منذ أن فرض الحصار الأميركي على إيران في عهد الرئيس كارتر بعد حدث اختطاف الرهائن في السفارة الأميركية، عادت الولايات المتحدة لأول مرة إلى الحوار مع إيران بل واقتراح عروض "مغرية" عليها!
وتبدو الولايات المتحدة في وضع من يقترح وإيران تتمنع وتتدلل وتدرس الاقتراحات وتعد بالرد عليها إزاء إلحاح أوروبي أن يكون الرد إيجابيا. مشهد يثير بلا شك حسد بعض الدول العربية التي لا تنجح في إرضاء الولايات المتحدة غير القنوعة. فهي لا تشبع من ولائها وخدماتها ويصعب استدرار إعجابها، فكلما ازداد رضاها عليها قل احترامها لها.
وكانت إيران قد جربت نموذجي التعامل مع أميركا خلال ثلاث سنوات. إذ تعاونت معها إبان حربها على أفغانستان، لا شك في ذلك، ولكن بدل أن تكافأ على تعاونها أو تحترم، كانت النتيجة أن كسبت إيران لها مكانة محترمة في محور الشر واشتدت التهديدات الأميركية ضدها في فترة خاتمي.
ولكن ما أن بادرت إيران للعودة إلى تخصيب اليورانيوم وردت على التهديدات بإصرار وحزم وبتسريع التخصيب حتى بدأت الهرولة الدولية. هرولت أولا أوروبا ثم الولايات المتحدة، التي لم تنجح بإقناع الأولى بالتماسك. وطرح الإقتراح تلو الآخر على إيران بعد أن استثنت روسيا وتلاها حلفاء أميركا اللجوء إلى العنف ضدها. وانتهى الأمر إلى اقتراح حوار أميركي إيراني ثم اقتراحات للتعاون مفيدة لإيران تكسر الحصار المفروض عليها عمليا.
أهمية الأمر أن الصمود والإصرار على الحق ينفع ويفيد أمام الولايات المتحدة إذا أعدت العدة من عناصر القوة اللازمة، وهي إن لم تكن كافية لمواجهة الولايات المتحدة والانتصار عليها في حرب، إلا أنها قادرة أن تستثمر قوتها ضد الحرب، موظفة إلى جانب قوتها الذاتية عناصر مثل الرأي العام الأميركي وتورط الولايات المتحدة في مناطق أخرى وصعوبة التورط على جبهة أخرى غير سهلة.
ويتلخص الانجاز المعنوي على مستوى المنطقة باضطرار أميركا للتراجع. أما عن التراجع الإيراني عن التخصيب لأهداف التسلح فقد تخفض نسبته ليصلح لأهداف مدنية، وتصبح القضية قضية توتر بين رقابة خارجية وسيادة...والحديث هنا يطول، وسوف يطول. ولكن إيران تحفظ حقها بالتخصيب.
وحاولت الصحف الإسرائيلية طيلة الأسبوع الأول من حزيران أن تصور العملية برمتها من منظار سلوكها هي مع الفلسطينيين، أي قرأت فيها محاولة أميركية لطرح مقترحات ترفضها إيران فتتمكن أميركا من الإدعاء أنه "لا يوجد شريك للتفاوض" مما يسهل تشكيل جبهة دولية داعمة للعقوبات، في نوع من عولمة الخطوات الإسرائيلية من طرف واحد لتصل على الضربة العسكرية. ونحن نعتقد أن هذا التحليل يعكس ما تريده إسرائيل وتتمناه أكثر مما يجسد واقعا حقيقيا.
وبإمكان العقل أن يقرأ في هذا السلوك الإيراني دولة لها مصالح وأمن قومي، مقابل حصار غربي وتجربة تاريخية من الحروب في المنطقة خيضت إحداها ضدها، ومقابل رغبة أميركية بالسيطرة الكاملة على الخليج، ودول مقودة منصاعة لهذه الرغبة وتعتمد عليها في أمنها، ودولة معادية تملك سلاحا نوويا. ولعلنا نتيح للخيال أن يقرأ أنه لو كان العرب دولة واحدة أو اتحادا قوميا من أي نوع وليس مجرد كيانات متنافسة متناقضة في علاقتها مع الغرب ومع الدولة الإقليمية المعادية التي تملك سلاحا نوويا، لامتلكوا مثله أو لهددوا بامتلاكه مقابل انجازات كبرى بما فيها في الشأن الفلسطيني. ولكنهم ليسوا دولة، ولا اتحادا، ولا يشكلون حالة أمن قومي موحدة، بل هم شرذمة. يطبقون بأنفسهم سياسة "تفرقوا ليسود غيركم" بدل أن تمارس ضدهم "سياسة فرق تسد"!
تتعدد عناصر القوة الإيرانية من الجيش والنفط وحتى الرأي العام المتماسك في مسألة تحولت إلى مسألة كرامة وطنية وربما حتى كبرياء قومي. ولا شك أن التورط الأميركي في العراق والتأثير الإيراني هناك هو أحدها. وقد لامت أنظمة عربية وقوميون عرب مخلصون إيران على اتباعها سياسات دولة أنانية توسعية في العراق، كما أخذوا عليها موقفها الطائفي لأغراض النفوذ داخل العراق.
والحقيقة أنه ليس لهم أن يلوموا إلا أنفسهم. فإيران لم تجلب الولايات المتحدة إلى العراق ولم تحرض الولايات المتحدة على الحرب. هم فعلوا، وهي التي استفادت. وهم ليسوا دولا بالمعنى الفعلي للكلمة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي، إذ ليس لهم كدول أمن قومي، ولا يتصرفون على هذا الأساس أو بما يوحي بوجوده، أما الأمن القومي العربي فيتراوح سلوكهم تجاهه بين الدوس والرقص عليه في تنافسهم لإرضاء أميركا.
هم عملوا في العراق لصالح أميركا، وإيران عملت لصالحها هي، لا لصالح أميركا كما يولول البعض شاتما "الفرس"، ولا لصالح العراق كما يؤكد البعض الآخر. وضاعت مصلحة العراق التي يفترض أن تكون عراقية وعربية، ولن تجد تطبيقا آخر لها.
ساهموا في جلب أميركا إلى العراق والآن يتذمرون أن إيران استفادت من احتلال العراق، وهم لم يستفيدوا. ولكن إيران دولة قومية وذات أمن قومي وتحاول أن توسع نفوذها خاصة في بلد شن عليها حربا في الماضي، وهي تستخدم التقارب الطائفي بينها وبين جزء منه لزيادة نفوذها فيه. أمر لعمرك مستهجن. ولكن لا تلام إيران على ذلك إلا من باب العتب، فهي غير ملزمة تجاه القومية العربية، والعرب هم من يفترض أن يكونوا ملتزمين تجاه القضايا القومية العربية وتجاه العراق. وهي إذ تستخدم نعرات لصالحها بعد حرب ضروس ضدها أججت هذه النعرات، إنما تفعل ذلك لصالحها. أما العرب فعندما يزجون بأنفسهم في نفس اللعبة الطائفية ضد عرب مسلمين من أتباع مذهب بأكمله مما بات يسمى للأسف "طائفة" فإنما يدمرون نسيج مجتمعهم هم، ويدوسون على أمنهم القومي ويفسحون مجالا أكبر لدول أخرى، بما فيها إيران، للتأثير في بلدانهم.
والآن باتت إيران في وضع يسمح لها باستثمار نفوذها المباشر وغير المباشر في العراق لاعتبار الجنود الأميركيين رهائن لها وللتهديد بدعم مقاومة شيعية وطنية عراقية للاحتلال، ثم استثمار هذا كله كعنصر قوة يكبل أيدي إسرائيل وأميركا عن ضربها ويضطر الأخيرة إلى التحاور معها حول "عروض مغرية".
وبدل اللوم والولولة والتذمر حري بالعرب أن يستفيدوا من هذه التجربة إن كان ذلك في التعامل مع أميركا وإسرائيل دون تقديم تنازلات مجانية، وإن كان ذلك في التأكيد على الهوية القومية العربية والمواطنة المتساوية على الأقل ضد الطائفية داخليا. هذا واجب عربي يشمل السنة والشيعة والمسلمين وغير المسلمين من العرب، وليس واجبا إيرانيا.
يصبح من حق العرب على إيران أن تحترم وحدتهم القومية وسيادتهم الوطنية عندما يتولوها هم. وأحد دلائل هذه الولاية ألا نذكر هذه التصنيفات أعلاه أصلا عند الحديث في السياسة، وأن تشمئز نفس العربي من ذكرها في السياسة، إذ يفترض أن الولادة في عائلة من مذهب معين لا تصنف الإنسان العربي سياسيا. مجرد ذكرها يعني فتح الباب لاستثمارها سياسيا كهويات قد تتقاطع مع قوى أجنبية.
يفترض أن يتحول درس تخصيب اليورانيوم إلى تخصيب للمواقف. كما يفترض ألا يكون حوار بعض الدول العربية الجاري حاليا مع إيران مجرد تفرع عن الحوار الإيراني الأميركي. في هذه الحالة تستفيد أميركا وتستفيد إيران ويخرج العرب "من المولد بلا حمص"، وعندنا يقولون "بطلعوا مثل مصيفين الغور"، أي مثل المصطافين في حر الأغوار، لا عمل ولا عطلة. المصالح المشتركة بين العرب وإيران تفرض علاقات وتتطلب ودا غير مرتبط بالرضا الأميركي عن إيران ولا بتوقيته.
أما الكارثة الكبرى فتكمن في أن ينتظر العرب في علاقتهم مع ذاتهم تحسن العلاقة الإيرانية الأميركية. لأن هذا يعني أنهم طوائف ترتبط العلاقات بينها بقوى خارجية، في حين أنهم عرب مواطنون في دول عربية تتعدد طوائفهم في داخل نفس الإطار القومي. وفي الدول والمجتمعات التي ترنو إلى الحياة وتتطلع إلى المستقبل لا تتطابق تعددية المصالح والمواقف مع تعددية الطوائف.