حازم نهار
يستوقفنا العنوان الرئيس لكتاب عزمي بشارة ملياً: "سورية: درب الآلام نحو الحرية – محاولة في التاريخ الراهن"، وكأننا أمام ملحمة لمجموعة من القديسين، وهي كذلك فعلاً، فالثورة والإصرار عليها وزمنها الطويل وطبيعة النظام الحاكم كلها عوامل تجعل ممن يثورون عليه مجموعة من البشر الذين يذكروننا بطارق بن زياد الذي حرق سفنه خلفه ليضع نفسه أمام معادلة وحيدة هي "النصر أو الشهادة"، وهي التي لا يجرؤ عليها البشر الطبيعيون.
عندما يتحدث المرء في الراهن فإنه يتصدى لمهمة شاقة ستجد من يُستفز بسببها أو يعترض على رواية حادثة ما، فكيف إن كانت المهمة تتعلق بالتأريخ لثورة شغلت العالم كله دولاً وشعوباً وحكومات، وهناك مواقف عديدة ومتباينة منها، بغض النظر عن صدقية بعضها. وربما لكل ذلك استخدم عزمي بشارة عنواناً فرعياً ذا دلالة: "محاولة في التاريخ الراهن". وكان الرجل متواضعاً ليقول بصراحة أن عمله هو "محاولة" للغوص في هذه الثورة، مثلما أكّد في مقدمة الكتاب بأن "هذا البحث كتوثيق تاريخيّ يعي حدوده لأنه يجري في خضّم الحوادث".
من الصعب على أي كتاب أن يرصد جميع بطولات أهل الثورة وأسماء شخوصها الفاعلين، بخاصة أن ميادين الثورة كانت عديدة ومتنوعة، سواء في التظاهرات أو الفكر أو السياسة أو الإعلام أو الإغاثة أو العمل المدني، فضلاً عن مدتها الطويلة، والأهم أن الكتاب ينطلق من الرصد والتوثيق لكن هدفه في المآل دراسة منطق الحوادث ومآلاتها أكثر من التركيز على الأسماء الفاعلة التي ما زال معظمها غير معروف بحكم عوامل عديدة، أحدها القبضة الأمنية المستمرة.
لا يخفي عزمي بشارة بالطبع انحيازه التام إلى الثورة السورية بدءاً من عنوان الكتاب، فضلاً عن أن ذلك كان واضحاً منذ اليوم الأول للثورة في تصريحاته ولقاءاته، على الرغم مما وضعه من نقد صحيح في ثنايا الكتاب حول مسارات ومواقف عديدة فيها أو تحذيرات عن مآلاتها الممكنة، أملاً في الاستفادة منها، لكن من موقع المتضامن معها روحياً وعقلياً. وهو يختلف بذلك عن الكثيرين من القوميين واليساريين العرب الذين كان هاجسهم الأكبر خلال الربيع العربي هو الخوف على شعاراتهم أكثر من انتصارهم لقضية الإنسان، ولذلك سقطت شعاراتهم وسقطوا معها.
أُتيحت لي فرصة قراءة مخطوطة الكتاب قبل النشر، واستوقفتني مسائل أوليّة عديدة. لعل أولها هو الجهد العظيم المبذول في لملمة التفاصيل والحوادث والتصريحات وتوثيقها وفرزها، فضلاً عن دراسة ومقارنة شهادات عديدة لنشطاء ومثقفين ومعارضين، مع ما يحمله مثل هذا النوع من الأعمال من مخاطر، لكن الكتاب كان موفقاً إلى حدٍ بعيدٍ في توظيفها واستخدامها، خاصة في نأي الكاتب عن الوقوع في مطبّ الانتقائية الذي يصاحب هذا النوع من الكتابة.
وثاني المسائل التي استوقفتني هي القدرة الاستثنائية على تمييز الخرافات المبثوثة في كل مكان حول الثورة، سواء من جانب الماكينات الإعلاميّة للنظام والدول المؤيدة له بما خلقته من خلطٍ للحقيقة بالخيال، ومن كذبٍ صريحٍ في حالاتٍ كثيرةٍ، أو من جانب أوساط مؤيدة للثورة بما يعتمل لديها من رغبات وما يسكنها من تخيلات وأوهام. هذه القدرة على التمييز لا شك يقف خلفها جهد كبير من البحث والاستقصاء والمقارنة والنقاش، وعقلٌ يتسم بالموضوعية والمسؤولية، ولنا أن نتخيل حجم الوقت الذي يتطلبه كل ذلك.
وثالثها، اكتشاف وتحديد الخطوط الأساسية والمنطق العام للحدث السوري بوضوح في المستويات كافة بعد الإحاطة بالحوادث وخلفياتها، وهو ما يسمح بعدم التوهان والضياع في التفاصيل، بما يجعل الكتاب متجاوزًا بالتأكيد الأرشفة التقليدية إلى استكشاف المنطق التاريخي للحدث السوري وتحليل المواقف والسياسات وتوقع المسارات والنتائج. وهو ما يمكن تلخيصه بأن الكتاب كان ناجحًا في اكتشاف القوانين التاريخية في الواقع الراهن للثورة.
ورابعها، المعرفة العميقة بالتاريخ والواقع السوريين، وهو ما ظهر في التشخيص الدقيق لطبيعة النظام السوري وبنيته، وخلفيات مواقفه وسلوكياته، وكذلك مثالب وعيوب المعارضة السورية بكافة تياراتها، والعلاقات الإقليمية والدولية لسورية، وخلفيات مواقف الدول ومصالحها في سورية، فضلاً عن المعرفة الدقيقة بتكوينات المجتمع السوري الإثنية والدينية والمذهبية، وأثر كل ذلك على مسار الثورة وتطوراتها.
يتتبع الكتاب مسار الثورة السوريّة بشكلٍ عام منذ إرهاصاتها الاحتجاجيّة الأولى وانطلاقتها السلميّة، كما يرصد ديناميّاتها الاجتماعيّة، وتحوّلها إلى ثورة مسلحة، وما نتج خارجها من ظواهر عنفيّة ثوريّة أو جنائيّة أو طائفيّة. كما يستعرض مبادرات الحل السياسيّة ولا سيما جهد الجامعة العربيّة، إضافة إلى التفاعلات العربيّة والإقليميّة والدوليّة المرافقة، وقد خصّص قسمًّا لرصد نشاط المعارضة السياسيّة وحراكها أثناء الثورة. ولفهم الثورة السوريّة بشكلٍ معمّق وقف الكتاب على فترة نظام الأسد الإبن منذ توليه السلطة عام 2000 وحتى عام 2011، والتي فوّت فيها النظام فرصة الإصلاح السياسيّ، والتغيير الديمقراطيّ التدريجيّ.
في مستوى دراسة النظام السوري وعلاقته بالثورة، حدّد عزمي بشارة عدة خصائص للنظام، منها أن ما يميز النظام السوري عن نظامي مبارك وزين العابدين هو رفضه لأي إصلاح، وقابليّته لاستخدام العنف غير المحدود ضد الثورة في بلاده، وضد الشعب السوريّ بشكل عام، فقد أدرك باكراً أن النظامين الآفلين لم يستخدما ما يكفي من القوة في بداية الحوادث لوأدها، لأن الجيش لم يكن مواليًا لهما بشكل أعمى، إضافة إلى رهانه على علاقاته الإقليمية والدولية، وكذلك على خوف فئات المدن الكبرى وفئات اجتماعيّة مختلفة من الفوضى والفتنة الطائفيّة.
وفي مستوى الثورة السورية ومساراتها، يرى عزمي بشارة، وهو ما لا يمكن إنكاره أيًّا تكن قناعاتنا الأيديولوجية، أنه "لا يمكن فصل الثورة السوريّة عن المناخ الثوريّ العربيّ الذي ساد بعد نجاح الثورة التونسيّة والمصريّة، ولا يمكن تحليلها خارج سياقاته". فهذا هو العامل الرئيسيّ المباشر في نشوب الثورة، إذ إن أسباب الثورة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة كانت قائمة منذ زمن طويل، ومرت مراحل كان فيها النظام السوريّ أكثر ضعفًا، وأقل استقرارًا، لكن الثورة اندلعت في مرحلةٍ بدا فيها النظام في أوج استقراره، وبدا فيها مرتاحًا مع كسر عزلته الدوليّة. إنه عامل المرحلة التاريخيّة وارتباط الشعب السوريّ الثقافيّ السياسيّ، وربما الوجداني، بما يجري في المنطقة العربيّة.
أي أن دوافع ومسببات الاحتجاج في سوريّة تتشابه بنيويًا مع تلك في الثورات العربيّة الأخرى، فالشعب السوريّ ينشد الحريّة والكرامة، ويتوق إلى المواطنة وحقوق المواطن، حاله في ذلك حال الشعوب العربيّة كافة. والاختلاف الرئيس في ثورته "يكمن في خصوصيّة مجتمعه المركبّ دينيًّا، وطائفيًّا، وإثنيًّا، والتي أعاقت تبلور هُويّة وطنيّة جامعة تسمح بفصل المجتمع عن النظام، وبالتالي أيضًا النظام عن الدولة". كما يكمن الاختلاف الثاني في "الوضع السياسيّ الجيوستراتيجي لسورية، وكونها جزءًا من محور دوليّ لا يؤيّد أيّ تحوّل ديمقراطيّ، في أي مكان في العالم، ولا سيما في الدول التابعة له"، أما الاختلاف الثالث فيكمن في "اغتراب النظام شبه الكامل عن المجتمع وتعامله معه كاستعمار داخليّ". هذه الاختلافات عن الثورات الأخرى تفسر بشكلٍ أساسيٍّ، إلى جانب السمات البنيوية للنظام السوري، المسار الطويل والمعقد للثورة السورية.
يرى بشارة، على الرغم من الجدل المعروف في هذا السياق، أن "الخيار المسلح خيار النظام وليس خيار الثورة". لكن استخدام السلاح أدى إلى تحوّلٍ بنيويٍّ في الثورة، سواء بالنسبة للقطاعات الاجتماعيّة المشاركة فيها، أم لجهة تغيير طبيعة قادتها الميدانيّين، خاصة بعد قتل النظام واعتقاله وتهجيره للآلاف من الناشطين المدنيين، ومع الزمن نشأت ظاهرة أمراء الحرب، وبرزت العناصر الجنائيّة المسلحة التي كانت قائمة في ظل الدولة الأمنيّة، إضافة للعناصر الجهاديّة التي لا تشارك الثورة أهدافها. كما أن استمرار الثورة لفترة طويلة وظهور المذابح وجرائم الكراهيّة على خلفيّة طائفيّة، والتي قام بها النظام على الأخص، قد زاد من حدة الاستقطاب في المجتمع السوريّ، وهذا أدى إلى زيادة خطر تحوّل الصراع إلى نوعٍ من الاحتراب الطائفيّ.
لقد حاول الكتاب أن يشرح أيضاً بنية وتطور المعارضة السياسية في سورية قبل الثورة وخلالها، مبينًا الأسباب الذاتيّة والموضوعيّة لتشتتها وارتباكها. لكنه ركّز على أن الخطر الأكبر يكمن في التشتت التنظيميّ للقوى المسلحة اليوم وبروز ظاهرة أمراء الحرب، إلى جانب تعدّد الكتائب والألوية المسلحة التي لا تخضع لأي قرار قرار مركزيّ.
وفي سياق تلمّس الحلول الممكنة، يرى عزمي بشارة أن السيناريوهات الكارثية محتملة ما لم يتم التوصل إلى تسوية سياسيّة تضمن رحيل النظام وبقاء جهاز الدولة، وتضمن تحولًا تدريجيًّا نحو الديمقراطيّة. فالبديل عن هذه التسوية هو "تعمّق الصراع وتحوله إلى صراع طائفيّ وإثنيّ" أو "دولة فاشلة بعد هزيمة النظام". لذلك يرى أن إسقاط النظام ليس كافيًا، فقد تسقط معه الدولة إذا لم يتوافر "برنامج سياسيّ تلتف حوله قوى الثورة لبناء سورية المستقبل"، ومن دون ذلك يصعب تصور توحيد سورية وإعادة إنتاجها كدولة تقوم بوظائفها السياسية والاقتصادية والمدنيّة، وذات جيش وطنيّ قوي وسيادة وطنية.
لا يخفي عزمي بشارة في جميع مواضع الكتاب محبته الصادقة للشعب السوري وإعجابه الكبير بتضحياته وشجاعته ومثابرته على الظفر بالحريات والتخلص من الاستبداد، ولذلك يرى أنه "يمكن تحويل الطاقة الجبارة الماديّة والمعنويّة لهذا الشعب في صنع نهضة عظيمة لسورية وبلاد الشام والأمة العربيّة"، وهذا يتوقف قبل كل شيء على "وعي ومسؤوليّة الفاعلين السياسيّين"، وفي هذا معه كل الحق.
المدن