الكاتب تسكنه قناعة مخالفة للسائد من الكتابات العربية، مفادها أنه ليس ثمة علاقة تستحق البحث بين الإسلام والديمقراطية.
صحيفة العرب - طارق خميس
القدس- يأتي كتاب "الدين والتدين" الواقع في 496 صفحة، والصادر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، كمقدمة لمشروع المفكر العربي عزمي بشارة الجديد، وجزء أول لسلسلة تحمل عنوان "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" فيما من المنتظر- كما ذكر بشارة- أن يصدر جزئيين آخرين، يعالج الجزء الثاني منها: العلمانية والعلمنة ونظرياتها والخلفية الفكرية والتاريخية لتطوّرها. في حين يتمحور الجزء الثالث حول: تصنيف بعض النماذج العثمانيّة والعربيّة وتحليلها. لذلك من المبكر الحُكم على المشروع ككل، ستحاول هذه القراءة إلقاء الضوء على مقدمته مؤجلة مساهمتها النقدية لوقت صدور باقي الأجزاء.
يتجاوز بشارة العضّة التي عضّها الكاتب الألماني ماكس مولر لعلماء الاجتماع بعده، وهي التي جعلت دراسات الدين تتخذ من النصوص المقدسة محور التركيز الرئيسي في دراستهم، لأنّ هذه المصادر القديمة تقف مقابل الممارسات الفعلية على أرض الواقع؛ ولذلك فإن مقاربة بشارة -التي تنقلت بين الحقول المعرفية- لا تنشغل بالدين إلا بقدر ما تقصد التدين، ولا تفهم نظريات الدين إلا للوصول إلى التدين بوصفه ما يستحق الدراسة فعلاً.
قطيعة مع الحداثة
هذا الجهد، وإن كان يشكل قطيعة مع تيار حداثيّ عريض اعتبر الدين وعيا بدائيا، إلا أنّه لا يشكل قطيعة مع الحداثة ذاتها، فمحاولة بشارة حداثيّة بامتياز، لا يشغلها الذهاب إلى الدين ولحظته التأسيسية للاستماع إليها بقدر ما تستدعي مجموع اللحظات التأسيسية وتمثيلاتها في سياق حداثيّ عربي يحاول بناء أمة (لم تحل مسألتها بعد). تسكن الكتاب قناعة مخالفة للسائد من الكتابات العربية، مفادها أنه ليس ثمّة علاقة تستحق البحث بين الإسلام والديمقراطية، وأنّ لا علاقة تستحق البحث بين المسيحية أو اليهودية والديمقراطية، وما يستحق البحث هو سؤال علاقة أنماط التدين بالديمقراطية.
لقد صبغت أطروحة ماكس فبير الكتابات العربية حول العلمانية، حيث جعلتها قطيعة مع الدين ونزعاً للسحر عن العالم، فيما أُهملت نظريات أخرى رأت في العلمانية اتجاهاً داخلياً لتطور المسيحية في سياق غربي، فهي لم تكن قطيعة بالمعنى الفيبري، بقدر ما كانت نقلاً للمفاهيم اللاهوتية واستنساخاً لمفاهيمها لتعمل في الفضاء الدنيوي والسياسي، وهو ما أشار إليه توماس لوكمان بـ"العلمنة الوظيفية".
ولذلك لا يقع بشارة في تلك الرؤية الفيبرية، فهو يذهب إلى القول بأن التديّن يتأثر بأنماط العلمنة، وكما أن الإلحاد في سياق آخر يتأثر بالدين بوصفه نفياً له لكنه لا يغادر إطاره المفاهيمي، ولئن كانت العلمانيّة قد نزعت السّحر عن العالم، لكنها لم تنزع من الإنسان قابليته للإنسحار، وما يمكن رصده هو تمييز مجالات الانتماء والولاء من الانتماء الديني، وهذا التمايز من أسباب انحسار الدين التدريجي في مجاله، أي أنه يصبح مجالاً محدداً بالإضافة إلى دخول العلم إلى تلك المجالات. إن ما وقع تاريخياً ليس فصل الدين عن الدولة، بل قوة الدولة في مركب العلاقة (دولة/دين) واستخدام الدولة للدين لاحقاً وهو ما يجعلها بحاجة لمؤسسات تمثله وتعبر عنه وتضبط الناس باسمه، بلغة بشارة.
العقلنة والعلمنة
ويرى بشارة ضرورة الانتباه إلى أنّ العلمانيّة تختلف عن العقلنة وإن كانتا تتقاطعان، فالعقلنة لا تعني بالضرورة العلمنة رغم أنهّما صيرورتان متقاطعتان مترافقتان؛ بل إنّ العقلانية تواجه تحديات في مجالات معلمنة أقصي منها الدين لكنها ظلت تخضع لمقاربات وعلاقات إنسانية معرضة لانفعالات القدسيّة وانفعالات عاطفيّة أخرى غير دينية.
إنّ عقلنة مجالات معينة يفقدها خصوصيّتها كالفنّ والأدب، وتأتي مهمة العقلانيّة هنا، لفهم المعنى وفق منطقه الخاص وليس تجريده منه. ولذلك فإنّ الإيمان الذي يمكن تفنيده بالعقل، هو القائم على استنتاجات عقليّة؛ فمن يصوغ إيمانه بجمل عقليّة يسهل عملية تفنيده، حيث الإيمان متجاوز للصياغة ويتحرك في منطقة مختلفة عن تلك المنطقة التي يتحرك فيها العقل.
لقد انتهت نقاشات جمع القرآن والمرويات التي ذهبت إلى الإشارة بوجود نقص ما خلال الجمع إلى التهميش، وجرى التعامل مع النص القرآني بصيغته الحالية المنجزة بأنّه مقدس وكامل؛ حفاظاً على وحدة الجماعة. هذا التصور المستقر جعل بشارة ينتقد الجابري فيما اعتبره تحولاً من الفلسفة إلى علم الكلام الاعتزالي التفسيري، وهو الدور الذي لعبه الجابري في آخر حياته -تحديداً في الكتب التي وضعها كمدخل لدراسة القرآن- وهو دور حال دون الإتيان بجديد بحسب بشارة.
تمايز الدين
يفرد الكتاب فصلاً كاملاً لنقد الدين، مبتدئاً بمعالجة مقولة العلم والدين، وينبّه إلى أنّ اعتبار الدين نوعاً من فلسفة بدائيّة، هو من مخلفات النظرة العلمويّة الموروثة من مرحلة التنوير الأولى، التي خلطت بين نظامي المعرفة الدينيّة والمعرفة العلميّة ومجاليهما ووظيفتهما. ولذلك فإنّ التجربة الدينيّة هي أساساً تجربة وجدانيّة كليّة، تصاغ لاحقاً في جمل إيمانيّة ومعرفيّة، وهي تبقى دائماً في طور التعريف.
لقد توقع كل الآباء المؤسسين لعلم الاجتماع انحسار الدين مع تقدم التاريخ وتعميم الحداثة، وحسب بشارة تبدو هذه التوقعات في غير مكانها، لقد جرى تمايز الدين عن مجالات الحياة هذا صحيح جزئياً، لكنّه اكتسب قوة إضافيّة كحل لمشكلة الاغتراب واللامعنى التي تزايدت مع الحداثة.
يختتم بشارة كتابه بفصل التعريفات، وهو واعٍ بأن إرجاع الظاهرة إلى مكوناتها لتحقيق التعريف بها، يعد منهجاً قادماً من العلوم الطبيعيّة، لكنّه منهج غير دقيق حين يتعلق الأمر بالعلوم الاجتماعية. فهو يقول: "إن من يعرف الدين من داخله يصل إلى تعريف الدين بالدين، ولذلك فإن محاولة تعريفه ودرسه لاحقاً هي عمليّة علمانيّة تعني ابتداءً استقلاله كحقل يمكن دراسته وتحديده".
تبقى محاولات مقاربة الدين والتدين، محدودة التأثير إذا ما خرجت من جهد خارج دائرة أنماط التدين نفسها، لأنها مريبة سلفاً من قبل المتديّنين، كما أنّها لا تقدم لغيرهم قطيعة مع المشروع الحداثيّ الغربي. ولكنها بالمقابل إذا خرجت من ذات الدائرة فلن تكف عن كونها تبشيريّة دعويّة، إما سلفيّة الطابع ترى في الماضي مستقبلها، أو حداثيّة الطابع ترى في أسلمة ظواهر الحداثة أسلوباً يحفظ وجودها، فيما هو يعيد تشكيلها دون أن تكون الإثنين. وربما هذه ورطة مقاربة ظاهرة الدين والتدين.