يبدو أن الموقف من الكذب والصدق، مثل قيم أخرى، يتوقف على موقف المعرَّض له من الشخص أو الدولة أو المؤسسة الحاملة لهذه القيم. فكذب الفقير أو الضعيف لا يختلف عن كذب الغني أو القوي. لكن الموقف المتفهم أو المتغاضي يتبدل بموجب علاقة الشخص المعرض له مع القوة والغنى، وواقعيته في تقبل النتيجة المترتبة على الكذب والصدق.
فإذا كان الكاذب القوي سوف ينتصر على كل حال فما الفائدة من اتخاذ موقف من كذبه. وإذا كان فضح الكذب سوف يؤدي إلى فصل من العمل، أو إلى عزلة اجتماعية أو سياسية او التموضع في صف الطرف المهزوم سياسياً، يصبح الصدق مذمة غير واقعية، والكذب واقعية وعملية. ويمنح حتى الدين فرصة للشخص الأخلاقي إلا يستسلم للكذب، فإن عدِم الوسيلة لتغيير منكر بيده وبلسانه فليصمد في قلبه على الأقل، «وذلك اضعف الإيمان». أما الطامة ففي تذوت هذا كله الى درجة القيمة والأدلجة إلى حد التهجم والتحريض فعلاً على من يرفض الكذب، ويصرّ على التذكير بما جرى بسببه.
نقول ذلك لأن أكاذيب الولايات المتحدة وبريطانيا بشأن العراق، تلك الأكاذيب التي عرفها الجميع قبل انكشافها، لم تنه بعد حياتها المهنية ولم تُحَل إلى التقاعد. ونقول إن الجميع ممن تواطأ معها كان يعرف طبيعتها الخبيثة قبل انكشافها ومع ذلك أصر على انتظار نتائج البحث عنها. لماذا تبحث أميركا عن أسلحة كيماوية أو «أسلحة دمار شامل» بعدما احتُلّ العراق من دون أن يستخدمها.
فاكتشافها لن يثبت صدق أميركا بقدر ما كان سوف يثبت أننا كنا إزاء قيادة مسؤولة لم تستخدم أسلحة دمار شامل حتى في مرحلة الخطر، وحتى للدفاع عن النفس، فيما استخدمتها أميركا بطراً وتبرجاً ضد اليابان حتى من دون حاجة.
ولم تُكتشف أية أسلحة، وثبت أن أميركا كذبت. لكن من يؤيد أميركا يؤيد عادة كذبها كوسيلة تبررها غاية يوافق عليها، كذلك يؤيد شرعية الكذب الثاني الذي يلي الكذب الاول إذا انفضح أمره باستبدال الحجج لتحقيق الغرض نفسه،ألا وهو ضرب العراق.
وكأننا في حلقة تاريخية مفرغة من حلقات شوبنهاور المتشائمة، لا يفيد شيئاً في تغيير شيء، فكل الفضائح الصحافية عن الكذب الذي استخدم وكيفية استخدامه، وحتى لو كان الفاضح هو رئيس المخابرات الاميركية ذاته، تحقق فقط زيادة مبيعات لكتابه. حال الفضائح كحال المضادات الحيوية، «آنتي بايوتيك»، مع الفيروس. ففيروس الكذب لمصلحة القوة والغنى يطور جلداً أسمك ضدها مع الوقت.
العالم بأسره رأى أن بوش يكذب في براغ. فالصواريخ على الأراضي التشيكية لم تنصب ضد الصواريخ الإيرانية او الكورية. (لماذا تشيكيا الحضارية متورطة دائماً في طبخ الكذب الأميركي، بما في ذلك سلاح الدمار الشامل نفسه؟). ولم يتحقق أحد من قدرة صواريخ إيران وكوريا على الوصول الى أوروبا في حالة ضربهما عسكرياً. وعلى كل حال، حتى لو كانت تصل فهي لن تطلق إلا إذا ضربت ودفاعاً عن النفس، وهذا سؤال لا يخطر ببال الحضاريين الذين يستخدمون سلاح الدمار الشامل كهدية «فوق البيعة بعدما حقق الانتصار، كما في حالة هيروشيما ودريزدن، أو بعدما اتضحت النتائج كما في حالة لاووس وكمبوديا.
لماذا تنصب الصواريخ إذا؟ يستغرب بوش حق بوتين بالاستغراب، والتساؤل.
وبوتين ليس رئيساً بريئاً من الجرائم مثله مثل بلير وبوش وشيراك وغيرهم. وهو ليس لبرالياً، ولا هو شخص أخلاقي في السياسة. لدينا رئيس يؤمن بسياسات القوة، ويحاول استعادة دور لروسيا على الساحة العالمية. وحتى يتحقق ذلك كان بوتين على استعداد لصنع كل الحلول الوسط الممكنة وتقديم كل التنازلات على الساحة الدولية من الموافقة على دور «تكميلة عدد» في الرباعية بشأن فلسطين، مروراً بعدم التصويت مرة واحدة في مجلس الأمن ضد القرارات السلبية بحق حلفاء روسيا في المنطقة، ومنهم سوريا وإيران، وأحياناً مقابل صفقات اقتصادية الطابع.
لكن روسيا بعدما سددت ديونها كاملةً، باتت تسمح لنفسها بأن تراقب بقلق، التوسع الاميركي في آسيا الوسطى في جمهوريات سوفياتية سابقة والتمدد الأميركي في أوروبا الشرقية. وأن يكون نصب الدرع الصاروخية فيها موجهاً ضد روسيا هو احتمال أقرب بكثير إلى الخيال الروسي من إيران وكوريا. وذلك ليس فقط بالمعنى العسكري الضيّق بل أيضاً بمعنى أخذ أوروبا الشرقية والغربية رهينة العسكرية الأميركية وفرض جو من الشحن السياسي والتوتير يساهم في تعبئتها إلى جانب أميركا على جبهات أخرى.
ومن الواضح أن هنالك حساسية يجب أن يأخذها الأميركيون في الحساب إن كانوا يقصدون فعلاً تحسين الأجواء مع روسيا، ألا وهي حساسية الدول التي كانت قبل فترة قصيرة فقط دولاً عظمى تجاه وضعها الدولي. نجد ذلك عند فرنسا وبريطانيا وروسيا وغيرها، وهي تتحول بسهولة الى عامل في السياسة الداخلية في تلك الدول وخاصة عند القوى المعارضة والتي تزاود وطنياً وتتغنى بالأمجاد السابقة التي تسخّفها وتهينها حسابات النظام الضعيف الانتهازية. وبغضّ النظر إذا كان بوتين يريد أو لا يريد الترشح للمرة القادمة، الأمر الذي يتطلب تعديل الدستور، فإنه لا يستطيع تجاهل تظاهرة القوة الاميركية المستمرة «غير الموجهة ضد أحد ما عدا الدول المارقة» على أبواب بلاده.
لكن أميركا تصرّ، ويهاجم بوش فجأة الصين وروسيا لعدم استمرارهما بالإصلاح وصولاً إلى الديموقراطية، وكأن الصين تعهدت له أن تكون ديموقراطية حتى يقرّعها لعدم التزام وعودها.
فجأة يبدأ بوش عملية قتل شخصية لبوتين، ومعه الجوقة الإعلامية بما في ذلك في منطقتنا، والتي سوف تنضمّ الى «تعديد مناقب» الرجل، وهو مثل بوش شخصية غير «مهضومة»، لكنه كان قبل فترة قصيرة فقط «صديقي بوتين».
وليس من سوف ينضم الى بوش بالضرورة معنياً بأن يعرف هل يفعل ذلك لكي يوتّر الوضع تهيئةً لحوار مع روسيا حول دورها إذا ما شنّت أميركا حرباً على إيران، ولا يعرف إذا كانت هذه صواريخ موجهة ضد روسيا أو لتثبيت سيادة أميركا على أوروبا بشرقها وغربها.
لكن يبدو أن الأكاذيب ليست فعلاً ماضياً في تبرير السياسة الخارجية العدوانية. فكم بالحري اذا اكتشفنا أن بوتين يرغب بتحقيق فوائد فعلية لكارتيل صناعة الأسلحة في أميركا قبل مغادرته البيت الأبيض، وأنه لا تفسير أكثر منطقية لدرع صاروخية ليس واضحاً ضد مَن، ولا فائدته، بل الواضح الوحيد أن المبررات التي تساق هي مبررات كاذبة؟