د. عزمي بشارة
في حمّى النزاعات التي عمّت العراق بعد الاحتلال الأميركي وانهيار الدولة، إيذاناً بتفريغ التناقضات شحناتها عبر الصراع الطائفي، وتداخلِ هذا الصراع مع مقاومة الاحتلال، جرت عملية تصفيةٍ للوجود المسيحي التاريخي في العراق. وبدت هذه في استفحالها وكأنها ممنهجة. فلم يسلم المسيحيون العراقيون من طائفيي أي طرفٍ، عربياً كان أم كردياً. وفي ظلمة أزقة الصراعات الأهلية، وعتمة شعابها، يسهل التعرّض للفئات المستضعفة: المدنيون الذين لا يحملون السلاح من الأطراف كافة، والأقليات التي لم تنتظم في مليشيات.
فقد كثير من المسيحيين العرب (وغير العرب) من السكان الأصليين للمشرق العربي الشعور بالأمن والأمان، فثمّة من يدفعهم إلى الشعور بالغربة في مدن وقرى وجبال ووديان سوريا الطبيعية والهلال الخصيب التي عاش أسلافهم فيها منذ ما قبل الإسلام، هذا عدا مصر واليمن والجزيرة العربية عموماً. وقد عدّدت كتب السيرة النبوية وكتب التاريخ وأخبار الرجال أسماء قبائلهم وعشائرهم، من نجران إلى غسّان وديار بكر؛ وفي وادي النيل من الحبشة حتى الإسكندرية، منذ ما قبل الإسلام مروراً بأيام الفتح الإسلامي.
وكون هؤلاء عموماً من السكان الأصليين لا يعني أن المسلمين وافدون طارئون، إذ أسلم قسم كبير من السكان الأصليين أنفسهم، كما أن من وفد فاتحاً ما لبث أن اختلط بسكان البلاد، وأصبح أصيلاً بمرور السنين. كما دخل الحواضر الشامية والمصرية من بعده مماليك ترك وكرد وألبان، وقفقازيون من إثنياتٍ مختلفة. امتزجوا وأسهموا جميعا في تشكّل حضارةٍ جديدةٍ، هي الحضارة العربية الإسلامية. وبقيت بعض الأطراف معزولةً لم تنصهر في مزيج المدينة العربية، وحافظت على هوياتٍ ولغاتٍ أخرى. ولكن الجسم الحضاري الرئيسي في بلادنا هو نتاج هذا المزيج، إنه عرب هذه الأيام.
ومن وسائل إشعار المسيحيين بالغربة في بلادهم التأكيد المستمر على أنهم أقلية، مع أن الكثرة الكاثرة منهم جزءٌ من الأغلبية العربية. إنهم أقليةٌ لأنهم ولدوا لأُسَرٍ تعتنق ديانة مختلفة، مثلما ولد المسلمون في عائلات كهذه، من دون أن يختاروا دينهم أو مذهبهم، ومن دون أن يتنكّروا له. ولو كان المسيحيون أقلية، فبوصفهم سكاناً أصليين من المفترض أن يُمنحوا امتيازاتٍ ثقافيةً جماعيةً تعوّضهم عن التحول إلى أقلية. وما دام الحال مختلفاً في بلادنا، فلنتحدث إذاً عن الحقوق على الأقل. لا علاقة للعدد، قلةً أو كثرةً، بمسألة الحقوق. ولا يفترض أن تتدرّج المواطنة الحديثة رتباً ومراتب، بموجب حجم الجماعات التي ينتمي إليها المواطن على مستويات أخرى غير المواطنة، من العائلة والحارة والمهنة وحتى الطائفة والقومية. فالمواطنة لا تعيّر الناس بقليل العدد، ولا تفضلهم بكثيره. (الاستعارة من قصيدة السموأل بن عادياء ومطلعها "إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه/ فكل رداءٍ يرتديه جميل").
والسكان الأصليون الذين فقدوا الهيمنة الثقافية الحضارية، يحافَظ عليهم مواطنينَ أفراداً لناحية الحقوق، وجماعةً بوصفهم جزءاً من تاريخ البلاد نشداناً للحفاظ على تنوع المجتمع وغناه. فهذا التنوع أصيل. والدخيل ليس التنوع، بل التجانس المجرد المفروض بالقسر والإملاء من جهة، والإقصاء والدفع إلى الهجرة من جهة أخرى. إنه الدخيل حقاً. مع أن التنوع المعطى هذا، لم يكن بالضرورة دليل تسامحٍ سائد، أو تعدّدية مقوننة بمعناها الذي نفهمه في عصرنا. فقد ساد الاضطهاد الديني في مراحل كثيرة، كما ساد التساهل والتعايش في فترات أخرى. المساواة في الحقوق للأفراد والضامنة لتنوع الجماعات مسألةٌ حديثة، تماماً مثل الديكتاتورية والديمقراطية، والحرية السياسية والأنظمة الشمولية وغيرها.
وللتمسّك بما تسمى "الأقليات" أسباب أخرى أقلّ مبدئية، مثل الاستفادة من نزعتها الغالبة للاستثمار في التعليم والمهن الحرة، والمبادرة في الاقتصاد، وذلك لأسبابٍ تاريخيةٍ متعدّدة، لا يتسع المجال هنا للخوض فيها. وهذا الدأب يعود بالخير على المجتمعات غالباً، مع أنه عاد وبالاً على الأقليات نفسها في مراحل مختلفة، لا مجال للتوقف عندها، والتأمل فيها في عجالة. ولا ينطبق ذلك على الأقليات كلها (بل على تلك التي حرمت فتراتٍ طويلةً من العمل في الدولة والجيش، كما حرِمت من ملكية الأرض)؛ ولكن يمكننا القول إن البلدان العربية خسرت تنوعاً مثرياً، وقدرات كفاءاتٍ بشريةٍ لا تعوض بفقدان بعض الحواضر أقلياتٍ دينيةً ومللاً فاعلة ونشطة، والأهم أنها بفقدانها التنوع راحت تفقد ذاتها.
وأخيراً، وفي سياق الحديث عن الأقليات المسلمة وغير المسلمة في أوروبا، وحالة عدم الاستقرار، دارت مناقشة لوضع المسيحيين العرب من باب المقارنة. ولا شك أن أمام أوروبا الديمقراطية الليبرالية طريقاً طويلاً للتوصل إلى صيغةٍ لاستيعاب هذه الهجرات، وتجاوز التمييز والإسلاموفوبيا. وقد قطعت طريقاً طويلاً حتى الآن، قياساً بما كان عليه الوضع قبل عقود، سيما وأن عدد اللاجئين والمهاجرين ازداد بشكل ملموس. والمهاجرون اللاجئون، هذه المرة، من أبناء الأكثرية غالباً، فأكثرية الشعب السوري تعاني من حرب الإبادة والتهجير التي يشنها النظام على هذا الشعب.
لكن مناقشة وضع المسيحيين العرب من هذه الزاوية تجنّ على الحاضر، وافتراءٌ على التاريخ. ليس المسيحيون العرب مهاجرين في أوطانهم، إنهم سكان أصليون. وإذا كانت أوروبا تطلب من المهاجر أو اللاجئ أن يحترم مسالك العيش في مجتمعه الجديد وثقافته، وأن يحاول الاندماج فيه، من دون أن يتخلى عن ديانته وعباداته، فذلك لأنه وافد إلى هذا البلد، "اختار" القدوم إليه، من زاوية نظرهم. وعليه، بالتالي، أن يقبل بأسس العيش المشترك ومنها تعلم اللغة. ولا يسلم ذلك من النقاش والطعون، فثمّة تيار واسع يؤكد على التعدّدية الثقافية في المجتمع الديمقراطي، ويحث على احتفاظ المهاجرين بثقافاتهم، وتيار آخر يؤكد على الاندماج. ولكن، لن تجد قوى أوروبية جدية وازنة تعترض على حرية المعتقد والعبادة للمسلمين. وعلى كل حال، فإن حقوق المسلمين في أوروبا أفضل بدرجاتٍ من حقوق المسلمين والمسيحيين في بلدانهم الأصلية.
المسيحيون العرب أكثر اندماجاً في المجتمع العربي من المسلمين في أوروبا، مع أنهم ليسوا مهاجرين، وهذا غير مطلوب منهم، بوصفهم سكاناً أصليين. لقد نمت في هذه الأصقاع، وتطورت عبر القرون ثقافةٌ عربيةٌ مشتركةٌ تجمع الناس. وأصبحت بعض عناصر هذه الثقافة معطياتٍ لا قسر فيها. ولكن، ثمّة قوى سياسية واجتماعية لا تألو جهداً لتقويضها، ليس فقط بالتأكيد على الفرق الذي لا تحتمله نفوسهم، فينغّص عليهم عيشهم، كما يبدو، وإنما أيضاً بالتحريض على الآخرين من هذا المنطلق، عبر خلط الفوارق الدينية والمذهبية بالمواقف السياسية، وجعل الفرق تنابذاً وتخاصماً يحيل العيش المشترك جحيماً. إنهم المتعصبون من الطوائف كلها.
بعض الدول العربية والإسلامية لا يكفل حرية العبادات حتى اليوم، على الرغم من الصراخ بشأن حرية العبادة في مناطق أخرى من العالم، ولا يُمنح المواطن مساواة في الحقوق. ولكن هذه الدول لا تطلب من الأجانب المقيمين بيننا تعلم لغتنا العربية، وتمحض الأجنبي، ولا سيما الغربي، على ديانته المختلفة، احتراماً وتقديراً لا يحلم بهما ابن الوطن، بغض النظر عن ديانته. ثمّة مركبات نقص مخيفة فاعلة هنا.
وما زالت الهوية الطائفية والعشائرية وأصول والدِ المواطن ووالدته ونسَبِهما تلعب دوراً في تحديد مكانته في المجتمع، بغض النظر عن كفاءاته وقدراته الذاتية وتحصيله وإسهامه في بناء بلده.
ولا بد أن تكون هذه القضايا على جدول أعمال القوى الديمقراطية العربية، ومن أهم مطالبها، وفي مقدمتها المساواة في الحقوق واحترام الفوارق في ظل المشتركات. وتنتظرهم مهمات شاقة على مستوى تثقيف النخب والناس عموماً. وتكفي نظرة خاطفة إلى الأفكار المسبقة السائدة على مستوى بسطاء الناس، واستغلال النخب السياسية لها لندرك حجم التحدي.
ولا يفترض أن يكون الرد على التحريض العنصري والإقصاء الطائفي بالتأكيد على إنجازات المسيحيين، أو غيرهم، في الحضارة الإسلامية أو في بناء الأوطان، فهذا موقفٌ تبريريٌّ دفاعيٌّ يتوسّل حسن المعاملة، ويتعامل مع الحقوق كأنها مكرمة أو مكافأة على الإنجازات وحسن السيرة والسلوك. حسناً إذاً، ماذا يكون، في هذه الحالة، مصير حقوق مواطنة من ليس قائداً وطنياً، ولا صاحب إنجاز علمي أو أدبي؟ ليست حقوق المواطنة مشروطةً بالنجاحات، ولا يفترض أن تقوم على سجل إنجازات. الحقوق مشروطة بالمواطنة وحدها. وليس على المواطن أن يثبت لأحد شيئاً، بل أن يحترم مواطنته وسيادة القانون. يصح هذا لأي دولةٍ حديثةٍ، يكون فيها الناس مواطنين وليس رعايا.
وإن من يدّعي أنه يناضل ضد الديكتاتورية، ويحرّض على المواطنين المختلفين عنه في المعتقد بتعميماتٍ فظة، يفقد أي شرعيةٍ مشتقة من كونه ضحية الاستبداد، فهو بذاته مستبد، ولا يرغب الديمقراطيون بالتأكيد أن يجازفوا باستبدال استبدادٍ بآخر.
ليس في حقوق المواطنة أكثرية وأقلية، فالحقوق لا تخضع لمثل هذا التقسيم. أما من يحسب حقوق المواطنة بناءً على الانتماء الديني أو العشائري أو الجهوي، ويصنّف المواقف السياسية بموجبه أيضاً، لا علاقة له بالديمقراطية، سواء أكان حاكماً أم معارضاً، سجيناً أم سجّاناً.
من ناحية أخرى، القيادات التي تنصّب نفسَها على الهويات والطوائف والأقليات، وتراهن على الاستبداد أو الاستعمار، وتثقف جمهورها أن يراهن عليهما حمايةً له من بطش أغلبية تشك بمدى إخلاصها للتعايش وولائها لفكرة المساواة بين البشر، إنما تخلق حلقةً مفرغةً، إذ تثير الشكوك وتذكي نار الأحقاد، وتسهّل التحريض الطائفي المقيت ضدها، فثمة علاقة وثيقة لا يجوز تجاهلها بين مظلومية الأقلية ومظلومية الأكثرية.