العنوان: سورية: درب الآلام نحو الحرّية - محاولة في التاريخ الراهن
المؤلّف: عزمي بشارة
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
السنة: 2013
عدد الصفحات: 687
حمزة المصطفى
تصدّرت الثورة السوريّة بتعقيداتها المختلفة داخليًّا وخارجيًّا قائمة الأولويات البحثية لمراكز الأبحاث العربية والعالميّة. ولا يخفى على متابعٍ حجم الإنتاج البحثي الصادر عنها، إضافةً إلى الاهتمام السياسي والإعلامي الواسع بأحداثها المتلاحقة، وتداعياتها المختلفة.
أهمّية الكتاب ومنهجيته
يعدّ كتاب عزمي بشارة "سورية: درب الآلام نحو الحرية، محاولة في التاريخ الراهن" الأشمل، ويكاد يكون الوحيد الذي يتناول الثورة السوريّة بجميع أبعادها وتشعّباتها خلال فترة عامين منذ انطلاقتها في آذار / مارس 2011 وحتّى آذار / مارس 2013، بصورة تميّزه عن باقي الدراسات الصادرة عن الثورة، والتي جاءت "قطاعيّة" تتّسم بالتركيز على جانبٍ معيّن دون غيره. مثّل الكتاب نقلةً نوعية على الصعيد المنهجي في ما يتعلّق بدراسة الظواهر المركّبة والمعقّدة، من خلال استخدام "المنهج المتكامل"، أو ما يمكن تسميته "العابر" للاختصاصات، والذي تسمح أدواته بقراءة الظواهر المركّبة المتعدّدة الأنماط بمختلف جوانبها والتمييز بين دينامياتها الاجتماعية والسياسية المختلفة، وتحليلها، وتفحّص المشتركات التي تجمعها والاختلافات فيما بينها. الأمر الذي يعطي الكتاب قيمةً منهجية تجعله مصدرًا أساسيًّا في كلّ ما سيُكتب من دراسات عن الثورة السوريّة وسورية.
ما يميّز الكتاب هو تجاوزه عملية التأريخ والتوثيق إلى الفهم؛ بمعنى تجاوز الممارسة التاريخية الكلاسيكية "الهستوريوغرافيا" إلى منهج التحليل الاجتماعي التاريخي، والذي يتطلّب انفتاحًا على مجالات العلوم الاجتماعية والإنسانية كافّة. تأسيسًا على ما سبق، جاء هذا البحث (687 صحفة) عابرًا للاختصاصات كما ذكرنا سابقًا: علم الاجتماع، والعلوم السياسية، والعلاقات الدولية، والاقتصاد، والديموغرافيا... إلخ، ليؤرّخ الثورة السوريّة ويحلّلها خلال سنتين من عمرها. وبهذا المعنى لم يكن الكتاب تأريخًا للثورة، بمقدار ما جرى توظيف التأريخ والتوثيق في تحليل سياقاتها وتحوّلاتها؛ إذ سمحت عملية التحقيب بتقديم رؤية تحليلية معمّقة لكلّ مرحلة مهّدت الطريق أمام القارئ ليفهم كيفية انتقال الثورة إلى المرحلة التي تليها (الفصل 2، وحتّى الفصل 5) دون ارتباك أو تشتّت.
إنّ استخدام منهج التحليل الاجتماعي التاريخي أو اتّجاهات التاريخ الجديد، لا يعني أبدًا أنّ الكاتب لم يُعر أدوات المدارس الكلاسيكية كالوثيقة ومصدريتها، اهتمامًا، بل إنّ القراءة المعمّقة والتحليل الشامل ارتكزا على معلوماتٍ وشهادات جرى استقاؤها من مصادرها الأولى والمؤهّلة لتقديم معلوماتٍ دقيقة وحقائق وشهادات أصليّة تعادل قيمة "الوثيقة" علميًّا.
من جانبٍ آخر، يُعدّ الكتاب بمنزلة "خريطة طريق" بحثيّة لجهة تقسيم فصوله، والتي رُتّبت بعناية فائقة لتكون مرتكزًا في دراسة الثورة السوريّة. إذ يمكن للباحث المهتمّ أو المختصّ الانطلاق من كلّ فصلٍ فيه – وربّما كلّ مبحث - وتطويره أو التوسّع فيه ليكون كتابًا أو مجلّدًا يتناول إحدى ظواهر الثورة وإشكالياتها. وبهذا المعنى جاء كتاب سورية: درب الآلام نحو الحرية تحليليًّا، وتعريفيًّا أيضًا بالثورة السوريّة وبطريقة دراستها وأدواتها، وجرى تقسيمه ليزيل حالة التشعّب والتشتّت التي حكمت الأبحاث في هذا المجال.
يتضمّن الكتاب ثلاثة عشر فصلًا؛ تراعي الفصول الخمسة الأولى التراتبية الزمنية اللازمة في عملية تأريخ الثورة وتحليلها (خلال عامين) ابتداءً من التوقّف عند مرحلة بشار الأسد، وحصاد عشر سنوات من حكمه مرورًا بانتفاضة درعا، ثمّ توسّعها أفقيًّا وعموديًّا لتنطلق ثورة شعبية سلميّة عمّت معظم المحافظات السوريّة طوال عام 2011، وانتهاءً بتحوّلها بداية عام 2012 بسبب عنف النظام وقمعه، إلى ثورةٍ تعتمد "الكفاح المسلّح" لتحقيق أهدافها، وما صاحب هذا التحوّل من تداعياتٍ مختلفة. أمّا الفصول الثمانية الأخرى، فقد جرى تقسيمها وظيفيًّا، بمعنى التركيز على دراسة ظواهر بعينها، ولكن مع مراعاة التراتبية الزمنية للأحداث والوقائع ضمنها، ومراعاة اتّصالها وتواصلها مع الفصول الأولى. وتحتوي هذه الفصول على مواضيعَ ومحاورَ عدّة: كإستراتيجية النظام في مواجهة الثورة، ومسارب الطائفية والعنف الطائفي، ومظاهر العنف المجتمعي، والمعارضة السياسية وحراكها قبل الثورة وأثناءها، والتفاعلات الجيوستراتيجية والمواقف الدولية، والعقوبات الاقتصادية وأثرها في الاقتصاد السوري الكلّي.
وفي اعتقادنا، ساهم هذا الجهد العلمي والأكاديمي الكبير في حفظ ذاكرة الثورة بعد أن طالها النسيان - بقصدٍ أو بغير قصد - في ما ينتج حديثًا عنها؛ إذ يجري اختصارها في مسائلَ وقضايا صغيرة كالسلاح الكيماوي، والجهاديّين. ويُنظر إليها في أغلب الأحيان بوصفها أزمة دولية فقط، أو حربًا أهليّة بين شرائحَ مجتمعيّة دون الالتفات إلى انطلاقتها ثورةً ضدّ الاستبداد جاءت في خضمّ الربيع العربي عام 2011، ودون الالتفات إلى أنّ ما وصلت إليه في بعض مساراتها مؤخّرًا هو "نتيجة" لعوامل موضوعية وذاتية، وليس "الأصل" في اندلاعها وتوسّعها.
الحصاد المرّ
تحت هذا المسمّى، يتناول الكتاب حصيلة عشرة أعوام من حكم الرئيس بشّار الأسد قبل انطلاق الثورة. ويركّز خلالها على وعود الإصلاح والفرص التي أضاعها النظام لإنجاز التحوّل الديمقراطي بقيادته، فالسوريّون بمن فيهم النخب السياسية والثقافية المعارضة قبلوا على مضضٍ عملية توريث الحكم في عام 2000، أملًا في وعودٍ بالإصلاح وتحديث الدولة، ورغبةً في عدم الدخول في موجةٍ من القمع الجماعي تشبه ما يتعرّض له الشعب حاليًّا (ص 44). يبيّن الكاتب تبدّد وعود الإصلاح والديمقراطية سريعًا، إذ لم تكن سوى "مطيّة" لعملية التوريث، ليعود الاستقواء بالقمع الأمني وملاحقة المعارضين والمثقفين الذين نشطوا خلال ما عُرف بـ "ربيع دمشق". يوضح الكاتب تبنّي النظام الخطاب التبريري لعدم قيامه بالإصلاح، ويقوم على مرتكزات يعدّها خطيرة، وأهمّها:
الخصوصية السوريّة: يتوقّف الكاتب عند هذه النقطة ليشرح "فهم" بشار الأسد لها، والتي لا تنبع من فهمٍ سيسولوجي للمجتمع السوري المركّب والمتنوّع، بل تقوم على نظرة استعلائيّة تتمثّل في أنّ الأسد يرى شعبه غير جاهز للديمقراطية، وأنّه يحتاج إلى تأهيلٍ بالتدريج ليصبح واعيًا للإصلاح السياسي. لذلك يطلب بشار الأسد في مقابلته مع صحيفة الشرق الأوسط عام 2001 من المجتمع أن "يعده بتطوير نفسه" قبل أن يشرع في الإصلاح. يعلّق بشارة على ذلك بالقول "يصعب على المرء تصوّر خطاب سياسي يتضمّن قدرًا من اللفّ والدوران والاستعلاء والغرور والوصاية على الناس، ولا حتّى بين معلّم مدرسة ابتدائية وتلاميذه (ص50). ويشبّه بشارة غرور الأسد بغرور أبناء الأغنياء الذين ينظرون باستعلاء إلى الآخرين دون الاستناد إلى كفاءة علمية أو تجربة. يجدر الإشارة إلى أنّ هذه النظرة ستبقى حاضرة لفترة طويلة حتّى بعد انطلاق الثورة، فبشار الأسد لم يتوان لحظةً عن وصف المحتجّين بأنّهم مندسّون، وفئات دونيّة، وجراثيم يجب إبادتها (ص102).
انطلاقًا ممّا سبق، يعدّ بشارة النظام السوري شكلًا من الاستعمار الداخلي في تعامله مع الشعب؛ فهو ينظر إلى نفسه كقوّة احتلال تدير شؤون "أمّة من العبيد" وليس "الشعب". وبناءً عليه، فإنّ "العبد" لا يتمرّد، وإذا ما تمرّد فإنّه "يُقتل" ولا يستجاب لمطالبه، لأنّ تمرّده "فتنة" تستهدف الوطن وليس النظام أو سياساته أو أشخاصه. أوضح الأسد ذلك جليًّا في خطابه أمام مجلس الشعب 30 آذار / مارس 2011؛ فعلى الرغم من أنّ المطالب اقتصرت على إطلاق الحرّيات الأساسية، ولم تستهدف النظام ككلّ أو الرئيس، اختار الأسد خطابًا متصلّبًا صداميًّا (معي، أو ضدّي) معتبرًا "وأد الفتنة" واجبًا وطنيًّا وأخلاقيًّا، وأنّ من يتورّط فيها عن قصدٍ أو غير قصد "يعمل على قتل وطنه". واستخدم الأسد نبرة السيّد في توصيف الشعب، فهو في نظره "مسالم وودود" وأنّ المعركة إذا ما فرضت عليه "فأهلًا وسهلًا بها" (ص 58).
يعرض الكتاب الإرهاصات الاحتجاجيّة في هذه الفترة، ويصنّفها إلى نوعين:
مطلبية: راكمتها عملية التحوّل الاقتصادي "اللبرلة"، وغذّتها عوامل أخرى؛ كضريبة المواقف الخارجية والمقصود بها الضرر الذي ألحقته الاتفاقيات الاقتصادية مع تركيا بالصناعات السوريّة، واستملاك الأراضي، وموجات الجفاف، والتوجّه الحكومي لإهمال الزراعة، والذي ساهم في خرابها وأدّى إلى موجات هجرة ريفية واسعة، وغيرها من الإجراءات الحكومية كرفع سعر المحروقات وفرض الضرائب. ومن أبرز الإرهاصات المطلبية، إضراب سائقي الحافلات في عام 2008، وامتناع مزارعي القمح والشمندر السكّري عن بيع المحصول للدولة عام 2009.
سياسيّة: يميّزها الكاتب عن الاحتجاجات المطلبية التي عبّرت عن حالةٍ أوسعَ من النقمة الشعبية من دون أن ترفع شعارات سياسية. فهذه الاحتجاجات تزامنت مع ثورات الربيع العربي، وحصلت في ظلّ مناخٍ ثوري جديد في سورية، ومن أبرزها حادثة الحريقة في 17 شباط / فبراير 2011 التي وصفها الكاتب بأنّها "الدخان المنبعث من البركان" وشبّهها بحادثة البوعزيزي في تونس، واعتصام السفارة الليبية في 22 شباط / فبراير 2011 الذي هدف إلى توظيف الوقفة التضامنية مع الشعب الليبي لتوجيه رسائلَ سياسية للنظام.
الشرارة واللهيب: ثورة شعبية سلمية
يفرد الكاتب أكثر من مئة صفحة لمراحل الثورة السلمية. يتوقّف بدايةً عند أثر الثورات العربية في المجتمع السوريّ، فقد انتشر الأمل في إمكانية استحضار هذه التجارب أو استنساخها؛ فقام نشطاء بحملة (الكتابة على الجدران) واجهها الأمن بحملة اعتقالاتٍ عشوائيّة لنشطاء وآخرين من بينهم أطفال درعا، لتبدأ شرارة الثورة بعد رفض عاطف نجيب وساطة الوجهاء وإهانتهم.
حصلت في سورية قبل الثورات العربية حوداث إهانة وتعذيب وقتل ارتكبتها قوّات الأمن بصورةٍ أبشعَ من محنة أطفال درعا من دون أن تحصل هبّة شعبية أو تضامن محلّي على غرار ما حصل في درعا، ومن دون أن تنتشر دعوات للتظاهر في صفحات الفيس بوك تحت مسمّى "جمعة الغضب"، والتي جرى استحضارها من الثورة المصريّة حصريًّا (ص 83).
يتناول بشارة بالتفصيل عنف النظام المفرط كطريقة في مواجهة تظاهرات درعا واقتحام المسجد العمري، والتضامن المحلّي الذي نجم عنه، والذي تُرجم بانتفاضة شعبية جرى تأطيرها سياسيًّا امتدّ "لهيبها" إلى عموم سهل حوران، والمحافظات السوريّة الأخرى (ص85). ويرصد هنا "استدعاء" الشعارات المسيّسة التي أُطلقت في الحريقة، وأمام السفارة الليبية مثل (الشعب السوري ما بينذلّ)، و (خاين يلي بيقتل شعبه)، والتي أصبحت أيقونة تتردّد في هتافات المحتجّين ليس في درعا فقط بل في عموم سورية.
يرفض بشارة الاستنتاجات المتسرّعة عن أنّ ثورة سورية هي "انتفاضة فلّاحين أو فقراء" كونها لم تتوطّن في المدن الكبرى (المركز)، ويرى أنّ الفقر قد يكون محرّكًا للاحتجاج، لكنّه لا ينتج ثورات ترفع شعاراتٍ سياسية. يؤكّد بشارة أنّ الفقر والتهميش لم يكونا الدافع الأساسي للثورة، وأنّ الريف لم يكن منطلقها. فالثورة "توطّنت في "مراكز الأطراف" المهمّشة أمام مركز قويّ اقتصاديًّا (حلب، ودمشق)، وأنّ من فجّر الثورة هو عواصم المحافظات حيث توجد طبقة وسطى وفئات مثقّفة تمتلك الوعي السياسي، ولديها الوعي بالظلم والحاجات التي تؤكّد الحرمان والتهميش. وهذه الفئات قادت الاحتجاجات وأطّرتها قبل أن يلتحق بها الريف السوري (ص 93).
يرى الكاتب أنّ مسار الثورة السوريّة في بدايته يشابه مسار الثورة التونسية. أمّا الاختلافات والفوارق، فيحدّدها بما يلي: "والفارق الرئيس في ثورة الشعب السوري يكمن في "خصوصيّة" مجتمعه المركبّ دينيًّا، وطائفيًّا، واثنيًّا، والتي أعاقت تبلور هويّة وطنيّة جامعة تسمح بفصل المجتمع عن النظام، وبالتالي أيضًا النظام عن الدولة (ص31).
يتوقّف بشارة بالتفصيل عند حدثين مركزيّين هما "اعتصام حمص" في 18 نيسان / أبريل 2011، و"الجمعة العظيمة" في 22 نيسان / أبريل 2011، ساهما في نقل الحركة الاحتجاجيّة من إطارها المحلّي إلى الإطار الوطني الأشمل؛ فاعتصام حمص كان النسخة السوريّة من ميدان التحرير في مصر، ويوم الجمعة العظيمة شهد محاولة لتصدير الثورة إلى العاصمة والاعتصام في ساحة العبّاسين. لم تنجح هذه المحاولات نتيجةً لعنف النظام واستخدامه الرصاص الحيّ في فضّ الاعتصام وقمع المحتجّين، ولكنها كانت نقطة تحوّل في مسار الثورة لجهة ازدياد أعداد المحتجّين وانضمام فئاتٍ جديدة، كطلّاب الجامعات والأطبّاء والمحامين، وانضمام محافظات إلى خريطة الاحتجاجات، كحماة ودير الزور والمناطق الكرديّة، والأهمّ ارتفاع سقف الشعارات إلى "إسقاط النظام"، والذي غدا شعارًا جامعًا للمحتجّين بعد فترةٍ من التردّد والتريّث في رفعه (ص 130).
يسلّط الكتاب الضوء أيضًا على الساحات الكبرى في حماة ودير الزور وإدلب، والتي ضمّت كلّ منها مئات آلاف المحتجّين في مشهدٍ دحَض رواية النظام عن محدودية الاحتجاجات، وأثبتَ انحياز أغلبية السوريين للثورة واستعدادهم للمشاركة فيها عند غياب القمع.
يتوقّف الكاتب في مشهد الساحات الكبرى على خصوصية كلّ مدينة والظروف الاجتماعية والسياسية التي حدّدت توقيت مشاركتها في الثورة وطريقتها. لم يكن لدى أهالي حماة الحماس للمشاركة في الاحتجاجات بدايةً، فالمدينة التي خبرت قمع النظام في أحداث الثمانينيات كانت تراقب بحذرٍ مدى شمولية الثورة وامتدادها. وعندما أدرك سكّان المدينة أنّ الاحتجاجات ليست انتفاضة جهوية يستطيع النظام الاستفراد بها، وإنّما ثورة شعبية تدفّقت جموع المحتجّين لتملأ ساحة العاصي منذ جمعة أطفال الحرية 3 حزيران / يونيو 2011 وحتّى بداية شهر آب / أغسطس 2011 تاريخ اقتحام الجيش المدينة. أمّا في دير الزور، فيرصد الكتاب تأثير العامل العشائري، والذي ساهم بدايةً في عزل المدينة عن الحركة الاحتجاجية بحكم ولاء شيوخ العشائر للنظام والضبط الذي مارسوه لمنع أبنائهم من المشاركة، قبل أن تنقلب الأمور عكسيًّا. فقد نجحت المجموعات الشبابية، والتي نشأت خارج البنى الاجتماعية التقليدية، في كسب فئاتٍ جديدة، فتوسّعت التظاهرات تدريجيًّا. وتصدّى لها النظام بالرصاص الحيّ بخلاف ما تعهّد به لوجهاء العشائر، ما أدّى إلى نقمةٍ شعبية في المدينة ضدّ النظام أجبرت العشائر على الانضمام للثورة.
يتوقّف بشارة أخيرًا عند حراك المدينتين المليونيّتين (دمشق، وحلب). ويشرح الأسباب التي أعاقت انضمامهما للثورة أو أخّرته؛ كحرص النظام على عزلهما، واستخدام القوّة المفرطة لقمع أيّ محاولة لتثويرهما، وتحالفه مع البرجوازية ورأس المال في المدينتين.
العسكرة لم تكن خيار الثورة
يوصف الكتاب إستراتيجية النظام ودفعه الثورة إلى التسلّح من خلال الاعتماد على القوّة المفرطة في مواجهتها، فالشعب السوري صمد في احتجاجاته السلميّة أمام الرصاص لأشهرٍ طويلة لأنّ تجربتَي تونس ومصر مثّلتا بالنسبة إليه "نموذجًا" يُحتذى في النضال. لكن نهج النظام القمعي وزجّ الجيش بالكامل وفي وقتٍ مبكر، أجبرا البعض على حمل السلاح لردّ هذه الحملات. يعرض الكاتب بداية التسلّح، والذي كان أهليًّا، قبل أن يتحوّل إلى نمط "هجوميٍ" إثر حادثة جسر الشغور، والتي جاءت "انتقاميّة". ينتقد بشارة إعلام الثورة لتستّره عن هذا النهج واتّهامه الجيش بقتل جنوده، ويعدّه سببًا في عدم القدرة على التفكير العقلاني في الثورة؛ لأنّه بسبب تشويه الواقع وإنكاره، تحوّل النقاش فيه حول الحقائق ذاتها وليس تقييمها واتّخاذ موقف منها بوصفها حوادثَ مسيئة للثورة (ص 195).
يتوقّف الكاتب عند حادثة الزبداني بداية عام 2012، والتي جعلت من خيار العسكرة خيارًا رئيسًا في الثورة، فالاتّفاق الذي نصّ على انسحاب الجيش خارج المدينة مقابل تعهّد الثوّار المسلّحين بعدم استهداف حواجزه، أغرى مدنًا أخرى كدوما وحي بابا عمرو في حمص حاولت تقليدها. ما زاد من الاتّجاه نحو العسكرة هو ترسّخ قناعة لدى فئاتٍ واسعة من المحتجّين بعدم جدوى التظاهرات السلميّة في إسقاط النظام، واندفاع جزء من المعارضة السوريّة إلى هذا الخيار راغبةً في استحضار النموذج الليبي لإسقاط النظام بسرعة.
بعد استعراضه أهمّ مراحل الكفاح المسلّح ومحاولات تنظيمه، يخلص بشارة إلى أنّ خيار العسكرة كان عفويًّا، وأنّ مشكلته الأساسية كمنت في عفويته وتطوّره المحلّي والتدريجي بموجب حاجات المناطق وظروفها، وليس بموجب إستراتيجية تقف وراءها قوًى سياسية منظّمة. وكان غياب التنظيم والتنسيق والتخطيط وبالًا على الثورة؛ فالمدن والبلدات التي دخلها الثوّار المسلّحون دمّرت وهجّر غالبية سكّانها بسبب عدم القدرة على تحييد أدوات التدمير كسلاح الطيران ومنظومة الصواريخ. كما أنّ سلوك بعض الكتائب المحسوبة على الثورة وانخراطها في أعمال سرقةٍ ونهبٍ، والفوضى التي حصلت نفّرت شرائحَ عدّة من الثورة، ودفعتها إلى دعم البقاء لنشدان الاستقرار. وقد استفادت من هذه الفوضى تنظيماتٌ جهاديّة كجبهة النصرة، لم تتورّط في تلك الأعمال، قامت بملْء الفراغ وتقديم المساعدات للناس ما روّج "صورة حسنة" لهذه التنظيمات التي لا تؤمن بقيم الثورة وأهدافها.
إجمالًا، في ظلّ غياب العمل العسكري وتشرذمه، لم تشهد الثورة السوريّة عملية تكوين سياسي أو تنشئة للثوري السوري حامل السلاح (ص 191). الأمر الذي زاد من حالة التمزّق الاجتماعي وزاد من تعدّد الكتائب وكثرتها، وحالَ دون وضع إستراتيجية للكفاح المسلّح.
يحمّل بشارة المعارضة السياسية مسؤولية ما وصلت إليه الحال من تشتّتٍ وانقسام. ويرى أنّها أمام مواجهة مهمّات مصيرية لإسقاط نظام الاستبداد، أهمّها: وضع إستراتيجية عسكرية موحّدة وتوفير مقوّماتها، وبناء المؤسّسات، ووضع الخطط لإدارة المناطق المحرّرة، واستيعاب المهنيّين المنشقّين من عسكريين ومدنيّين لخدمة الثورة، وتطوير خطاب دبلوماسي وإعلامي موجَّه للغرب لمواجهة خطاب النظام (ص 416).
تصديق الكذب معيار للولاء
يتطرّق الكتاب لإستراتيجية النظام الدعائية، والتي ركّز فيها على مخاطبة الخارج عمومًا وبطرقٍ مختلفة؛ فقد تبنّى النظام فكرة استهداف سورية من الخارج لتصوير الثورة أمام الرأي العامّ العربي على أنّها مؤامرة خارجية تستهدف المقاومة. وفي الدعاية المقدّمة للغرب، ركّز النظام على فكرة الإرهاب الإسلامي باحثًا عن دورٍ وظيفي يقوم به في هذا المجال.
أمّا في الداخل، فيرى الكاتب أنّ النظام ليس مهتمًّا بتصديق الناس دعايته بمقدار "ما هو مهتمّ بأن يتظاهر الناس بتصديقها"، ويفصّل أهداف دعاية النظام بما يلي (ص 239):
أمّا في ما يتعلّق بطريقة التعاطي مع الثورة، فيبيّن الكتاب محاولات النظام الحثيثة واستخدامه العنف المفرط لجرّ الناس إلى السلاح ليصوّر الثورة على أنّها تمرّد مسلّح على حكمه، وأنّها ليست إلا أزمة مماثلة لأحداث الثمانينيات إبّان صراعه مع الإخوان المسلمين، ليوحي للشعب بأنّ البديل عن النظام هو فقدان الأمن والفتنة الطائفية والتشدّد الإسلامي (ص 244).
سياسيًّا، تعامل النظام مع الشعب على أنّه طوائف وملل وفئات اجتماعية متنافرة وليس شعبًا واحدًا؛ فوجدنا الرئيس الأسد يستقبل وفودًا من هذه المنطقة أو تلك الفئة الاجتماعية ليعرض تحقيق بعض احتياجاتها ومطالبها المحلّية فقط. وفي هذا الإطار يوضح الكتاب نهج النظام في استمالة فئاتٍ وشرائحَ اجتماعية للقتال معه تحت مسمّى اللجان الشعبية (الشبّيحة) وتنفيذ إستراتيجيته الرئيسة في وأد الثورة بدلًا من حلّ القضيّة في إطارها العامّ.
يُرجع الكتاب انتشار مصطلح "الشبّيحة" إلى تظاهرات اللاذقية، ويزيل المغالطات الكبيرة التي راجت حوله لا سيّما تلك التي وصمت العلويّين بـ "الشبّيحة"؛ فـ "الشبيحة" جهاز تشرف عليه أجهزة الأمن ويضمّ رجالًا مأجورين ومجرمين جنائيّين، وحزبيين من الطوائف والاثنيات المختلفة (ص 267). يرصد الكتاب أيضًا كيف تغيّرت وظيفة "الشبّيحة" منذ منتصف عام 2012، حيث لجأ النظام في مواجهة الثورة المسلّحة إلى "مأْسسة" جهاز "الشبّيحة" تحت مسمّى "جيش الدفاع الوطني".
التطييف والطائفيّة وذيول العنف
يخصّص بشارة ثلاثة فصول (7، و 8، و9) من الكتاب لمناقشة هذا الموضوع محاولًا تحليل خلفيات الخطاب والعنف الطائفيّين بالحفر في تاريخ سورية الحديث لا سيّما بعد وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1963، وما نجم عنه من (ترييف) الحزب، و (تطييف) الجيش. يرى الكاتب أنّ عملية تطييف الجيش مرّت بأربع مراحل:
يتناول الكتاب مراحل "ترييف" الجهاز الإداري للدولة، ويتوقّف عند تغيّر القواعد الاجتماعية للبعث في التسعينيات؛ فقد تحوّل البعثيون الريفيون من قادةٍ حزبيين وعسكريين إلى موظّفين تابعين ليصبحوا "برجوازية جديدة" إلى جانب برجوازية حلب ودمشق التي ضمن الأسد مصالحها مقابل الولاء له (ص 300). وعليه، ورث بشار الأسد قواعد اجتماعية في حالة تغيّر؛ إذ تراجع حضور القواعد الاجتماعية القديمة (فلاحون، وعمّال، وموظفون) لمصلحة الطبقة البرجوازية الجديدة المثخنة بصفقات الفساد والاستبداد، والتي يسمّيها الكاتب "فئة الذئاب الشابّة".
ينطلق بشارة ممّا سبق ليتناول مسارب الطائفية خلال الثورة والمغذّيات والدوافع لظهور الكراهية الطائفية، ويؤكّد على أنّ مقولة الفتنة الطائفية هي جزء من خطاب النظام لترويج أنّ الدولة السلطوية وحدة تمنع الفتنة والانقسام. ويوضح الكاتب عوامل أخرى ساهمت في حالة الشحن الطائفي كخطاب بعض المعارضين، وتحريض القنوات الدينية.
يشرح الكاتب بالتفصيل المذابح الطائفية التي نفّذتها مليشيات "الشبّيحة"، ويحلّل عقلية المليشيات الأقلّوية التي تعتمد على الردع والقسوة الجسدية لردع الأكثريّة (الهويّة المضادّة). ويركّز بشارة أيضًا على مظاهر العنف الاجتماعي. ويمايز ما بين ظاهرة العنف السياسي (عنف الثورة) والعنف الاجتماعي الذي كان قائمًا خارج الثورة أو سابقًا لها كالعنف ذي الطابع الجنائي والعنف الجهادي. يصنّف الكاتب الحركات السلفية إلى جهادية عالمية وفقًا لنهج القاعدة، وجماعات سلفية تقتصر أهدافها على سورية، وأخرى تسلفنت ضمن تفكير براغماتي لإرضاء الداعمين.
التشابك الجيوستراتيجي خصم الثورة
يفرد بشارة نحو مئة وثلاثين صفحة من الكتاب لاستعراض مبادرات الحلّ السياسي وتعثّرها، ولشرح التفاعلات الجيوستراتيجية للقوى الدولية والإقليمية التي تحوّلت بحسب توصيف الكاتب إلى "حليف النظام ضدّ شعبه"؛ فالثورة جاءت في مرحلة تغيّر مفهوم الأمن القومي لدى أميركا بعد سياسات جورج بوش التدخلية، وفي مرحلة تحاول روسيا أن تعيد أمجادها السابقة بوصفها قوّة عالمية عظمى.
يشرح الكتاب موقف الدول الفاعلة وسياساتها وفقًا لما يلي:
دوليًّا، لم تكن أميركا حليفًا للثورة وركّزت على قضايا تخصّ أمنها القومي فقط، بما فيه وبشكل رئيس موقع إسرائيل في المعادلة، ولا سيّما في ما يتعلّق بموضوع السلاح الكيماوي، والتطرّف الإسلامي، كما فضّلت التعاطي مع الثورة كأزمة دولية يمكن حلّها بالتوافق مع روسيا. في المقابل، كانت روسيا حليفًا للنظام واتّخذت موقفًا صلبًا في مساندته؛ إذ استخدمت حقّ النقض (الفيتو) ضدّ ثلاثة قرارات في مجلس الأمن. يوضح الكاتب الموقف الروسي، والذي يرى في بقاء النظام نفوذًا جيوستراتيجيًّا في منطقة الشرق الأوسط تستطيع من خلاله تعظيم مصلحتها وأمنها القومي بما يتلاءم ورؤية روسيا الإستراتيجية الجديدة التي طرحتها بداية التسعينيات، والقائمة على ما تسمّيه "الأوراسية الجديدة" (ص 483).
إقليميًّا، كانت تركيا حليفًا قويًّا للثورة بعد أن فشل رهانها على النظام الذي أفشل جميع مبادراتها ومساعيها، وقامت بتفعيل أوراق ضغط عدّة مثل دعم المعارضة السورية السياسية، وتسهيل مرور السلاح، ومساعي الإغاثة واللاجئين. لكن الضغط التركي توقّف عند هذا الحدّ، ولم يصل إلى التدخّل العسكري؛ فهي دولة وطنية حديثة لديها مؤسّسة عسكرية قويّة متحفّظة على فكرة التدخّل المنفرد، ولديها رأي عامّ معارض، إضافةً إلى إشكالياتٍ أخرى كالقضيّة الكردية والمسألة العلويّة. في المقابل، كانت إيران سندًا للنظام؛ إذ لا يمكن تصوّر بقائه من دون الدعم المالي والعسكري الإيراني. لقد رأت إيران في الثورة السوريّة محاولة لتفويض دورها على المستوى الإقليمي؛ فما كانت تخشاه في حال سقوط النظام هو طبيعة النظام المقبل، والذي سيكون – بحسب القادة الإيرانيين - أقرب إلى تركيا والدول العربية المعتدلة، وهو ما سيترك تداعيات على نفوذ إيران ودورها المستقبلي. انطلاقًا من ذلك، غضّت إيران الطرف عن وحشية النظام.
أمّا إسرائيل، فيوضح الكاتب رغبتها في أن لا تحقّق الثورة أهدافها بسرعة، وأن يمتدّ أمدها ويتواصل قمع النظام لفترة طويلة. يخلص بشارة إلى مجموعةٍ من النقاط المحورية التي تحظى بشبه إجماع في إسرائيل على أنّها تخصّ مصلحتها؛ وهي:
الفوضى المسلّحة تشكّل خطرًا أمنيًّا، ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ أيّ نظام جديد سيتّخذ موقفًا معاديًا، لأنّه يحتاج إلى شرعية داخلية، في حين أنّ النظام الحالي يحتاج إلى شرعية خارجية، وسيضطرّ إلى تليين موقفه من إسرائيل (ص 584).
بالنسبة إلى المواقف العربية، يشرح الكاتب تدرّج الموقف السعودي تجاه تقديم المساعدات للنظام من بداية الثورة إلى المطالبة بالإصلاح، من ثمّ القطيعة ودعم المعارضة عسكريًّا عبر مكتب الارتباط الموجود في إسطنبول والأردن. أمّا في الموقف القطري، فيبين بشارة كيف أنّ قطر الحليف السابق حثّت النظام على الإصلاح وعدم تضييع الفرصة. وخلال تناوله دور الإعلام في الثورة، يوضح بشارة كيف أنّ دولة قطر تدخّلت لدى قناة الجزيرة لمنع تغطيةٍ شاملة لما يجري من احتجاجات، لكي لا يفهم النظام أنّها رغبة قطرية في دعم الثورة واتّخاذ موقفٍ مناوئ له. حصل ذلك في مرحلة ادّعى النظام أنّ الجزيرة تفبرك الاحتجاجات وتضخّمها. يوضح بشارة كيف انتقلت قطر بعد تعنّت النظام، إلى مؤسّسة الجامعة العربية في محاولةٍ لإنضاج تسوية سياسية تعرّض سورية الدولة والشعب إلى سيناريوهات كارثية وتمنع التدخّل الأجنبي، لكن إفشال النظام هذه المبادرات وبطشه بالشعب استنادًا إلى الغطاء الروسي في المؤسسات الدولية دفع قطر إلى تغيير إستراتيجيتها والاتّجاه إلى محاولة عزل النظام عربيًّا ومعاقبته، ودعم الثورة وتسليحها.
الخلاصة
يخلص الكاتب إلى أنّ الثورة السوريّة حالة فريدة واستثنائية لتعقّد ظروفها والعوامل المؤثّرة فيها، وأنّ هذه العوامل يمكن أن تؤدّي إلى نتائجَ كارثية إذا لم تحصل تسوية سياسية. والتسوية برأيه ليست تسوية سلمية لأنّ مسار الثورة والقتال الدائر قد تجاوزها، بل هي تسوية سياسية تتضمّن رحيل النظام وبقاء جهاز الدولة بما يمهّد الطريق للانتقال التدريجي نحو الديمقراطية. وأخيرًا، يرى بشارة أنّ البديل عن هذه التسوية هو تعمّق الصراع وتعقّده وتحوّله إلى صراعٍ طائفي واثني. يطالب الكاتب القوى الثورية بأن تلتفّ حول برنامج سياسي وطني يتبنّى مبادئ الثورة بوصفها ثورة وطنية ضدّ الاستبداد.