عوني بلال
يتساءل بعضهم عن الموقف المحتمل لشخصيات تاريخية، لو عاشت إلى اليوم، وشهدت فصول الملحمة السورية. ماذا لو عاصر المتنبي أحداث المرحلة؟ هل كنا سنشهد سينيّة مطوّلة في امتداح الأسد أم خائية طاحنة في ذمّه. أو ماذا كان سيقول نزار قباني في الصراع السوري؟ هل كان ليقول شيئاً أصلاً، أم أنه كان سيتخندق في الكتابة عن النساء والياسمين والأم والقطط المنزلية وسائر المواضيع الوادعة الآمنة التي لا "تُزعِل" أحداً، ولا تُغضب أحداً، ولا تكاد تعني أحداً؟ لا أعتقد أن هذه أسئلة قيّمة، بل لا أعتقد أن هذه أسئلة من الأساس. يتعرّف الإنسان بالسياق الذي يعيشه، وهو نتاج تلقيح الموروث الجيني بالبيئة المحيطة، ولا أعرف ماذا يبقى من الشخص من دون هاتين الاثنتين.
إن إحلالَ إنسانٍ في غير زمانه، ثم التساؤلَ عن موقفه وقتَها يشبه، بشيء من المبالغة، استبدال دماغ الإنسان بدماغٍ آخر، ثم التساؤل عن موقفه وقتها. لكن لا نفعَ من الإنكار، فالموضوع شائق، ويداعب إيماناً شبهَ غيبيٍّ لدينا، بوجود جوهرٍ ثابت للإنسان عابرٍ للزمن، ومستقلٍّ عن الحدث، وقافزٍ فوق رأس السياق. ولذلك، لا تبرح هذه الأسئلة الساحة، ولا تعدَمُ المُحبِّين. لكنني لا أكتب رغبةً بالاقتراب منها، وإنما على العكس تماماً، أكتب رغبةً في الهرب منها.
أصبح البحث في مواقف الآخرين مهنةً لبعضهم وهوايةً لكثيرين. وتشعّب الموضوع، وتعقّدت القضية، وانشطرت المواقف إلى ظاهرة وأخرى باطنة، وتلوّنت المواقف؛ بيضاء وسوداء ورمادية، ودخل علم التصنيفات على الخط، فظهرت قوائم العار وقوائم الشرف، ثم اقتحم النقد الأدبي الحلبة، وأصبح البحث في شخصية صاحب الموقف مفتاحاً لفهم الموقف، تماماً مثلما أن البحث في تاريخ الروائيين يشكّل لبعضهم مفتاحاً لفهم نصوصهم. لا يكفي في أيامنا أن يكون للإنسان موقفٌ ثابت من قضية ما، وأن يدفع من حريته وحياته ثمناً لها، إذ يكفي أن يكون من دينٍ ما، أو عِرقٍ ما، أو مقيماً في بلدٍ ما، حتى يصبح موقفه الفعلي قضيةً خاضعةً لعلم الأبراج والتنجيم وقراءة الكف، بدلاً من أن تتعلق بما يقوله أو يكتبه أو يفعله. نشأت ظاهرة غريبة في الأعوام الماضية، حيث الطائفية والعنصرية المستشرية تتفنن للتعبير عن نفسها من دون أن تبدو طائفيةً أو عنصرية.
فبدلاً من لعن صاحب طائفةٍ، أو إثنيةٍ معينةٍ، بسبب انتمائه الطائفي أو الإثني، تتم مهاجمة موقفه؛ موقفه المُتخيَّل طبعاً من الراغب باللعن، وليس موقفه الفعلي المعلن. فأنا أكره فلانا، ليس بسبب كونه فلاناً، وإنما لأنه يدافع عن اللصوص؛ يدافع عنهم سراً طبعاً، ويُخبئ ذلك عبر نضاله طوال حياته ضد السرقة، وعبر دخوله السجن سنوات طويلة، بتهمة التطاول على اللصوص. لدى كثيرين، لم يعد الموقف أمراً تُعلِن عنه، وإنما شيئاً تولَد به، وهو ليس شأناً فكرياً يخصّ حيّز السياسة والأخلاق، وإنما مسألةً كروموزومية تتعلّق بسؤال البيولوجيا.
ليست قضية الموقف تافهة؛ لا يوجد تجلٍّ لحاسّة الإنسان الأخلاقية أهم من موقفه في القضايا الكبرى، خصوصاً عندما لا يكون الموقف مجانياً، ويستلزم من صاحبه أكثر من مجرّد القرع على لوحة مفاتيح بلاستيكية. جوهر الإشكال في هذا الازدحام الجماهيري بشأن مسألة المواقف لا يتعلّق بالإعلاء من قيمتها بأكثر مما تستحق، وإنما على العكس، بالحطّ من قيمتها عبر فرط التداول، وبدمغها بلمسة صالونات النميمة وأخبار المشاهير، وبجعلها ساحةً لمزاودات المراهقين والتافهين والسفلة. فَهْمُ دوافع الإنسان في موقفه أمرٌ أهم بكثير من التشهير، أو التمجيد، بصاحب الموقف، لكن المبالغة والبذاءة والفجور أصبحت سماتٍ ثابتة في مواقفنا من مواقف غيرنا، وتشكّلت لدينا ثقافةٌ متكاملةٌ للإسفاف، ليس فقط في مواجهة خصومنا، وإنما في التعاطي مع من يشاركونا المنطلقات والأهداف نفسها، وأحياناً حتى الوسائل نفسها، لكنهم يختلفون عنا بأصغر التفاصيل.
وأصاب كثيرين منا، فوق ذلك، كساح ذهني، فبدلاً من محاولة فهم الموقف الكلّي للآخر، والممتد على سنوات طويلة وكتابات عديدة، ننزع إلى اختزال موقف الآخر بتعليق من خمس كلمات، كتبه يوماً على "فيسبوك" أو صورة فكاهية أخذها قبل عشر سنوات. كل هذه العاهات الذهنية لا تحتاج تثقيفاً حتى يتجاوزها المرء فحسب، وإنما تستلزم، قبل ذلك، حداً أدنىً من النضج، وتحرّراً عميقاً من السخافة، وهي سماتٌ تبدو أندر من الزئبق الأحمر في أيامنا هذه.
الموقف، بمعنىً ما، هو نقطة التقاء للفرد بالقضية. لكن كثيرين، في خضم العداء للفرد، ينسون القضية، ولا يعود الموقف لديهم إلا فرصةً سانحة لشجارٍ فرديٍّ عابر. لا نقاش للموقف، وإنما تنكيل لفظي بصاحب الموقف. لا أجد تفسيراً لهذا، إلا أننا نتعب، مع الوقت، من القضايا الكبرى، ولا نملك الجرأة لنعترف بذلك أمام أنفسنا، ثم لا نجد لملء فراغ القضية التي أضعناها إلا العداوات الفردية التي اخترعناها، فنعوّض عن صِغَر الخصومة بفرط البشاعة، وعن فداحة الخسارة بدمامة القول.
صحيفة العربي الجديد