تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

سردية لبنانية من أجل الوفاق

2007-11-14

حتى لو أغريت فرنسا بلعب دور الوصي على مسيحيي لبنان بإذن إمبراطوري أمريكي، وليس بإذن عثماني هذه المرة، لا يمكن أن يكون انعكاس الوضع الرسمي الدولي والعربي الراهن المباشر على لبنان لصالح قوى المعارضة، بما فيها المعارضة المسيحية التي تشمل أغلبية النواب المسيحيين في البرلمان. 
 

الوفاق من هذه الزاوية هو تعديل ميزان القوى الداخلي الذي يميل لصالح المعارضة ليأخذ بعين الاعتبار الوضع الدولي، وتعديل ميزان القوى الدولي الذي يميل لصالح السلطة ليأخذ بعين الاعتبار ميزان القوى الداخلي. إذا لم يحصل ذلك لن يكون وفاقاً. لقد أحدث فرض ميزان القوى الدولي، بواسطة أو من دون واسطة مجلس الأمن، على أوضاع محلية وإقليمية تختلف عنه اختلافاً حاداً انفجارات مدمرة لم تنته تفاعلاتها بعد في أماكن عديدة في عالمنا، وآخرها العراق وفلسطين التي انفجرت داخليا. الصراع الداخلي في فلسطين حالياً ليس قصة أخيار وأشرار، بل قصة فرض ميزان القوى العالمي لصالح “إسرائيل” لإجهاض نتائج الانتخابات الفلسطينية كما فسرتها “إسرائيل”، جرى ذلك خلافاً لأي مصلحة دولية أو عربية أو فلسطينية. وهي أيضا قصة استعداد قوى محلية للإستقواء حتى بأمريكا و”إسرائيل” لتعديل النتائج. إنها قصة عدم استكمال بناء الأمة ورسم خطوطها الحمر، ومن ضمنها أين يبدأ وأين ينتهي التدخل الخارجي في شؤون تمس سيادتها.
 

إن تحذير الأخوة اللبنانيين أحيانا من التدخل في شؤونهم، لا تعني أنهم لا ينظِّرون ولا يتدخلون في شؤون من يشاؤون في كافة وسائل الإعلام وغيرها، ولا تعني أيضا أنهم لا يرحبون بل حتى يدعون قوى أجنبية يحبذونها للتدخل في شؤون بلدهم. ويكفي إلقاء نظرة على حركة السفراء الأجانب الغربية العجيبة وزياراتهم وتصريحاتهم في لبنان لفهم ما نقصد.
 

تدور كل الحوارات على الساحة الدولية بشأن لبنان ( آخرها ساركوزي بوش) بين قوى مؤيدة وداعمة للحكومة في لبنان. النقاش بينها هو على المجازفة بإحداث انفجار ناجم عن فرض موازين القوى الدولي على اللبناني، أو التوافق بين ميزاني القوى مؤقتاً، أي ريثما تحين فرصة لضرب المقاومة أو لضرب من يمد المقاومة بالدعم إقليمياً. النقاش بينها هو حول توقيت وكيفية مواجهة المقاومة، أما مبدأ عدم التسليم بوجودها فمفروغ منه. هل هنالك من ينكر ذلك؟ لا أحد. وهنالك طبعاً من تحدث قبل عام ونيف عن تحالف استراتيجي مع المقاومة، ويتحدث الآن عن ضرورة التخلص منها بالحوار لأن القوة لا تكفي بعد، أو بالقوة عندما تصبح كافية، مثلا بعد حرب أمريكية ضد مصادر دعم هذه المقاومة الإقليمية. “ما في مثل الصراحة”، ولطيف أن يقول المرء بفخر أنه جزء من المشروع الأمريكي المنطقة. ولكن لا يجوز الغضب من استنتاج بعض الأمور من هكذا صراحة. وحتى خفوت اندهاشنا من المباشرة والصراحة بالتعبير عن مواقف متناقضة بشكل متطرف خلال عامين، لا يمنعنا من السؤال: ولكن بصراحة ما هو المشروع الأمريكي في المنطقة؟ ما هو في لبنان مثلا؟ ضرب المقاومة. ما هو بصراحة المشروع الأمريكي في فلسطين؟ دعم “إسرائيل” ومشروعها بما فيه الاحتلال من دون شروط. وما هو المشروع الأمريكي في العراق؟... يمكن أن يكون المرء جزءاً من كل هذا، وأن يكون فخوراً، ولكن هذا يعني بصراحة أن البعض يعتقدون أنه جزء من مشروع يهدف إلى تدميرهم وتصفيتهم. وقد استخدم نفس المشروع حتى الآن وسائل وحشية في ذلك، ليس آخرها الحرب والعدوان وتدمير العراق والقنابل العنقودية المحظورة دولياً على لبنان.
 

لذلك لم يعد ممكناً أن تحل مسألة الرئاسة دون اتفاق ووفاق شامل يتضمن ضمانات. الوفاق على شخص الرئيس يجب أن يشمل وفاقاً على الأمور الأخرى، وإلا كان الوفاق على اسم المرشح لتغطية أو لتأجيل حسم القضايا الأخرى حتى يحين الوقت المناسب والمريح لأعداء المقاومة وحلفائهم من الدول الأجنبية ذات الأجندات الشرق أوسطية.
 

منذ انسحاب القوات السورية من لبنان يقاتل الموقف الرافض للهيمنة الأمريكية على لبنان قتالاً تراجعياً، يتراجع هو خطوة فتتقدم القوى المتحالفة مع أمريكا خطوة ما يشجعها على الضغط لتحقيق تراجع جديد. وربما بناء على هذا النموذج المستقرأ من أحداث الماضي غير البعيد تسرَّع السفير الأمريكي الذي يتصرف كـ"مندوب سامي" على لبنان عندما استنتج علنا قبل أسبوعين أنه حتى في حالة انتخاب رئيس من دون وفاق فإن المعارضة سوف تهدد كعادتها، ولكنها لن تفعل شيئاً.
 

انسحبت القوات السورية من طرف واحد من دون اتفاقية تنظم الانسحاب ونتائجه، ففسر الأمر هزيمة لطرف وانتصار لآخر. والحقيقة انه حتى لو افترضنا أن الوجود السوري كان احتلالاً، فإن الانسحاب والاعتراف بالسيادة بنظر من يعتبره احتلالاً بأثر رجعي يفترض أن ينهي كافة القضايا التي كانت، ويحولها بأثر رجعي إلى تضحيات في النضال ضد الاحتلال. وليس غريباً أن ميشال عون الوحيد الذي تعامل مع الوجود السوري في لبنان كأنه احتلال في حينه، هو أيضاً الطرف الذي يعتبر الانسحاب السوري تحقيقاً لأهداف النضال ضده يبرر التضحيات التي كانت، وفصلا جديدا يجب أن تتلوه علاقات طبيعية مع سوريا. ميشال عون هو السياسي اللبناني البارز الوحيد الذي يتعامل مع سوريا كدولة أخرى. أما الفريق الحاكم فتعامل مرة كجزء من القوى الحاكمة في سوريا ولبنان، وبعد الانسحاب السوري بات يتعامل مع سوريا كأنه جزء من المعارضة السورية، وفي الحالتين لا يتعامل مع سوريا كدولة أجنبية. لا كانت دولة احتلال، ولا هي انسحبت. 
 

وحتى المعاهدات الموقعة بين البلدين سابقا يجري التعامل معها كأنها لا تساوي الحبر الذي سكب عليها. وبدل صياغة الوعود اللبنانية حول أفضل العلاقات المميزة مع سوريا في حالة انسحابها باتفاقيات، انقلب النقد للممارسات السورية في لبنان إلى عداء سافر يلاحق سوريا إلى دمشق ذاتها، ويصل حد المطالبة بإسقاط نظامها، باعتبار طبيعة نظامها شأناً لبنانياً داخلياً. إنها نفس القوى التي لم تكن مجرد تابعة للنظام الأمني السوري في لبنان، ولم تر بسوريا احتلالاً أجنبيا، بل نظَّرت لعلاقات استراتيجية. ليس هكذا يكون الاحتلال، ولا هكذا يتصرف عملاؤه. عملاء الاحتلال والخائفون منه لا ينظِّرون. إنها نفس القوى التي عبرت عن عدم رضاها عندما لم تجر الأمور كما تريد حتى في سوريا ذاتها، خاصة عندما عُزِلت في سوريا قيادات سورية مرتبطة بها وشاركتها في الحكم ومنافعه وساعدتها على تزعم الطوائف، وذلك قبل اغتيال الحريري، ثم انتقلت إلى الهجوم، ثم إلى العداء. لا هي احترمت الحدود بينها وبين سوريا، ولا سوريا احترمت هذه الحدود.
 

ومع أن القوى الحاكمة حاليا في لبنان لم تنجز الأغلبية النيابية التي أهلتها للحكم بأصواتها وحدها، فقد صادرت الانجاز الانتخابي، وتصرفت على عكس البرنامج الذي انتخبت على أساسه. إن الأغلبية التي فازت في الانتخابات هي غير الأغلبية الحالية برنامجا وتركيبا. كما صادرت من ميشال عون قبل ذلك المعارضة الفعلية المبدئية للوجود السوري وحتى تسمية 14 آذار. 
 

الرئيس إميل لحود بقي في بعبدا، ولكن الحكومة تعاملت كأنه غير موجود، ومررت كل ما تريد عمليا في الدولة. وتم إقرار كل ما يتعلق بالمحكمة الدولية من طرف الحكومة وحدها، ولم تعن لها ملاحظات الرئيس شيئاً. وانسحب وزراء يعتبرون بلغة لبنان والطائف ممثلي طائفة كبرى من الحكومة وانضموا إلى المعارضة. ولم تكترث لهذه الخطوة القوى التي بقيت حاكمة وحدها رغم ادعاء لا شرعيتها بلغة الطائف والدستور. وقد استندت في ذلك إلى ما يمكن أن نسميه تأثير ميزان القوى الدولي إقليميا. هذه ليست شرعية دولية، فالشرعية الدولية تمس العلاقات بين الدول، وليس داخل الدول. 
 

بعد فشل العدوان “الإسرائيلي” القذر والوحشي بفضل بطولة المقاومة جاءت لحظة الهجوم المضاد من قبل ما بات معارضة مدفوعا بمشروعية وطنية وتعاطف هائل مع المقاومة ومجتمعها المدني الذي عانى الأمرين من الحرب. وأخطر ما حصل في هذا السياق أن العمى السياسي والطائفي بلغ حد ان يكتب مثقفون لبنانيون أن “إسرائيل” كانت ضحية عدوان حزب الله عليها، مبررين بذلك ليس فقط شن الحرب على لبنان، بل شن كل الحروب السابقة على العرب، ومتدخلين بذلك في شؤوننا جميعاً لمصلحة “إسرائيل”. فمتى شنت “إسرائيل” الحرب دون مبرر؟ في العام 1948 كان المبرر رفض العرب لقرار التقسيم، وعام 1956 العمليات الفدائية من غزة، وعام 1967 إغلاق مضائق تيران، وعام 1982 محاولة اغتيال السفير أرجوف. وبموجب هذا المنطق، فقد اعتدى العرب على “إسرائيل” في كل مرة. إن عملية خطف جنود هي حجة أوهى بكثير لشن الحرب من إغلاق نظام عربي طرقا بحرية، ورغم ذلك نسمي حرب 1967 عدواناً “إسرائيلياً”. لقد اعتدت “إسرائيل” على لبنان، ولم تشن المقاومة الحرب على “إسرائيل”، بل خطفت جنودا. عملية خطف جنود لتحرير أسرى لبنانيين موجودين في “إسرائيل” ليست سبباً لشن الحرب التدميرية. 
 

وإذا كان هنالك من اعتبر العدوان “الإسرائيلي” والمبررات الأمريكية لدعمه تدخلاً استعمارياً لحسم النقاش الدائر على طاولة الحوار اللبناني بوسائل أخرى، فقد مرت لحظات وأيام بدت فيها خطوات المعارضة التصعيدية بعد الحرب استمرارا لانتصار المقاومة على التدخل “الإسرائيلي” في شؤون لبنان. ثم جمد تحرك المعارضة في مكانه. ويرجح أنها توقفت من منطلق المسؤولية وتجنبا لما يمكن أن يحوله خصومها إلى فتنة طائفية. واستمرت الأمور على ما هي عليه، واستمر فريق بالحكم وحده وتمرير كل ما يريد.
 

طيلة الفترة أعلاه وقعت اغتيالات إجرامية إرهابية استهدفت بالقتل رموزا بارزة من فريق 14 آذار. ولكن هذا الفريق استمر متحملاً ما لا يحتمل. وإزاء خطر الاغتيالات لا يجوز تعيير شخصياته ولا المزاودة عليها بالإجراءات الأمنية التي تتخذها للحماية. هذا الفريق دفع ثمناً باهظاً. ولكنه قرر وحده، وحقق بالتدريج كل ما قرر... معتمدا على مسؤولية المعارضة.
 

قضية الرئاسة شأن آخر، وخط نهاية. يجب أن يتم اتفاق يتراجع فيه الطرفان خطوة إلى الوراء ليتقدما سوية إلى خط يلتقيان فيه بموجب اتفاق يشمل هوية الرئيس وتركيبة الحكومة (انطلق الاعتصام واستمر بشأن تركيب الحكومة وليس بشأن الرئاسة) والاتفاق على سن قانون انتخابي لاحقا. أما إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق فسوف يطرح سؤال: هل يتقدم الطرف الحاكم خطوة أخرى تشمل السيطرة على الرئيس والجيش والحكومة لتحقيق سيطرة المشروع الأمريكي على لبنان، أم أن هذا هو خط النهاية الذي ما من تراجع بعده، لأن ظهر المعارضة بات يلامس الحائط؟ وما هو مبرر التراجع عند الطرف الأقوى محليا بوجه من يريد التخلص منه؟ يوفر الوفاق بالمعنى أعلاه على الجميع المجازفة بفحص مدمر لجدية هذه الخيارات.