تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

محاولة في التاريخ الراهن

2013-09-22

فواز حداد

تأتي أهمية كتاب عزمي بشارة "سوريا: درب الآلام نحو الحرية"، ليس في أنه أول كتاب عن مسيرة الثورة السورية، إذ لا ينحو إلى سبق فكري أو سياسي، بل في أن الحاجة باتت ماسة إلى وقفة تأملية إزاء ثورة شعبية شهدت قمعاً لا نظير له، وكلفت حتى الآن أكثر من مئة ألف شهيد، ومئات آلاف الجرحى والقتلى والمعتقلين والمفقودين، من دون تبين أفق مبشر لنهاياتها الواعدة، من خلال تثبيت مشهد بانورامي متحرك طال عامين من الثورة (آذار 2011 – آذار 2013)، وإنتاج تصور واقعي لعوامل نشوئها وخلفياتها ومجرياتها، يتشابك فيه التحليل مع التوثيق. مشهد بات مطلوباً تفحّص عناصره المؤثرة والفاعلة، لثورة ما برحت ثوابتها العميقة، مستمرة على النهج ذاته، على الرغم من الإحباطات وما لابسها من تدخلات وتداخلات، وما يحيط بها من دمار ومخاوف. 

يعتمد بشارة في كتابه أسلوباً بحثياً، يسعى فيه إلى "تحليل ظاهرة اجتماعية سياسية نفسية مركبة هي الثورة السورية، وإعادة إنتاجها ذهنياً بشكل يجعل التعرف إليها وفهمها ممكناً"، من خلال تأمل تاريخ  ما زال راهناً. وفي هذا مجازفة، تهدف إلى التأسيس للنظر إلى التاريخ اللاحق. وما يحسب لكاتبه أنه لم يكن طارئاً على الثورة السورية، ولا على الثورات العربية، فهو لم يلتحق بها، اتخذ موقفاً مؤيداً لها منذ بداياتها، باحثاً ومحللاً وناقداً.

يرصد الكتاب مراحل الثورة منذ لحظة الشرارة الأولى المختلف عليها، في تظاهرة الحميدية في 15 آذار، أو انتفاضة درعا، وامتداد التظاهرات السلمية الاحتجاجية إلى أرجاء المدن والأرياف السورية، متلمساً معالمها الكبرى الأولى في اعتصام ساعة الساحة في حمص، ما أهّلها لتصبح عاصمة الثورة. ومحاولة تنظيم اعتصام ساحة العباسيين في يوم الجمعة العظيمة، التي كانت نقطة تحول في مسار الثورة، ألهبت الريف وأحياء دمشق الطرفية: الميدان، القابون، العسالي، الحجر الأسود، نهر عيشة، جوبر، التضامن، كفرسوسة البلد، المزة، بساتين الرازي... ورفع على أثرها شعار "إسقاط النظام".

كما يرصد نشوء التجمعات الكبيرة في الساحات والميادين في مراكز المدن التي احتضنت حشوداً احتجاجية بمئات الآلاف، أكان ذلك في مدينتي حماة ودير الزور، أم غيرهما في الفترة الممتدة بين حزيران وبداية آب 2011 ، تاريخ اقتحام الجيش النظامي هذه الساحات. وأيضاً الحراك في محافظة إدلب، لاسيما المدن "المنسية" جسر الشغور ومعرة النعمان وخان شيخون وسراقب، وقرى جبل الزاوية، وفي مركز مدينة إدلب الذي ضم عشرات آلاف المحتجين حتى اقتحامها أيضاً في آذار 2012. ومن ثم اختراق الثورة مدن سوريا المليونية، دمشق التي كان الاحتجاج في ساحاتها شبه مستحيل لكثافة الانتشار الأمني والتواجد الكثيف لعناصر "الشبيحة" ما ساهم في الحد من فعالية الحراك الثوري ومنع اتساعه. ما اضطر الثورة فيها إلى اتخاذ شكل الهبات المتقطعة، كانت ردة فعل على حدث أو مجزرة. تجلت في مناسبات سلمية أبرزها: هبة مسجد الرفاعي – تظاهرة المزة - إضراب دمشق.

في حين كانت حلب مهيأة لحراك احتجاجي سلمي واسع، أعاقه العامل الاقتصادي، وكان أحد أسباب تأخير  انخراطها في الثورة، هذا لم يمنع وجود مجموعات شبابية متنقلة، تظاهرت بشكل دوري في الأحياء. لكن بقيت مدينة حلب بمنأى نسبياً عن الحركة الاحتجاجية على عكس ريفها الذي انخرط بمدنه وقراه كلها في الثورة منذ البداية. لم يطل الوقت عندما تضامن الحلبيون من ذوي الأصول الريفية، مع الريف الحلبي، وقاموا باحتجاجات في أحياء صلاح الدين والسكري وبستان الباشا والهلك والصاخور وغيرها. هذا إلى جانب تنامي الاحتجاج الطلابي داخل جامعة حلب بوتيرة يومية. ما حفز شرائح أخرى على المشاركة، كنقابة المحامين ونقابة الأطباء.

هذا طرف مجتزأ من مجريات الثورة السورية، في سياق عمل يطمح إلى إعادة تركيب حدث هائل الحجم، بالغ الاتساع، ومتعدّد الجبهات، في مجتمع متنوع الأديان والطوائف والإثنيات، والتأريخ لثورة معقدة أصابها الكثير من التحولات، والمتغيرات، والانتقال  من طور إلى طور، رافقها تدخلات من الخارج سواء لدعم النظام بالسلاح والرجال، أو لمساعدة الثورة بالرجال أيضاً والسلاح، وكل حسب هدفه. ما أخرجها من نطاقها الضيق، لتتشابك مع مصالح دول الجوار ودول العالم، وتنقلب من أزمة محلية إلى إقليمية ودولية، فانتُزعت من أطرافها في الداخل، لتندرج في أجندات الدول الإقليمية الفاعلة، وتحكمت في أقدارها استراتيجيات الدول الكبرى. فلم تبق جهة ولا منظمة، أو دولة لم تجد لها، إن لم يكن مكاناً، فوساطة، أو رأياً في الثورة.

يحاول الكتاب الإجابة على مسائل تعدّدت فيها الآراء واختلفت مثل العسكرة، والتي أسهم فيها، حسب بشارة، النظام بشكل رئيسي في دفع الثورة السلمية إلى التسلح، إذ قام وبشكل مبكّر بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، وتجنيد القناصة في القضاء على الناشطين السلميين، غير أن ما حرض بعض الشبان على حمل السلاح، اضطرارهم إلى الرد على عمليات الإذلال والانتهاك التي مارستها الأجهزة الأمنية والشبيحة. هذه الاشتباكات المحدودة، استغلتها السلطة بعد وصمها بالإرهاب، وأدت إلى إعلان الجيش الحرب على الشعب، تحولت العام 2012 إلى حرب فعلية استخدم فيها النظام الدبابات والطائرات وراجمات الصواريخ والمدافع والبراميل المتفجرة والصواريخ الباليستية... طبقاً لاستراتيجية عسكرية واسعة النطاق، ما ورط الجيش بشكل كامل في قمع الثورة. بينما كان حمل السلاح من قبل المحتجين عفوياً، تطور محلياً وتدريجياً حسب حاجات المناطق الثائرة وظروفها. ولأنه كان عفوياً منطلقا من المجتمع ككل، ولم تقف خلفه قوى سياسية منظمة، لم نشهد عملية تكوين سياسي، أو تنشئة للثوري السوري حامل السلاح، كان من نتائجه غياب الانضباط والتراتبية العسكرية، وتشتت القيادات، وتبعثر العمليات القتالية من دون ناظم يضبطها.

تتعدد المسائل المطروحة  في كتاب هو موسوعة غنية عن الثورة السورية، لم تأت اعتباطاً ولا تزيداً، بل لأن الثورة تفرض موسوعيتها على كل من يحاول الإحاطة بها. فكان من الطبيعي التطرق إلى الطائفية، وخلفيات الخطاب والعنف الطائفيين، وجذور تطييف الجيش، وعسكرة الحالة الطائفية. وتحليل بنية الثورة السياسية والاجتماعية والعسكرية، وآلية عمل النظام السوري من حيث تداخل الأمن والسياسة، كذلك استراتيجيته، وخطابه الرسمي. وأيضاً العودة إلى ما أحدثه النظام من خلل في المجتمع السوري برعايته الذئاب الشابة وتفاقم ظاهرة أبناء المسؤولين وأقرباء رجال السلطة، وما نجم عنها من تشبيح وتشليح ونهب للملكيات العقارية والزراعية، ودخول النخبة الأمنية والسياسية معترك الاستثمارات والتعهدات والتجارات. كذلك حراك المعارضة السورية قبل الثورة من خلال المنتديات: ربيع دمشق 2000 – 2001، وإعلان دمشق 2005 – 2008. وتكوين المعارضة السورية خلال الثورة وجهودها في تأليف المجلس الوطني والائتلاف الوطني والحكومة المؤقتة. وظهور الفاعلين الجدد: اتحاد تنسيقيات  الثورة – ائتلاف شباب الثورة – الهيئة العامة للثورة السورية. وتأثير ثورة الاتصالات (الإعلام الفضائي). ثم العقوبات الاقتصادية وأثرها في الاقتصاد السوري الكلي. ومبادرات الحل السياسي، ومواقف الدول من الثورة (الأميركي، الروسي، التركي، الإيراني، السعودي، القطري، الإسرائيلي).

تشكل هذه العناوين صلب الكتاب، تغطي أبعاد حدث ما زال يفرز إشكالياته وتناقضاته. لا يستند هذا الجهد المعمق والواسع إلى شخص واحد، كتاب بشارة في الجانب التوثيقي منه يقوم على جهد جماعي، شارك فيه باحثون شبان من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، جاء مدعوماً بمقابلات مع ناشطين ومسؤولين في الثورة. كتاب يعد وبحق مرجعاً مبكراً سواء من ناحية التوثيق الدقيق والمفصل، أو التحليل العميق والموسع. وإذا كان لنا يوما ما الاستعانة بكتب مرجعية عن الثورة، فكتاب بشارة أحدها.

يأتي جهد عزمي بشارة هذا، في سياق اهتمامه بالثورات العربية؛ المصرية، التونسية، اليمنية، الليبية، التي وصلت إلى غاياتها بإسقاط أنظمتها، عدا الثورة السورية، التي قد يُنتقد الكتاب على أساسها، من ناحية أنها ثورة لم تُستكمل، وحرب لم تضع أوزارها بعد، وهو نقد لا يُنقص، من أهمية مشروعه الكبير، المحك الكتاب نفسه، الذي هو في المآل اعتراف بثورة، مهما كانت مآلاتها، أعادت الاعتبار لسوريا والسوريين، وتحليل لأسبابها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وإسهام بإخراجها من توصيفاتها التلقائية والمبسطة على أنها  ثورة: مغدورة، يتيمة، مظلومة، سيئة الحظ... إلى توصيفات علمية صلبة.

قد تشكل الثورة السورية اختصاصاً لبعض المفكرين الأوفياء لسوريا، وهو أمر عظيم وجليل، لا يمكن إنكار إخلاصه، لكنها ليست احتكاراً للسوريين. هذه الثورة استدرجت، وسوف تستدرج عشرات الباحثين العرب وغير العرب للكتابة عنها، فلا يجوز لأي طرف الاستئثار بها، وكأنها ملكية خاصة، لما تمثله سوريا من آمال، لا جدوى منها إلا بمعافاتها من أمراضها. تشبه الثورة السورية في بعض وجوهها الثورة الفرنسية من ناحية أنه اجتمعت عليها دول أوروبية لمحاربتها وسحقها. ووقعت مثلها في اتون جحيم تقاطعات الداخل بالخارج، الدينية، والمذهبية والاجتماعية... صحيح أن جحافل الثورة لم تنطلق خارج حدودها، لكنها هددت  دول الجوار بتداعياتها، وسوف تؤثر في المنطقة، إذ أن مستقبل سوريا كما مستقبل المنطقة لم يتحددان بعد. لا سيما وأن الثورة، لم يتضح يومها التالي، طالما تشعبها وتشرذمها يستولدان تعقيداتها وإخفاقاتها. حتى اليوم يكتب المؤرخون وفلاسفة الثورات عن الثورة الفرنسية. ومثلها الثورة السورية، سيكتب عنها أجيال من المفكرين والمؤرخين.
وفي كلمة بشارة المذكورة في التمهيد لكتابه، استغناء عن إيراد المبررات الأخرى:

"هذا عملنا كباحثين، وهذا واجبنا بصفة كوننا مواطنين عرباً تجاه المواطنين السوريين الذي خرجوا من أجل حريتهم وخاضوا في الجحيم ذاته، قبل ان يقتحموا مستقبلهم الذي يليق بتضحياتهم".

هذا يلخص الكثير، مما يمكن أن يقال عن المسؤولية الوطنية والأخلاقية من كتابة هذا الكتاب، ويجيب عن الكثير من التساؤلات، فيما لو كانت تساؤلات فقط.

جريدة المدن