عزمي بشارة
منذ القمة الطارئة التي دعي إليها في الدوحة تحت عنوان "قمة غزة" والقمة العربية الثانية العادية في الدوحة وبينهما قمة الكويت، وقعت تطورات سياسية لافتة جرى التعبير عنها بصيغ مثل "المصالحة العربية".
وكانت الساحة العربية قد شهدت احتقانا شديدا بسبب العدوان الإسرائيلي على غزة مقارنة والعجز العربي إزاءه. كما شهدت الساحة الرسمية توترا بين الأنظمة على خلفية التجاوب مع الرأي العام العربي. وعُقِد مؤتمر قمة خاص لنصرة غزة وشعبها والمقاومة. لقد كانت الدعوة إلى عقد مؤتمر قمة خاص بغزة خطوة مرفوضة من قبل ما سمي حتى ذلك الوقت "محور الاعتدال". فما الذي جرى منذ الكويت؟ وهل هي مصالحة فعلا؟
لقد اعتاد الشارع العربي على التوتر والانفراج في العلاقات العربية يصاحبه بعد شخصي يكاد يكون تهريجيا، وذلك على طريقة خلط أمزجة الحكام وقضايا الأسر الحاكمة بقضايا الدول والخلافات السياسية. وبلغ الأمر أن تكرست في الإعلام العربي عادة إحصاء من سيحضر ومن سوف يتغيّب عن القمم العربية باعتبار هذا الموضوع هو الخبر. في حين أن هذا الشأن لا يفترض أن يكون خبرا في المؤسسات الدولية، ناهيك عن المؤسسات الوحدوية. فالحضور بغض النظر عن الخلافات يعتبر أمرا مفروغا منه. الجميع يحضر وهذا أضعف الإيمان، أما الخبر فتنتجه مضامين الاجتماعات والخلافات والإنجازات.
في هذه المرة دعا ملك السعودية في خطابه بقمة الكويت إلى "نسيان الماضي" هكذا دفعة واحدة على الملأ. ولوحظ أن السياسيين العرب قادة وحاشية وإعلاميين، إن كانوا من معسكره أو من المعسكر المضاد، قد فوجئوا بالنبرة والدعوة التي لم يسبقها تمهيد. وطبيعي أن تستغل هذه الدعوة الإيجابية لغرض تحسين أجواء العلاقات الشخصية المتوترة بين الزعماء، فتوفر على الأمة الكثير من المهاترات التي لا مكان لها في العلاقات بين الدول والشعوب، فغالبا ما أثرت كيديتها على السياسات ذاتها فجعلتها أكثر حدة، وغالبا ما دفع المواطن العربي ثمنها على الحدود.
ولكن ليس المرء بحاجة لأن يكون مؤرخا ولا عالما لكي يدرك أن الخلافات، حتى عند القادة العرب المشهورين بالانتقال من التوتر إلى تقبيل الذقون، لا تحل بهذه الطريقة، وأن لهذه الدعوة للمصالحة أسبابا لا علاقة لها بنقاط الخلاف الجوهرية بين ما سمي المحاور العربية... وأنها لم تأت بناء على تغيُّرٍ في المواقف الخلافية، ولا بناء على تقارب وتوافق في مواقف كانت خلافية.
لم يطرأ تغير على الخلاف بشأن الموقف من إيران، كما لو أن العلاقة معها تقوم على خصومة تاريخية، ولا الموقف بشأن واجب العرب في دعم المقاومة الفلسطينية. وما تزال هذه القضايا مواضيع صراع محتدم كما يبدو حاليا في ساحات الصراع العربية القائمة:
أ- ساحة حصار قطاع غزة والتضييق على المقاومة لكي تقبل بشروط الرباعية الدولية أساسا لحكومة الوحدة الفلسطينية. وأهم هذه الشروط الالتزام بالاتفاقيات الموقعة بين إسرائيل ومنظمة التحرير، وتشمل الاعتراف بإسرائيل ونبذ المقاومة.
ب- ساحة الصدام مع حزب الله في الانتخابات النيابية اللبنانية وفي الحملة السياسية والإعلامية والأمنية التي تشن على الحزب في مصر بسبب دعمه للمقاومة في غزة دون إذن السلطات المصرية، وفي عملية خرق للسيادة والقوانين المصرية.
وبالعكس، فقد شهدت هذه الساحات تصعيدا منذ مؤتمر الكويت. ماذا إذن عن أجواء المصالحة التي مكّنت قمة الدوحة من الانقضاء بهذه السهولة واليسر دون تفجير خلافات؟ لا شك أن الدول التي ربطت نفسها بأجندة إدارة بوش بشأن علاقتها مع الدول والكيانات التي رفضت سياسات هذه الإدارة منذ احتلال العراق، وخاصة سوريا، وجدت نفسها في الوضع التالي: ولّى عهدُ المحافظين الجدد بعد فشلٍ مدوٍ في تحقيق أهدافه عسكريا، وقرر الناخب الأميركي إنهاءه سياسيا لأسباب داخلية وخارجية تضافرت معا.
لقد انتخبت إدارة أميركية لا تقبل بمعادلة (من ليس معنا فهو ضدنا). في حين أن الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة والتي أيّدت بفعالية سياسة إدارة بوش في الحرب على العراق، ما تزال تسير في نفس الطريق. لقد دفعها هذا الطريق للمشاركة في الحصار على حكومة فلسطينية منتخبة منذ أن انتخبت، ولاتهام المقاومة اللبنانية بالمسؤولية عن العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006.
لقد توقفت هذه الدول حاليا لغرض التفكير والتكيف مع الوضع الجديد حتى تتضح السياسة الأميركية الجديدة. توفقت جميعا للتفكير في الاصطفافات الجديدة، ما عدا مصر المتورطة في صراع مباشر فيما يتعلق بغزة.
وقد ساهمت الأجواء الشعبية الضاغطة فيما يشبه الانتفاضة الشعبية العربية ضد العجز والتواطؤ الرسمي إبان الحرب، في دفع هذه الدول إلى أجواء المصالحة في محاولة لامتصاص النقمة الشعبية المشتعلة أثناء العدوان على غزة.
ليست هذه مصالحة فعلا، بل هي إعادة جدولة للخلافات العربية إلى حين اتضاح سياسات إدارة أوباما. وبدل أن تطرح الدول العربية أجندة عربية مشتركة على الإدارة الأميركية المنفتحة والمستعدة للتغيير كما تفعل دول العالم الأخرى، نجد في المنطقة دولا بلا أجندات حقيقية تطالب الولايات المتحدة بتحقيقها، بل تنتظر إملاءات جديدة من الولايات المتحدة بعد أن تتوصل الأخيرة إلى استنتاجاتها. ولذلك نشهد في كل مكان تراجعا في سياسات الولايات المتحدة، في حين أننا نلاحظ تراجعا عربيا حتى عن الخطاب الذي ساد في قمة غزة.
ليس ما يجري عربيا في النصف الأول من العام 2009 مصالحة حقيقية إذن، بل هو تعبير عن البنية المأزمة للنظام العربي الذي نعرفه منذ حرب الكويت، وهو تكريس لأوضاع الأسر العربية الحاكمة كما عرفها العرب في العقدين الأخيرين من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين.
وفي هذه الأثناء يبدو أن نفس القوى تحاول تأجيج نفس الصراع مع إيران في محاولة لتركيز الجهود على جبهة واحدة. ويبدو أنه بعد كل حرب تشنها إسرائيل تُستَحضَر صورة العدو الإيرانية من جديد من قبل أنظمة عربية وأجهزة إعلامية مرتبطة بها. جرى ذلك بشكل خاص بعد عدوان 2006 على لبنان وعدوان 2008–2009 على غزة. كما تجري محاولة عربية رسمية، لبث رسالة إلى الولايات المتحدة العازمة على البدء بالتفاوض مع إيران، أن الأخيرة ما تزال "عنصر عدم استقرار" في المنطقة.
لدى العالم العربي جاران منخرطان في مشاريع وطنية، مشاريع دولة. وهما إيران وتركيا. وقد انتقل كلاهما بدرجات متفاوتة من موقف العداء الكامل للعرب وطموحاتهم بالتحالف مع الغرب الاستعماري، إلى موقع التعاون مع العرب وإلى تطوير أجندات وطنية خاصة بهما.
إيران دولة أكثر أيديولوجية. وفي مركز أيديولوجيتها تسييس للمذهب الإسلامي الشيعي الجعفري، بما في ذلك ما يمكن مناقشته ومعارضته مطولا... ولكن العداء لإسرائيل وسياسات الولايات المتحدة هو جزء من هوية النظام المحاصر أميركيا منذ أن قامت الجمهورية الإسلامية.
وتركيا ما تزال عضوا في حلف الناتو ورسميا بالأرقام تُعتَبَرُ شريكا جديا بل حليفا لإسرائيل. ولكنها تبحث عن علاقة أكثر توازنا مع محيطها العربي والإسلامي لغرض تدعيم مشروعها الوطني وهويته واقتصاده.
العرب هم الحلقة الضعيفة في هذه التطورات. ويفترض أن تُلامَ كياناتهم وقياداتها على وضعها هذا، وليس وجود مشاريع للآخرين تتناقض هنا وهناك مع مصلحة عربية.
ففي العراق تناقض واضح بين سيادة العراق وعروبته وبين السياسات الإيرانية الحالية. ولكنها عملية تتسرب وتجري في فراغ عربي، أكثر مما هي تعبير عن تناقض فاعل بين طرفين. الطرف العربي غائب كقوة دولة وطنية أو ككتلة دول بأجندة مبلورة. وبدل الحوار مع إيران للتوصل إلى مصالح مشتركة والاتفاق على الخلافات في هذه الظروف، يجري تصعيد لفظي وتصرف بعصبية بالغة تجاه إيران، بما فيها من استدعاء للمذهبية والطائفية بما يضر المجتمعات العربية ذاتها.
كما تجري محاولة خطيرة لاعتبار المقاومة للاحتلال العميقة التقاليد في التاريخ العربي الحديث، مجرد تدخل إيراني في شأن عربي. وغالبا ما يردد ذلك معارضون للخطاب القومي العربي عندما يستخدم في توصيف وتحليل الصراع مع إسرائيل، أو في توصيف العلاقات بين شعوب الأمة.
ويلاحظ العرب أن الولايات المتحدة لم تعاقب تركيا على تميِّز سياستِها عنها، بل اختارتها الإدارة الأميركية دولة يخاطب منها الرئيس الجديد العالم الإسلامي عبر برلمانها. وهنا لا بد من التوقف قليلا. لقد اختار أوباما ومستشاروه تركيا لأنها دولة يمكن الدفاع عن نظامها في أوساط مؤيديه بالولايات المتحدة كدولة توفّر الحد الأدنى من مقومات الممارسة الديمقراطية بمفهومها الغربي المقبول على رأيها العام.
فالإدارة الجديدة تبدو كمن يريد أن يحاور الجميع، ولكنها دون شك تعتبر البعض حليفا. ومن بين الحلفاء تشكل تركيا حليفا أكثر راحة منذ اتبعت نظاما لتداول السلطة، رغم أن هذا التداول جاء بحزب إسلامي إلى سدة الحكم.
فالبلد الذي يمارس ديمقراطية داخلية بالحد الأدنى يمكنه أيضا أن يدعي أن لديه رأيا عاما يرفض الانصياع للإملاء الأميركي... مثلا حين صوَّت البرلمان التركي ضد استخدام أراضيه للهجوم على العراق عام 2003. وتركيا دولة نامية تبحث عن ملاءمة بين اكتشاف هويتها الحضارية وفضاء تطورها الاقتصادي بمعدلات نمو مرتفعة جدا منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم.
ولكن الأهم من هذا كله، وعلى مستوى الرأي العام العربي والانطباعات السطحية، يتضح أن الموقف التركي المستقل عن الناتو بشأن الحرب على العراق من قبل دولة عضو بهذا الحلف، وموقفها المتميز في حدته بشأن الحرب الإسرائيلية على غزة، لم يقللا بل زادا من احترام الولايات المتحدة لحليفتها هذه.
لدينا أمثلة عن دول حليفة للولايات المتحدة تؤكد على:
1- وجود تصور خاص بها لأمنها القومي.
2- مصالح اقتصادية واقتصاد وطني.
3- رأي عام داخلي لديها تهتم به وتأخذه بعين الاعتبار عند تحديد سياستها الخارجية.
وهي تصرُّ على هذه العناصر المكونة للسيادة الوطنية، ولبناء الأمة في عصرنا، حتى أدى ذلك إلى خلاف مع الحلفاء... لدينا هنا مشاريع دول قومية فعلية.
وهكذا تنطلق الإدارة الأميركية من زيارة في تركيا وتهدف إلى حوار بناء مع إيران. فهي ترغب بعون في أفغانستان من إيران المعادية لأن طرق إمداد حلفائها هناك تواجه تعثرا في وزيرستان، واستخدام باكستان قاعدة ضد أفغانستان بات يفتت باكستان نفسها، وهي تحتاج إلى تفاهم مع إيران بشأن الطاقة النووية وبشأن العراق... ولدى إيران مطالب بالمقابل، فالولايات المتحدة لا تتصدق بمكرمات على إيران بل تتحاور مع دولة أثبتت نفسها رغم الحصار الطويل ورغم السياسات العدوانية الأميركية تجاهها.
تأتي الولايات المتحدة لتحاور إيران بعد أن تورّطت في سياسات حصار ومواجهة معها لم تؤد إلى نتيجة، وبعد أن غرزت سياسات التدخل العسكري في وحل العراق. أما الحلفاء العرب الذين قبلوا إملاءات إدارة بوش وينتظرون حاليا إملاءات إدارة أوباما، فلا يحظون بالاهتمام الكافي وينتظرون.
في المنطقة مشاريع دول ثلاثة: تركيا إيران وحتى إسرائيل. أما الدول العربية فتكتفي بمشاريع أنظمة لا يتوفر لديها مفهوم لأمن قومي ولا مشروع بناء اقتصاد وطني، ولا أدوات للتعبير الشرعي عن الرأي العام المحلي ولا قنوات لتنظيم تأثيره على السياسات، بل يتوفر لديها مفهوم الحفاظ على أمن النظام الحاكم.
لا ينشأ في هذا الواقع العربي القائم حتى مشروع تعاون لبلورة مفاهيم للأمن القومي المشترك، أو المصالح المشتركة ناهيك باتحاد أو وحدة عربية. كما لم يتم حتى الآن الانطلاق من حقيقة هامة هي أنه سوف يكون على العرب أن يعيشوا مع الجيران الأتراك والإيرانيين الذين لن يذهبوا إلى أي مكان. ومن الأفضل أن تكون هذه العلاقة علاقة صداقة وتعاون وليس علاقة عداء.
ليس هذا واقعا سياسيا مأزوما فحسب، بل هو واقع اجتماعي وسياسي وأخلاقي وحضاري لا يمكن في ظله الحديث عن مشاريع مثل التنمية الاقتصادية والديمقراطية وغيرهما.
وفي ظل هذا الواقع أيضا يطرح السؤالُ: كيف يمكن في مثل هذه الظروف إدارة مفاوضات سياسية جدية مع خصم مثل إسرائيل بعد التخلي عن دعم المقاومة ضده، وعن محاربته؟