حسين عبد العزيز*
ما أروع أن تقرأ لعزمي بشارة، وخصوصاً عندما تكون من دارسي الفلسفة، ومهتماً بالجانب السياسي منها. كيف لا، وهو أستاذ الفلسفة السياسية، وأفضل من كتب عربياً في هذا المجال.
يدخلك عزمي بشارة مع بعض العناء والتكلف في جوهر المفكَّر فيه، فتصبح وأنت تقرأ سطوره مفكراً تبحث معه عن مجاهل الإشكالية الفلسفية المراد بحثها.
يجعلك تعرف نفسك بنفسك على الطريقة السقراطية، ويدفعك إلى البحث عن الكلي في الخلفيات.
ينقلك بشارة من حالة القوة إلى حالة الفعل مباشرة دون توسط، فتخاطب معه كبار الفلاسفة، من أرسطو إلى هوبز ولوك وروسو وكانط وهيغل وماركس وغرامش وهابرماس... إلخ.
حمل بشارة هموم أبناء شعبه، وهموم معاناتهم بوصفهم مواطنين من الدرجة الثانية. وضع كل جهده الفكري والسياسي لكونه نائباً في الكنيست، من أجل الكشف عن تهافت الفكرة الديموقراطية الإسرائيلية... كتب العديد من المقالات، وألف الكتب في هذا المجال، كان آخرها كتابه المهم جداً «من يهودية الدولة وحتى شارون: دراسة في تناقض الديموقراطية الإسرائيلية»، حيث كشف فيه أوجه التناقضات البنيوية التي تهيمن على الخطاب الإيديولوجي اليهودي بشقيه الديني والسياسي من جهة، والتناقضات البنيوية في بنية الدولة من جهة ثانية.
لعل من المهم اليوم، في خضم الحملة الإسرائيلية على فكر عزمي بشارة أن نعيد طرح أفكاره عن تناقضات الديموقراطية الإسرائيلية التي طالما تباهى بها اليهود أينما كانوا.
يعترف عزمي بشارة أولاً بأن إسرائيل ليست دولة ديكتاتورية، ولا هي دولة يحميها العسكر، ولا دولة الحزب الواحد، بل هي دولة تتوافر فيها انتخابات برلمانية عامة ونسبية، وهي أكثر طرق التمثيل البرلماني تمثيلاً لنسب الأحزاب، وهذه الطريقة هي الأمثل في حال سيطرة أحزاب وطنية لا طائفية، وهي الطريقة الأفضل في عملية بناء أمة بواسطة الدولة.
ويعترف بشارة أيضاً بأن المجتمع الإسرائيلي رغم ازدياد الفرز الطبقي، يزداد تبلوراً كمجتمع ذي هوية ثقافية جامعة رغم التعددية القائمة. فشرعية المؤسسات الديموقراطية، وبوتقة الصهر القائمة في الجيش، ودور الإيديولوجية الصهيونية، واتساع الطبقة الوسطى، والانسجام الثقافي العبري في عملية بناء الأمة ثقافياً، هي عوامل مهمة تتغلب على الانقسام الطائفي من دون أن تلغيه، وأساس لتمكين التعددية السياسية من الاستمرار في إطار الوحدة الوطنية.
يبدأ بشارة في مناقشة مفهوم المساواة عند اليهود، تلك المساواة التي تعني منح حقوق هنا أو هناك، بدون أن تعني المساواة الكاملة، وهذه المساواة بنظر المفكرين الصهيونيين موازية لفكرة الدولة القومية الديموقراطية. يرفض بشارة هذا المفهوم ويراه غير متطابق مع الحالة الإسرائيلية، فإسرائيل لا تفصل بين الأمة والقومية والدين، وبالتالي لا يمكنها الفصل بين الدين والدولة، حتى في ما يتعلق بمسألة المواطنة، وهنا منبع التناقض البنيوي في الديموقراطية اليهودية، فليست كل دولة قومية هي دولة ديموقراطية، الدولة القومية الديموقراطية تحول المواطنة إلى أساس الانتماء إلى الأمة الحديثة بغض النظر عن أصول المواطنين الأقوامية.
وإشكال الديموقراطية الإسرائيلية الثاني هو إشكال المواطنة ويهودية الدولة، وهو ينقسم إلى إشكاليتين: الأولى أن يهودية الدولة تستند إلى عدم الفصل بين الدين والقومية، وتقود بالتالي إلى عدم الفصل بين الدين والدولة. والثانية أن الدولة ليست يهودية فقط بحكم الأغلبية اليهودية فيها، بل أيضاً بحكم كونها دولة اليهود، أي إن إسرائيل بحكم رؤيتها وتعريفها لذاتها ليست دولة جزء كبير من مواطنيها، وهي في الوقت ذاته دولة كثيرين ليسوا مواطنين فيها.
الإشكالية الأولى هي إشكالية عدم تمكن الدولة من تحقيق المساواة، أما الإشكالية الثانية فهي إشكالية المواطنة المؤدلجة، المواطنة الصهيونية، ويفترض أن المواطنة في الدولة الديموقراطية الليبرالية محيدة إيديولوجياً.
إسرائيل هي الحالة الوحيدة في العالم التي يمارس فيها التطابق بين الدين والقومية بشكل كامل، ويتم الانتماء فيها إلى القومية ثم المواطنة عبر تغيير الدين. إنها دولة يهودية تهدف إلى تجميع الهجرات الصهيونية، وما يترتب على ذلك هو أساس الديموقراطية، إنه أساس الانسجام الذي يعوض فقدان التاريخ الديموقراطي وفقدان البنية القومية. الصهيونية، لا المواطنة، هي وعاء الديموقراطية اليهودية، وهي عائق تطورها في آن، فهي في ساعات الأزمة لا تعدو كونها ديموقراطية داخل القبيلة.
أدت عملية العلمنة من حيث هي فصل الدين عن الدولة إلى فصل آخر لا يقل أهمية، هو فصل الدين عن الأمة مع نشوء الدولة القومية، ونجم عن ذلك توترات على هامش الدين والسياسة. فعلى هامش الدين ينشأ الدين السياسي (العمل في السياسة باسم الدين والارتقاء بالسياسة إلى مستوى المقدس). وفي عالم السياسة النقي من الدين يولد توتر ناجم عن التوق إلى المقدس فتنشأ المقدسات العلمانية، وكلاهما الحركات السلفية والحركات العلمانية الغيبية هما من نتاج عملية العلمنة.
التيارات الأصولية تختلف عن المؤسسة الدينية اختلافاً جوهرياً، لأنها تحتاج إلى عملية العلمنة، والأصولية هي تيار ديني سياسي حديث يدعو إلى إعادة دمج الدولة في الدين، أي إنها تفترض انفصالهما التاريخي في الوعي على الأقل، كما يجب تمييز التيارات السياسية العلمانية التي ترفع قيماً دنيوية إلى درجة التقديس، من التيارات اليمينية المحافظة التي تضع نصب أعينها قضية الحفاظ على الهرمية الاجتماعية.
إن الفرضية التي يطرحها بشارة تتناول العلاقة بين التوجهات القومية أو الطبقية المتطرفة التي تقع على هامش السياسة أو الدولة التي تعلمنت، وبين التوجهات الأصولية على هامش الدين الذي فقد الدولة، والمثل الوحيد الذي عثر عليه بشارة لتوجهات قومية متطرفة تتطابق في بعض الحالات مع اتجاهات دينية سلفية أو أصولية متطرفة هو المثل الإسرائيلي. واستنتاجه يقوم على أنه لم تجر في الحركة الصهيونية، وفي إسرائيل أصلاً، عملية علمنة في جوهر المفاهيم، بل في مظاهرها فقط.
في إسرائيل خلافاً للدول القومية الأخرى (nation state) لا تتطابق الأمة مع المواطنة، فليس كل مواطن إسرائيلي جزء من الأمة الإسرائيلية التي لا تعترف المؤسسة الرسمية بوجودها. وبموجب الموقف الرسمي، فإن أكثرية السكان في إسرائيل هم يهود ينتمون إلى أمة عالمية هي الأمة اليهودية. والنقاش الجاري في إسرائيل حالياً هو فقط بشأن إذا ما كانت دولة اليهود أو تعدو ذلك لتكون دولة يهودية، أي دولة ذات طابع ديني يهودي، لكن كلا الطرفين المتناقشين في إسرائيل لا يتجاوز عملياً التطابق بين الأمة والطائفة، أو اعتبار الانتماء إلى الطائفة اليهودية انتماء إلى الأمة اليهودية.
لم يتبادر إلى أذهان ممثلي التيارات الدينية وهم تحويل إسرائيل إلى دولة شريعة، لأن دولة الشريعة الدينية ستقوم بمجيء المخلص المسيا، لكن الغريب أن القوى الدينية التي وضعت نصب أعينها تحويل إسرائيل إلى دولة شريعة، هي القوى الدينية الصهيونية، وهذا طبيعي، فمن المنطقي أن تطرح الصهيونية الدينية مثل هذه المهمات، لأن الدولة بالنسبة إليها هي مقدمة مجيء المخلص، وللدولة معان دينية ميسانية، لذلك من الأصح إطلاق أسم السلفية على الحركات الدينية الصهيونية التي تتوق إلى إعادة ربط الدين بالدولة فعلياً وواقعياً، لا جوهريا فقط، فيما لا يصح إطلاق اسم السلفية على الأحزاب الدينية لأنها تمر أصلاً بعملية علمنة. الأصولية هي نتاج الفصل بين الدين والدولة، والدين والدولة لم ينفصلا بالنسبة إلى هذه الحركات الأخيرة التي ما زالت تنتظر وحدتها في نهاية التاريخ عند قيام الدولة اليهودية بقدوم المخلص.
وعليه يمكن أن نختتم مع عزمي بشارة بأن الصهيونية لم تنشأ عن حركة التنوير الأوروبية بقدر ما جاءت كرد فعل على حركة التنوير مثل بقية الحركات القومية الرومانسية في القرن التاسع عشر. لكن مأساتها أنها بردة فعلها التي نجحت تاريخياً بفعل عوامل أوروبية، لم تنجح في تشييد صرح أمة يهودية منفصلة عن الطائفة اليهودية.
* كاتب سوري