارون فإنها واثقة أن للنقاش معه حدوداً. ليست لديه حدود عندما يتعلق الأمر بالسياسة الحزبية من أجل الوصول إلى الحكم. ولكن هنالك حدود مصلحة وطنية تضبطه. ولذلك فهي واثقة من أن شارون لن ينسحب إلى حدود الرابع من حزيران ولن يفرط بالقدس ولا بالمستوطنات الرئيسية على طول الخط الأخضر، وأنه، وهذا هو الأساس، ما زال متمسكا حتى النهاية دون تراجع مليمتر واحد بسياسات القوة. وقد رتب شارون أن يتم إغتيال أحد قادة الجهاد المعروفين إسماً للجمهور الإسرائيلي ( محمد الشيخ خليل) في نفس اللحظات التي يفترض أن يلقي خطابه فيها، وأن يشكل أزيز الطائرات فوق غزة ودوي المدافع جوقة مرافقة للخطاب ولمركز الليكود.
على كل حال هنالك فرق بين تحليل الأسباب وتحليل النتائج. فأسباب فوز شارون النحيل داخل الليكود متعددة، أما النتيجة فواحدة. يبقى شارون في الحكم ويحارب ضد تقديم موعد الإنتخابات ويدور نقاش كيف سوف يتعامل مع من حاولوا الإنقلاب عليه. ولا بد أن حلفاءه الذين تحالفوا معه من خارج معسكره، وخاصة سيلفان شالوم، سيحاولون منذ الآن عصر النتيجة لصالحهم. فشالوم الضامر سياسياً دون حيثيات يتحدث عن تحالف مع شالوم وشارون مجهزا نفسه للخلافة مقابل أولمرت من طرف شارون ونتنياهو من الطرف المقابل. ومعسكر نتنياهو يلعق جراحه. وسوف يستمر شارون بالضغط على الفلسطينيين لأنه الآن أقوى مما كان بنظر ذاته، ولأن أميركا تتوقع من الفلسطينيين أن ينفذوا إلتزامات خارطة الطريق التي لم ولن ينفذها شارون على تفاهتها. فهو سيزيد من النشاط الإستيطاني وسوف يستمر بإحراج الفلسطينيين حتى يحقق مراده: أولا أن يقع الصدام مع المقاومة عموماً وحركة حماس خصوصاً، وثانيا أن يوافق الفلسطينيون إما على مرحلة إنتقالية طويلة المدى بإتفاق على أربعين بالمائة من الضفة، أو يتعاملون بهدوء مع الوضع القائم من دون إتفاق. وسوف يشغلهم في هذه الأثناء بمفاوضات على كل تفصيل: المعابر والمطار والميناء والإستيراد والتصدير، كل شيء يتحرك من وإلى غزة يحتاج إلى إتفاق مع إسرائيل. و"يا هيك السيادة يا بلاش".
ولا يفترض أن يقبل الفلسطينيون بالإملاء. و يفترض من ناحية أخرى ألا يسهّلوا عليه المهمة. فاتباع الأساليب الخاطئة وغير الناضجة والإستعراضات والحماقات غير المبررة تموضع النقاش بعيداً عن مكانه الصحيح، أي سياسة إسرائيل وخطورة شارون وسياسته الإستيطانية والعسكرية. وتحول النقاش إلى مسألة أساليب وتكتيكات وحماقات الجميع في غنى عنها. ولو كان الطرف صاحب الحق هو أيضاً المناضل المقاوم، وهو أيضا الحكيم لما نفعت سياسات القوة الشارونية ولارتدت على صاحبها. لا حاجة للإحتفال بانسحاب إسرائيلي من طرف واحد في غزة هو جزء من محاولة لتسهيل تكثيف الاستيطان وتعميق الإحتلال في بقية المناطق المحتلة والظهور بمظهر الحزين الذي ضحى وقدم تنازلات مؤلمة. ولا حجة بعد الإحتفال للبدء بالإستعراضات العسكرية غير المفهومة. فمن لديه قوة ليس بحاجة إلى أن يتخلى عنها ولا أن يستعرضها. وربما كان استعراضها أسهل الطرق للتخلي عنها أو للنيل منها. لا علاقة بين الهدف وبين الإستعراضية هنا. إلا إذا كانت الإستعراضية هدفا معنويا قائما بذاته تفرزه طريقة تثقيف خاطئة في العمل المسلح الفلسطيني برمته موروثا ومتوارثا من أيام منظمة التحرير في لبنان والأردن. ليس الإستعراض ولا التنافس على إعلان المسؤولية بين فصائل هي نقاط قوة الكفاح المسلح في ظروف الاحتلال.
شارون الخارج للتو من مواجهة حزبية من دون إقناع بموقفه بل بقوة السلطة والتهديد بتقويضها، وبقوة المجتمع الدولي هو شارون خطير لا يأبه بما يقال عنه، لم يبقَ شيء إلاً وقيل. ولكنه يهتم بإمكانية أن تخسر سياسات القوة التي يتبعها إذا كان من يديرها مقابله بارعاً أيضاً ويعرف متى يواجه ومتى يتملص، ويخضع التكتيك للإستراتيجية والشكل للمضمون والأساليب للأهداف، ولا يخضع له بأية حال لأنه يعرف هو أيضاً تأثير القوة في السياسة.
قلنا إن شارون الإنتهازي إلى درجة العبث في الحياة الحزبية ليس مجرد انتهازي مارق في ما يتعلق بسياسية بلاده ومصالحها الوطنية كما يراها. وهو بعد أن كسب هذه المعركة أصبح أكثر خطورة لأنه سوف يستغل كل لحظة من الوقت لكي يترك بصماته على شكل الحل الدائم من بعده. قد يكسب شارون الجولة القادمة في الحزب، ولكنه إذا خسرها في موعدها الدستوري أي من دون محاولة انقلابية فلن تكون لديه حجة لشق الحزب. ولذلك هو يعرف قيمة الوقت الذي تبقى له.