قال مسؤول القوى البشرية في الجيش الإسرائيلي الجنرال أليعزر شتيرن، في نهاية الأسبوع الماضي، أن "حساسية الجيش الإسرائيلي المفرطة لحياة جنوده تسببت ببعض الإخفاقات في الحرب". لا يمكن أن تخوض حربا اختيارية عدوانية وان تبالغ بالاهتمام بحياة الجنود في الوقت ذاته، وأن تذهب للحرب دون أن تقول لجنودك انه في الحرب تقتُل وتقتَل. وطبعا قتل جنرالات آخرون هذه التصريحات التي يتفقون معها جميعا في سريرتهم، إذ خرجوا فورا إلى الإعلام يفاخرون بحساسية الجيش الإسرائيلي لحياة البشر.
ولكن لإسرائيل علاقة خاصة جدا بموت جنودها، فهي في أسطورة التأسيس قامت كدولة لتحمي حياة اليهودي المعرضة للخطر في مناطق الشتات لا لتعرضها للخطر، و الجندي المقاتل رمز هذه الحماية. كما سيطرت على إسرائيل عقدة حرب 67، وساد وهم تكرار الانتصار دون ضحايا بواسطة تفوق سلاح الجو، والاجتياح بعد الدك والقصف وغيرها، وفكرة أن زيادة الضحايا في صفوف العدو يقلل الضحايا في صفوف المعتدي. والمقولة الأخيرة تلامس موقف دول غربية استعمارية أخرى أقل حساسية لموت جنودها في الحرب من إسرائيل.
ولكن رغم الخصوصية لا تتجاوز علاقة إسرائيل بموت جنودها كثيرا التعالي العنصري الغربي على شعوب العالم الثالث من حيث الوزن النوعي لحياة وبالتالي لموت إنسانها مقتولا، في مقابل الوزن النوعي المنخفض للبشر في المستعمرات وشعوب العالم الثالث. ولولا قناعة الواقع تحت الاحتلال بهذه الأفكار لما حذر أو هدد عشر ناطقون فلسطينيون على الأقل إسرائيل بأن حياة شليط قد تتهدد نتيجة للقصف الإسرائيلي في الوقت الذي يسقط فيه عشرات الشهداء من أبناء جلدتهم فيما يسمى بعملية غيوم الخريف.
سبق أن حذر كارل ماركس في القرن التاسع عشر من أن الإنسان كتجريد، كمصطلح مجرد هو تعميم من الإنسان الفرد العيني، من واقع وخيال برجوازي الطبقة الوسطى الأوروبية، إلى كل مكان وزمان. ولذلك فهو هو تعميم إيديولوجي خاطئ. أما الإنسان العيني فيما يتجاوز التجريد فهو نتاج ظرف تاريخي محدد، ولا يجوز تعميم مفهومه المتأخر والحديث هذا، بما في ذلك قيمة حياته وموته، لكل مكان وزمان.
وقد تناولت كافة النقاشات والصراعات في أوروبا وأميركا حول إنسانية الإنسان، أي تجسد الإنسانية فيه كفرد، من كان محروما على مستوى الحقوق من هذه الصفة في أوروبا ذاتها، أي المرأة والعامل الأجير، والآخر المختلف، والأقليات المحرومة من الحقوق. وها هي الدول الأوروبية ومن يحذو حذوها تفاخر بأهمية مواطنيها كمواطنين أفراد، وبأهمية حياتهم الفردية وموتهم أيضا، بعد أن أصبحت المواطنة مفهوما شاملا غير إقصائي في داخل هذه الدول. وما زال العقل الغربي يصاب بالصدمة لاكتشاف الخفة وعدم الاكتراث الإجرامي في التعامل مع حياة الفقراء في أميركا ذاتها إبان إعصار "كاترينا" في نيو أورلينز مثلا. النزعة الإنسانوية الغربية خارج حدود الدول الغربية هي إذا نزعة منافقة لا تتميز باستقامة حتى عندما تذرف الدموع على موت الناس في العالم من الجوع والأوبئة والحروب.
لقد اتهم معلقون إسرائيليون يساريون مسؤول القوى البشرية في الجيش الإسرائيلي بالاستخفاف بحياة البشر، مؤكدين أن من يستخف بحياة العربي أو الفلسطيني لا بد أن يستخف في النهاية بحياة الإسرائيلي.
من مثل هذه الإدعاءات في الواقع تبني القوى التي تحاول تجنيد الرأي العام الإسرائيلي ضد الاحتلال وجرائمه حججها. فهي تدعي أن هذه الجرائم تفسد في النهاية المجتمع الإسرائيلي ذاته، وأن الاحتلال رديء لأنه يعوِّد الإسرائيلي على القتل والاستخفاف بحياة البشر. من زاوية هذه الأخلاقيات لا ينبع شر الاحتلال من قمع واضطهاد وقتل البشر الواقعين تحت الاحتلال، فهذه كما يبدو غير كافية لبناء حجة حتى بنظر الأخلاقيين، وإنما يجب أن نثبت أنه يشكل خطرا على الناس في دولة الاحتلال ذاتها. وهذه مقولة تنقصها الاستقامة حتى لو كانت صحيحة، فكم بالحري عندما لا تكون صحيحة بالضرورة.
وإذا لم يكن صحيحا أن الاحتلال يلحق الأذى بمجتمع ودولة الاحتلال يصبح الطريق الوحيد للإضرار بالمحتل هو تكليفه ثمن احتلاله عن سبق الإصرار والترصد، أي بالمقاومة والدفاع عن الذات، وليس بانتظار أن يفسد هو نتيجة لتأثير القمع الاحتلالي عليه، وليس فقط أن يفسد بل وأن يدرك المخاطر الأخلاقية الناتجة عن هذا الإفساد، ويعتبرها خسارة فعلا. نحن نعرف أن ما نقوله لا يثبت نفاق العسكري الإسرائيلي، بل نفاق نقاده الذين يستنتجون فظاعة الجريمة من مدى ضررها بإسرائيل وليس من مدى ضررها بالبشر عموما، فيما يفترض أن يتوقع الجيش بموجب هذا العسكري أن من يتعرض للعدوان قادر أيضا أن يؤذي المعتدي. مما يؤكد مقولتنا السابقة أنه لا وجود لإنسانية مؤلفة من بشر متساوين إلا في أذهاننا. فهي غير صحيحة كتعميم. وقد تصبح ذات معنى فقط إذا قبلت كحكم قيمة وكحكم معياري، وحتى عند ذلك تصبح ذات معنى فقط إذا فعل المرء شيئا بخصوصها وحولها إلى موَجِّه في سلوكه، إن لم يكن كمضطهِد فعلى الأقل كمضطهَد.
ولذلك فإن العسكري الإسرائيلي أكثر صدقا من المنافقين الذين يريدون الادعاء أنه لم تعد هنالك قيمة لحياة الإسرائيلي لأنه لم تعد هنالك قيمة لحياة العربي. فهذا تمويه لانعدام المساواة الواقعي في الحياة وفي الموت. وإن التعبير الأصدق عن المساواة بين الحياتين في ظروف من عدم المساواة هو أن الذي يَقتل في الحرب يجب أن يعرف انه قد يُقتَل. لماذا؟ لأن هنالك من يدافع عن نفسه ولا ينتظر أن تحترم قيادته حياته، وأن يحترم بالتالي عدوه موته. هذه هي المساواة الممكنة في ظل الاحتلال إذا كان هنالك من يقاوم ويدافع.
لقد ثبت أن قيمة حياة الإنسان في الدول الغنية والمستعمِرة ترتفع مع انخفاض قيمة الإنسان في الدول الفقيرة والمستعمَرة. التناسب عكسي وليس طرديا كما يدعي أدعياء اللياقة السياسية، الذين ورثوا تمثيل قيمه وأخلاقياته بالتعبيرات اللغوية دون القيم ذاتها. وإن مقولة أن شعب يضطهد شعبا آخر لا يمكن أن يكون شعبا حرا، هي مقول صحيحة بالمعنى الفلسفي للحرية، أما بالمعنى السياسي فالدول المستعمرة والغنية تطور أنظمتها السياسية الديمقراطية إبان الاحتلال وبعده، وتتوسع حقوق المواطن فيها رغم تراجعها تحت الاحتلال. لم يصدق ماركس في هذه المقولة إلا في سياق القرن التاسع عشر، وفي العلاقة بين دولة محتلة أوروبية وواقع تحت الاحتلال أوروبي يتكلم لغته، لقد كان المقصود هو علاقة بريطانيا بايرلندا، حيث الاستعمار داخلي تقريبا.
وبالمجمل ثبت أن العالم أكثر تعقيدا، وأنه بإمكان الدول أن تتعايش مع وجود معيارين فيما يتعلق بحياة الإنسان وحقوقه ورفاهيته ، واحد للعدو، وآخر للصديق، واحد للمواطن وآخر لغير المواطن، واحد للمحتل وآخر للواقع تحت الاحتلال. لقد حافظت محكمة العدل العليا الإسرائيلية وحصن اللبرالية الإسرائيلية مثلا، على فصل تام بين المعايير المتعلقة بحقوق المواطن داخل الخط الأخضر وتلك التي تطبقها إسرائيل خارجه، وذلك ليس فقط بموجب التفاوت في القانون العسكري المتبع بل أيضا بموجب أخلاقيات ومعايير القضاة. والأخيرون يقعون في دوامة وحيرة فقط في أفضل الحالات إذا كان التمييز يقع بحق مواطن عربي داخل الخط الأخضر، أما إذا وقع الظلم بحق عربي في المناطق المحتلة عام 1967 فلا تنشأ دوامة أخلافية ولا صراع ضميري، لأن المعايير مختلفة، ولأن الناس بما فيهم القضاة يتعايشون مع واقع منفصم. وضميرهم مرتاح لأنهم مرتاحون من ضميرهم في هذه المناطق.
هل نحتاج أن نورد مثل رواندا وبوروندي وموت الناس في مدرسة في أفغانستان لنثبت ما نقول؟ هل نذكر أن قلة فقط تأبه بمذبحة أسرى حرب بالآلاف في أفغانستان؟ وهل هنالك حاجة أن "نتنبأ" بمدى اهتمام العالم بما سوف يجري في الصومال لو اندلعت فيها مواجهات دموية مع أثيوبيا؟ وحتى لو برزت كل شرايين عنق إنسان يصرخ عن ازدواجية المعايير وعن ضرورة احترام موت البشر فلن يجدِ ذلك نفعا إذا لم تكن حياتهم "محترمة" بنفس الدرجة. لن يأخذ بنفس الجدية موت بشر لا تأخذ حياتهم بنفس الجدية. الناس تعرف أن المساواة غير صحيحة، وأن هنالك فرق. الجميع يعرف أن الاهتمام بحياة الجندي شليط يفوق الاهتمام بتحرير الأسرى الفلسطينيين، والأنكى أن حياته أهم من موت خمسين إنسانا وأكثر في بيت حنون. الجميع يعرف وبموجب هذه المعايير غير المتساوية يتصرف ويبني أيضا خطواته السياسية.
ولا يحتاج المرء إلى عبقرية خاصة لكي يدرك معنى أنه لا يستطيع حتى أن يتخيل ماذا سوف يحصل لو قتل 600 ألف أميركي بدل عراقي. ولماذا يحصي الناس عدد الجنود الأميركيين الذين يسقطون يوميا، أملا بالوصول إلى ذلك العدد الذي لا تستطيع أميركا أن تعيش معه دون أن تقوم القيامة في داخلها فتنسحب.
ومن زاوية أخرى معاكسة اعتبر الجميع قرار إعدام صدام حسين، أي موته المحتمل أكثر أهمية من موت آلاف العراقيين، وذلك لكي يكون ممكنا النطق بالحكم من قبل نظام يقتل اليوم آلاف العراقيين، بما في ذلك في مذابح تنفذها مليشيات أحزاب حاكمة تحاكم صدام حسين وتعدمه. فلو تخيلنا مساواة في حياة البشر لما كان بوسع المحكمة أن تنطق بالحكم فيما الجثث تتناثر في كل مكان، وليس في عهده بل في عهد من يحكمون بإعدامه. ليس هذا فقط، بل ربما لأنه في بعض الأنظمة كان هنالك إنسان فرد واحد لحياته قيمه وبالتالي لمماته. في بعض دول الاستبداد يقطن بالمعنى الحقوقي للكلمة فرد واحد، مواطن واحد هو الزعيم.
لن يقتنع أحد بمساواة الفرد في رواندا بحياة الفرد في فرنسا، ولن يقتنع أحد بمساواة حياة مواطن غزاوي بحياة شليط، الذي يتنافس مؤخرا العرب بالإعلان بعد كل اجتماع أنهم بحثوا "قضيته"، ويفعلون ذلك كمن يريد محاباة إسرائيل، أو تملقها. ويتبرع البعض بذلك "البحث" بشأن الجندي شليط دون أن يطلب منه أحد، كعادة بعض العرب في دعوة أنفسهم إلى أعراس ليسوا مدعوين عليها، وذلك للاحتكاك جسديا عن قرب بالحضارة المتفوقة، والتقاط صورة مع أصحاب السطوة والقوة في عالمنا، ونيل إعجاب بعض ثرثاري إسرائيل بدناءته ومحاولته المثابرة إثارة إعجابهم، أو لمجرد اكتساب الأهمية من التحدث والتظاهر بالانشغال فيما يعتبرونه مهما.
ولن يقتنع احد في سريرته بالمساواة في قيمة الموت وقيمة القتلى، لأن هذه قضية لا تحل باللياقة السياسية والإحراج والتخجيل، فالناس يخفون مواقفهم العلنية نتيجة للخوف من تهمة العنصرية، ولكنهم لا يغيرونها، وغالبا لا يغيرون سلوكهم أيضا بل يطلقون عليه تسميات لا تغضب أحدا. إن النفاق في موضوع المساواة بين الناس والتألم والتأسف علنا لموتهم هو إجهاض لمواجهة الحقيقة.
فعند مواجهة الحقيقة، يثبت أنه لا يمكن أن يحترم الآخر حياة الإنسان غير المحترمة في مجتمعه. يمكن أن تفرض المقاومة على المعتدي مثلا أن يحترم موت مواطنيها أو أن يخشاه لأن ذلك يكلفه ثمنا. في هذه الحالة يمكن أن تفرض المساواة في الموت حتى دون فرض المساواة في الحياة. وهكذا تفرض بعض الشعوب احترامها على عدوها بالموت، وعلى أمل أن تحترم قياداتها هي من بقي حيا بعد المعركة في حياته.
وإذا لم تحترم قيادة مجتمع إنسانها فلا يمكنها أن تطالب الآخرين فهي تطرح ادعاء من نوع أن المواطن هو إنسان تابع لها يحق لها أن تعامله كما تشاء، أما القوة أو الدولة الخارجية فعليها أن تحترم حياته ومماته، أما إذا لم تحترمهما فيجب أن يتم ذلك بمقايضة وتنسيق وبصفقة معها. وهذه مقولة شكلية محض تتفق والقانون الوضعي وبات حتى بعض القانون الدولي يرفضها (عندما لا تتفق ولا يتفق قائلها مع مصلحة أميركا طبعا). ولكنها على كل حال حتى لو قبلها القانون الدولي لن تجعل موت مواطن برصاص الاحتلال أو نتيجة للتحارب الداخلي يحل مكان اهتمام العالم بشليط.
ولو وسعنا نطاق معالجتنا إلى المحظور لصعقنا من وجود تراتبية هرمية في قيمة موت البشر وتعامل الرأي العام معه. فالإنسان الغربي يحتل المكانة الأولى يليه من يعيش بقربه أو داخله، فحياة الأفريقي الأميركي أهم من حياة وموت الأفريقي، وموت المواطن في إسرائيل يفوق أهمية موت العربي برصاص الشرطة، والأخير إذا كان موت مواطن يفوق في أهميته مقتل عشرات في غزة. ومقتل عشرات في غزة برصاص الاحتلال نفسه يفوق في أهميته والضجة حوله مقتل فلسطينيين باقتتال داخلي. وعراقي يقتل بيد أميركي يكتسب موته أهمية أكبر من عشرات تختطفهم الميلشيات ليلا لقتلهم والتنكيل بهم والتمثيل بجثثهم. والأمر نفسه ينطبق على اللبناني وهكذا. فالموت لا يكتسب أهمية من طبيعة المقتول فحسب بل من طبيعة القاتل أيضا.
هرمية مخيفة ولكنها ملفتة فعلا. يا لهول ما يمكن أن يصله التفكير!!