خرج الوزراء من جلسة الحكومة الإسرائيلية المصغرة يوم 9 آب أغسطس بوجوه مكفهرة، لقد صوتوا دون اقتناع مع توسيع الحرب في لبنان براً. وكانت غالبيتهم ضد توسيع العمليات في بداية الجلسة. لقد فرض الجيش ووزير الأمن ومكالمة رايس الهاتفية مع أولمرت في منتصف الجلسة الماراتونية هذا القرار.
يريدون انتصاراً لقوة الردع الإسرائيلية فلغيابه آثار إقليمية غير محصورة، وتريد أميركا انتصاراً سياسياً. هرب الوزراء إلى الأمام، وسيكون دماراً. (ملاحظة هامشية: بعد هذا القرار سوف نبدأ بالسماع عن حركة معارضة حقيقية للحرب في إسرائيل).
الولايات المتحدة صاحبة المشروع السياسي للمنطقة حاليا ترفض وقف الحرب قبل تحقيق إنجاز فعلي، مادي ومعنوي، وباختصار سياسي ضد المقاومة وما تمثله في لبنان وخارجه. فهي تخشى أن تبقى بعد الحرب إزاء تيار إقليمي مقاوم أشد بأساً وأكثر صلابة وشعبية. ولذلك عندما لاحت فرصة للتوقف بعد موافقة المقاومة على نشر الجيش اللبناني في الجنوب بشرط انسحاب القوات الإسرائيلية... كان موقف أميركا من هذا الاقتراح أكثر حدة من موقف إسرائيل الباحثة عن إنجاز ينزلها عن هذا السقف العالي الذي تسلقته أهداف حربها. فالولايات المتحدة تعتبر انسحاب إسرائيل يليه انتشار الجيش اللبناني <فراغاً> لا يحتمل، وهي مقتنعة بأن المسألة خدعة لبنانية لإخراج إسرائيل من لبنان أولا، وهي معادلة تلتقي عندها مصالح <حزب الله> وبقية الحكومة اللبنانية، وبعد تحقيقها بانسحاب القوات الإسرائيلية يترك ما تبقى لأطر دستورية وحوار، ويمكن الاتفاق على كل شيء جوهري تحت المظلة الوطنية، ويخلق الله ما لا تعلمون. وفي أي اقترح سياسي ترفض أميركا وإسرائيل حتى الإشارة لما يمكن أن يفسر كإنجاز لحزب الله من نوع مزارع شبعا أو غيرها. فهذه أمور يجب أن تحل بعد فترة زمنية كافية لكي لا تربط بالمقاومة كأنها إنجاز لهذا النموذج في العمل السياسي.
لتجنب هذا السيناريو سوف تحاول أميركا بكل تأكيد رهن وقف إطلاق النار والانسحاب الإسرائيلي ليس فقط بانتشار الجيش اللبناني ضمن توافق وطني بل بجعله يتم ضمن خطة لنزع سلاح <حزب الله>، أي بشكل يتجاوز ما يمكن لإسرائيل أن ترزمه وتقدمه لشعبها كإنجاز فعلي ملموس.
وهذا يعني كسب الوقت لكي تواصل إسرائيل <أعمالها العدائية>، أي حربها. ويبدو الآن واضحاً أكثر من أي وقت مضى أن إنجازاً عسكرياً من النوع الذي تصر عليه أميركا، وترفض بسببه حصول <فراغ> من نوع انسحاب القوات الإسرائيلية، هو رهن بتدمير لبنان، وبقصف الجنازات وطحن الجنوب والبقاع والضاحية طحناً، والأهم بالنسبة لأولمرت وحكومته أنه رهن بمقتل المزيد من الجنود الإسرائيليين.
لدينا لاعب بوكر بدأ يخسر أمام لاعب شاب استخف به، وكلما خسر أكثر ازداد إيمانه بقدرته على استعادة ما كسب فيتورط أكثر. وصديقه الذي يجب أن ينصحه يعيّره بخسارته بدل أن ينصحه ويورّطه أكثر. إنه يتورط أكثر لأنه يخسر أكثر. وهو الآن يهدد خصمه بالسلاح وبحرق البيت كله لكي يخسر رغماً عنه، أو يتبرع له بإعلان أنه ربح ويعيد له ماله.
وفي اليوم التالي لاتخاذ القرار استيقظت إسرائيل على نبأ مقتل 15 جندياً في الصحافة العبرية، في معارك ما زالت تدور في قرى وبلدات لبنانية حدودية، وعلى صحافيين مؤيدين للحرب يدعون أولمرت لاختطاف أي اقتراح سياسي دولي يمكن تقديمه كإنجاز والتخلص من هذه الحرب، <خذ واهرب!> هكذا خاطب ناحوم برنيع أولمرت من الشمال (يديعوت أحرونوت 10/8). اتخذت الحكومة الإسرائيلية قراراً وأجّلت تنفيذه مدة يومين، إنها تنتظر <عجيبة سياسية أو دبلوماسية> تنقذها من قرارها.
مقتل جنود إسرائيليين يؤثر على حكومة إسرائيل أكثر مما يؤثر عليها كل النشاط الدبلوماسي والسياسي.
تمر إسرائيل بمآزق عدة ولكن الولايات المتحدة تطلب منها أن تصبر لأنها تتوقع تطورات سياسية بناءة!! ولا نعلم ما هو مصدر هذه الوعود.
المأزق الإسرائيلي الأول: الخروج من لبنان حالياً يعني تحقيق إنجاز لحزب الله باللغة السياسية السائدة عربياً وحتى إسرائيلياً. وبقاء الجيش حيث هو دون تحريك ساكن يعني تعامل الحزب معه كقوة احتلال وتكبيده خسائر وكذلك تكبيد الجبهة الإسرائيلية الداخلية (<هعورف> بالعبرية، أي الخلف، المؤخرة) خسائر أيضا، فبذلك تخسر إسرائيل العالمين، إذ تبقى في لبنان كقوة احتلال ولا يتوقف سقوط صواريخ حزب الله على <المؤخرة>. الحل هو التقدم إلى الأمام. وهذا التقدم يخلق دوامة جديدة:
المأزق الثاني: لا علاقة له بمجلس الأمن وقراره، فهو لا يخيف إسرائيل التي تحمي أميركا ظهرها هناك. وتردد إسرائيل هو بين تقدم بري واسع يرافقه ويغطيه سلاح الجو والبحر إلى حيث توجب وتتطلب <مهمة تنظيف المنطقة من منصات إطلاق الصورايخ>، ما يكلف إسرائيل مئات القتلى وربما أكثر، وبين انتظار هجمات حزب لله عليها حيث هي. هنا يأتي دور النقاش العسكري الجدي الذي يتم خلاله تقاذف المسؤولية حول تأخر سلاح البر في الولوج إلى ساحة القتال، ثم ولوجه بشكل جزئي، <قدم هنا وقدم هناك> والاعتماد الكلي على سلاح الجو الذي بث للعالم العربي أن <إسرائيل نسيت كيف تحارب>، وأنها نسيت فنون القتال، كل هذا بينما يسطّر حزب الله فصولاً سوف تدرس في الكليات العسكرية. هذا هو تردد أولمرت الأساسي، إنه لا يريد أن يدخل التاريخ، أو للدقة أن يخرج منه مثل غولدا مئير في حرب أكتوبر. وهذا هو سبب الارتباك بين قيادة المنطقة الشمالية وقيادة الأركان التي أرادت أن تعيد ثقة الجمهور بإيفاد نائب رئيس الأركان لكي يقود غرفة عمليات المعركة فزادت من قلقه.
المأزق الثالث: هل تقبل الحكومة وقف العمليات العدائية فيوفر عليها الصواريخ على المدن؟ في هذه الحالة يجب أن توقف قصف سلاح الطيران الذي يطحن القرى والبلدات والمدن في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت، فقط في مثل هذه الحالة يقتصر القتال على البر. أو يبحث عن معادلة تستثني المدنيين من القصف. كيف هذا والقتال يدور داخل البلدات الجنوبية؟ وكيف تتقدم إسرائيل براً دون سلاح الطيران. ستبقى الجبهة الداخلية إذاً في مرمى الصواريخ.
وهنا مصدر المشكلة. تخرج الحكومة الإسرائيلية ومعها وسائل الإعلام الإسرائيلية عن طورها وهي تكبر وتهلل وتكيل المديح لصمود الجبهة الداخلية، وتحاول أن تظهرها متماسكة صلبة صامدة حتى مقارنة بالحكومة. وهذا غير صحيح. والحكومة تعرف أنها تكذب. تسود في الشارع أجواء من التطرف السياسي والرغبة بالانتقام وطلب القضاء على حزب الله تصور في الإعلام وتباع للجمهور نفسه كأنها صمود، ولكن هذه الأجواء لا تعكس بالضرورة صموداً ولا صبراً، ولو استعانت الحكومة باختصاصي نفسي لأكد أن هذه الرغبة الجماهيرية بالتدمير الشامل للبنان والتي يتم تداولها بهذه العلنية هي عبارة عن هستيريا وخوف مكبوت، ورغبة التكسير تسبق الانهيار والبكاء والرثاء للنفس. في لبنان دمر كل شيء ولا ملاجئ، بل مليون لاجئ يصعب حتى ان تسمع منهم كلاماً حاداً ضد من خذلهم، وفي إسرائيل لا يتحملون البقاء في ملاجئ ويطالب آلاف سكان مدن الشمال، عدا سكان الكيبوتسات المؤدلجين وطنياً، بنقلهم إلى فنادق في الجنوب، كما يطالبون ببرامج ترفيه وغيرها!!! تدرك الحكومة أن صموداً كهذا عند جمهور كهذا لا يمكن أن يستمر طويلا، وهو إضافة إلى كل شيء متأثر بالأخبار الآتية من الجبهة. ويحاول بعض السياسيين أن يرووا عطشه لإنجاز فوري بتدمير القرى والمدن.
وتخفي الحكومة حجم الخسائر الاقتصادية ولكنها لا تستطيع أن تخفي ما ذكرته صحيفة <يديعوت أحرونوت> (9/8) أن وزارة الدفاع التركية ألغت صفقة بقيمة 500 مليون يورو مع هيئة الصناعات الجوية العسكرية الاسرائيلية بسبب العدوان الاسرائيلي على لبنان. وكان مفروضاً أن تقوم بتحديث 50 طائرة من طراز <فانتوم> تابعة لسلاح الجو التركي. هذا بعد إلغاء صفقات أخرى، مثلا مع كوريا الجنوبية الأسبوع الماضي حين قررت عدم شراء منظومات للإنذار المبكر من إنتاج الهيئة في صفقة تقدر ببليون دولار.
وأفادت الصحيفة نفسها قبل ذلك بيوم (8/8) بأن الأضرار التي لحقت بالعقارات، جراء القصف، ستكلف خزينة الدولة العبرية خمسة بلايين شيكل على الأقل (101 بليون دولار). وأشارت إلى أن الأضرار المباشرة للمباني والمنازل جراء القصف منذ الأربعاء الأخير زادت بليون شيكل، وأضافت أن عدد المباني المتضررة وصل إلى 11 ألف مبنى و500 مصلحة ومصنع، فضلا عن تدمير ألف سيارة. وبحسب الصحيفة فإن الأضرار التي لحقت بالأراضي الزراعية والأحراش تقدر ب110 ملايين دولار. لا يمكن حصر الضرر حاليا، ولكن لمن يقول إن الدول التي تتعرض للحرب والقصف تشهد عادة حالة نمو بسبب البناء بعد الدمار، يسأل الناس السؤال: لماذا إذاً لا تقصف الدول نفسها مرة كل بضع سنوات؟
الرابع: كان هدف قصف جنوب لبنان كله والبقاع كله، والضاحية والبنى التحتية في بقية المناطق وطرق التواصل مع سوريا حتى لغرض السفر أو الإغاثة أو التموين تكليف مجتمع المقاومة الثمن وأن تتجرأ عليه بقية أوساط لبنانية أخرى. ولكن يمكن أن نتخيل أنه حتى لو لم تتوافر مواقف تضامنية سياسياً، وهي متوافرة، هنالك وطنية لبنانية، وحجم الدمار من جهة وصمود المقاومة من جهة أخرى عنصران يحرج كل منهما على حدة كل من يريد الاستفادة من أداة إسرائيلية بهذه الوحشية وبهذه النتائج الكارثية وبهذا الحجم من التضحية، وأمام هذا القدر من الصمود والبطولة. وقد يفقد الاستمرار بالقصف الوحشي إسرائيل التأييد الدولي ويحرج الولايات المتحدة، كما قد يحرج أصدقاء الولايات المتحدة في لبنان وفي المنطقة العربية. هنالك حد يجلب عنده القصف الوحشي نتائج عكسية. هذا وليس الحدود الأخلاقية، يوصل إلى مأزق.
الخامس: ترفض إسرائيل أي قرار دولي لا يتضمن قوات دولية حقيقية قادرة على ضرب المقاومة أو التصدي لها ومواجهتها لنزع سلاحها في المستقبل. ولكنها تعلم أن أي قرار من هذا النوع هو إما غير قابل للإقرار أو غير قابل للتنفيذ. وفي الوقت نفسه لا يمكنها إلا أن تقبل قراراً دولياً من نوع ما تتذرع به للخروج من لبنان.
لا تنتظر إسرائيل أن تثمر الضغوط الأميركية على لبنان الرسمي أن يقبل قراراً دولياً قريباً من الموقف الأميركي، فهي في هذه الأثناء تساهم في إنهاك الدولة والمجتمع حتى تتجرأ أصوات أعلى وأكثر تطالب بقبوله. لقد أصبح للقصف الإسرائيلي لأول مرة عنوان سياسي يمكن أن تجاهر إسرائيل به: <إذا تعب اللبنانيون وأرادوا أن يتوقف القصف ما عليهم إلا أن يقبلوا بالموقف الأميركي>.
بعد صدور قرار الحكومة الإسرائيلية بتوسيع العمليات البرية أيده عملياً الناطق بلسان الخارجية الأميركية تحت عنوان أنه من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها ولكنه طلب منها أن تكون حريصة على أرواح المدنيين فهو قلق على الوضع الإنساني.
وفي الواقع لا هو ولا مديروه بحاجة لتحمل هذا <القلق>، فهم يستطيعون إيقاف إسرائيل تماما، لو أنهم فقط رغبوا.
السادس: مع تبين فضيحة الدبابة أمام السلاح المضاد للدروع يخشى الجنود الإسرائيليون البقاء فيها كما في مصيدة من النيران، فبدل أن تحميهم باتوا يفكرون بكيفية حمايتها. ولذلك عندما تشاهدون أرتالاً من الجنود حول دبابة فاعرفوا أن هؤلاء يحمون الدبابة بأجسادهم...