إذا عادت عائلة كلينتون الى الييت الأبيض في العام 2009 فسوف يجد الأميركيون أنفسهم إزاء صراع ودسائس عائلية، مما يعرفونه من المسلسلات والأفلام الإنكليزية وغيرها، ويحبونه في الأحلام، وصناعة الأحلام، وغالبا ما نفروا منه وكرهوه في السياسة الجمهورية الفيديرالية التي نشأوا على قيمها، أو إزاء مسلسل «داينستي» من سبعينات القرن الماضي.
قد تفسد الأرستقراطية السياسية الجديدة الحلم الأميركي «الأصلي» المنسوج حول العصاميين الذين نجحوا، والمركب من حقيقة وخيال في آن معاً. الحقيقة فيه أن أفراداً من أصول فقيرة أو مهمشة «نجحوا بالوصول إلى المجد» في الرياضة وصناعة التسلية والسياسة والأعمال، وشكلوا مادة خاماً لصناعة الأفلام مفصلة لأحلام الشخص العادي كأيديولوجية بمعناها المبسط كوعي زائف: بوسع كل شخص
أن ينجح مثلما نجح البطل، من انتصار الفريق الضعيف المغمور على الفريق الشهير الغني في كرة القدم والبيسبول، وحتى انتصار المرشح الرئاسي من الاصول الفقيرة على ارستقراطية واشنطن ودهاليز ومراكز القوى المتأصلة فيها. أما الكذب فيكمن في أن هذا العنصر، حتى حين يكون حقيقيا، لم يحكم في يوم من الأيام خارج بنى السلطة والمصالح المحافظة اليقظة للتغيير إذا لزم، وإلا كاستثناء يؤكد مراكز القوى العاتية القائمة والممأسسة، فإما أن يتكيف معها أو ينتهي. وإما أن ينتهي بمأساة أو بمهزلة، وذلك حسب حجم التوقعات والنفخ الإعلامي في الأسطورة.
منذ أن سيطر المشهد وأدوات إنتاج الصورة الإعلامية على قطاعات متسعة باستمرار من الحيز العام يعاد تشكيل الواقع السياسي على شاكلتها، ويجري نشر التوقعات من السياسي أن يسلك بموجب صورته التي يفترض أن يكونها... وربما تشهد السياسة الأميركية أخيرا الانتقال من عنصر التمثيل بمعنييه في السياسة، ومن مشاركة الممثلين والنجوم مباشرة فيها كمرشحين ومسؤولين وغيره بحيث يسهل استثمار النجومية من مجال في مجال آخر من عوالم الحيز العام الاساسية في الاقتصاد والسياسة والمشهد الإعلامي، وأخيرا إلى إعادة تشكيل السياسة ذاتها سينمائيا، بمخرجين ومنتجين وعائلات حاكمة... ولا تفسد هذه العائلات في تداولها للسلطة أسطورة العصامية على صانعيها ومستهلكيها.
وفي ما عدا تسجيل أطول مدة لوجود عائلة في البيت الأبيض فسوف يكتمل بعودة عائلة كلينتون التسلسل التالي على الرئاسة الأميركية منذ العام 1989، أي طيلة أربعة وعشرين عاما بما فيها مرحلة السيدة كلينتون العتيدة: بوش، كلينتون، كلينتون، بوش، بوش، كلينتون...
حسناً، دعونا من الأساطير، ولنعد إلى النظرية الديموقراطية. هل يشكل توالي البيوتات هذا على الحكم إشكالاً؟ لو سلمنا أن تداول السلطة في الديموقراطية يتم داخل أوليغاركيات حاكمة بغض النظر عن العصامي الدوري المحتفى به، فالجواب هو: لا، لا توجد مشكلة. صحيح أن تداول السلطة سلميا هو مركب أساسي في النظام الديموقراطي، ولكن النظام الديموقراطي المستقر هو بالضبط ذلك النظام الذي لا يتوقف فيه الكثير على تداول السلطة. فهو غالبا ما يعني تداولها بين أشخاص من الحزب نفسه أو بين ممثلي حزبين كبيرين من دون تغيير في السياسات، خاصة تلك السياسات المتعلقة بمبادئ الاقتصاد الوطني الأساسية، وسياسات البنك المركزي، وتحالفات الدولة الخارجية المركزية، وأمنها الوطني، والمبادئ الدستورية الاساسية. ويصعب فعلاً رسم معالم تغير سياسي متوقع بناء على نجاح المرشح ديموقراطي أو جمهوري في الولايات المتحدة. فالظرف الاقتصادي السياسي وتوقعات الناخبين بعد مرحلة رئاسة معينة تعني أن يتصرف الرئيس بشكل معين بغض النظر عن انتمائه الحزبي... ويبقى هامش ضيق للتميُّز.
وبغض النظر عمن سينقل عنوانه إلى البيت الأبيض بعد الانتخابات المقبلة فإنه سيتصرف بخصوص قضايا الاقتصاد الوطني الجوهرية بشكل لا يختلف جذرياً عن غيره لو وصل... تحاول السيدة كلينتون أن تزايد بشأن تقييد التجارة الحرة على جري عادة المرشحين للرئاسة في الانتخابات إذ يستثيرون نزعات وطنية ضد المنتجات الصينية حاليا، واليابانية في الماضي، كما تعمم خطة للتأمين الصحي تَعِدُ أنها تعديل لتلك التي عرفت باسمها كربة بيت أو كـ «سيدة أولى»، وفشلت في حينه فشلاً ذريعاً. وسوف يواجه أي رئيس منتخب من ضمن المرشحين المعضلات نفسها في العراق وإيران وسوف يتعامل معها بالطريقة نفسها مع هامش اختلاف غير واسع بين اشخاص المرشحين.
أما قضية فلسطين فقد تُرِكت للإجماع الإسرائيلي ليبت بالموقف الأميركي الرسمي منها مقابل تولي الولايات المتحدة الملفات العربية الأخرى وانصياع إسرائيل للقرار الأميركي بشأنها. وليس من داعٍ أن يكون القارئ متخصصاً في شؤون علاقة الحزب الديموقراطي المتينة بحقوق الأقليات سابقاً، وبتمويل الجاليات اليهودية المنظمة في أميركا لاحقا ليدرك لماذا تطرفت هيلاري كلينتون صهيونياً حال اتخاذها القرار أنها سوف تترشح بعد زوجها... وعلى هذا المنوال.
يتوالى على سدة الحكم في الأنظمة الديموقراطية المستقرة حزب بعد الآخر، وتنتقل مقاليد الرئاسة من شخص لآخر، في ظل استقرار المبادئ الاساسية التي يقوم عليها النظام. والصراع عليها بين حزبين رئيسيين تقودهما بالضرورة الانتخابية الإحصائية نحو التنافس على وسط ومركز الخارطة السياسية والاقتراب بالتالي من بعضهما في البرنامج والخطاب... ولذلك تفاجئُ كلينتون خلال الحملة مؤيديها الليبراليين بمواقفها المحافظة المفاجئة من رفضها استثناء الاستمرار في الخيار العسكري في العراق، ورفضها التعبير عن ندم على تصويتها إلى جانب شن الحرب على العراق في الكونغرس في حينه، (كما فعل غالبية أعضاء الكونغرس الذين ما كنا لنسمعهم يعترضون حاليا لو نجحت هذه الحرب)، ورفضها استبعاد الحرب على إيران، وحتى تملقها الخطاب الديني المحافظ بطرح حق الإجهاض كـ «خيار مأسوي» بالنسبة الى المرأة، وهو خطاب غريب على الليبراليين.
أما الدول التي لم تستقر على طريق اختارته بعد، فما زالت الانتخابات فيها تعني خياراً بين عالمين مختلفين. ونتائج الانتخاب فيها قد تقود إلى تغيير جذري في السياسة الخارجية والداخلية: كما في أوكرانيا أو لبنان مثلا. هذه دول لم ينضج ولم يستقر نظامها الديموقراطي بعد.
ليس تداول السلطة في ما يعتبر ديموقراطيات مستقرة عموما عملية اختيارٍ لخط ونهج ومبدأ من بين سياسات متنافسة مختلفة جذرياً. وحتى لو وجدت أحزاب إيديولوجية منظمة ذات وجهات نظر متباينة جوهريا فإنها ليست القوى المتنافسة على السلطة عادة، وقد تتنظم (كما فعل اليمين الديني الأميركي أخيراً) وتدور في فلك الأحزاب المتنافسة فتشد بها من المركز نحو الهوامش السياسية الأيديولوجية.
ولا شك أن المنعطفات السياسية الكبرى واردة في عملية تداول السلطة بشكل سلمي. ولا يمكن فهم صعود لنكولن وروزفلت وثاتشر وريغان مثلاً إلا كتغيرات جذرية في السياسات الداخلية أو الخارجية أسفرت عنها انتخابات. ولكن حتى في هذه الحالات بإمكان المتمسك بالنظرية أعلاه الادعاء ان التغيير كان انعكاسا ضروريا لتغير في الاقتصاد والسياسة والحقبة وطبيعة قوى الانتاج، وليس تغيرا في الاشخاص. فلم تكن مواجهة ثاتشر مع نقابات العمال مجرد خيار شخصي، بل شكلت انعكاسا لاتساع الطبقات الوسطى وتقلص عدد ونفوذ الطبقة العاملة وتغير الثقافة السياسية وتغير بنية الاقتصاد البريطاني والعالمي. لا بأس، المهم أن تغييرات جذرية قد تحصل كنتيجة للانتخابات. ولكنها من ناحية أخرى لا تفوق عدد التغيرات الجوهرية التي تحصل أيضا في الانظمة الديكتاتورية على شكل إصلاحات سلمية أو انقلابات وثورات يتم فيها تداول السلطة بشكل غير سلمي.
ليس الفرق بين المواطن في النظام الديموقراطي وغير الديموقراطي أن الأول يختار سياسة بلاده في انتخابات، أما الثاني فلا، بل في حقوق ونوع مواطنة كل منهما.
لا يكمن الفرق الجوهري الملموس بين النظام الديموقراطي وغير الديموقراطي في حدوث تغير جوهري وطرح خيارات مختلفة في الانتخابات أو عند تداول السلطة. ولكن الفروق في نوعية ونمط الحياة بينهما تكمن في مفاهيم سيادة القانون، وممارسة الحقوق السياسية والاجتماعية ومفهوم المواطنة والفصل بين الحيز الخاص والعام وأنظمة الرقابة والمحاسبة المانعة لعشوائية السلطة والاستبداد وغيرها. هذا فرق جوهري بين نظامين... وإن تفضيل فكرة تداول السلطة في بلادنا على الدعوة للمبادئ الحقوقية الديموقراطية يكاد يعني دائماً صراعاً على السلطة من دون ديموقراطيين.
هذا الإقرار لا يعفينا من السؤال: وهل يمكن اشتراع هذه الحقوق المواطنية المدنية (الوصفان رديفان) والحفاظ عليها لولا هذه «اللعبة» الانتخابية، حتى لو جرت بين أحزاب وأشخاص لا يصنع الحسم الانتخابي بينهم فرقاً فعلياً في السياسة؟
حسناً، ربما تشكل الانتخابات مهما دارت بين فروق سياسية صغيرة وطموحات كبيرة ضمانا ضد نشوء الاستبداد يضمن هذه الحريات لأنها تجعل منظومة من قواعد الرقابة والتوازن بين سلطتين على الأقل أو ثلاثة، ولأن الانتخابات عملية تمكين المواطنين.
ولكن من ناحية أخرى، في حالة وجود فوارق صغيرة من هذا النوع، تدور الانتخابات حول القوة والنفوذ من أجل القوى السياسية والمقربين منها وشركات صناعة الرأي العام التي تبيع للرأي العام رأيه بعد صناعته في الاستطلاع، وبعد تحديد الأسئلة التي ينبغي أن ينقسم الرأي العام عليها وليس على غيرها، وتفتعل فيها الدراما والخرافة والاسطورة والكذب، ويتم تحليل حتى ضحكة المرشحين، (فقهقهة السيدة كلينتون بمناسبة ومن دون مناسبة هي بحسب «خبراء» هذه الحملة مجرد تعويض عن انعدام روح الفكاهة لديها). وتتحول الانتخابات الى صناعة تضاف الى صناعات قائمة، فلا يرجى منها توعية وتمكين بل تجهيل وتعجيز للمواطن المنكفئ عن السياسة وعن ممارسة حقه الانتخابي.
ولكنه إذ ينكفئ ربما يعتمد أن تحافظ الانتخابات على نفسها، وذلك ليس لأن نتائجها مهمة بذاتها، بل لأسباب أخرى، ربما غير مهمة للعراق وفلسطين، ولكن ما يهمه هو الحفاظ عليها مثل نمط حياته كمواطن له حقوق. يمكن ان نتابع هنا مرة اخرى بـ: «ولكن من جهة أخرى!»، ولكننا من جهة أخرى نكتفي بهذا القدر.