د.رضوان زيادة
يعرّف عزمي بشارة في كتابه (الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة) الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بأنها "جماعة تقوم على أساس الانتماء إلى دين أو إلى مذهب، بما في ذلك الوزن الكبير لعناصر التخيل" مستنداً هنا إلى مفهوم بندكيت أندرسون عن الجماعات المتخيلة، وبالتالي يصبح لهذه العناصر "دور في إنتاج السرديات وإدراك الذات من خلال الانتماء إلى جماعة، وبالتالي فهي ليست مصطلحاً دينياً أو ثيولوجياً. إنما هي مصطلح سوسيولوجي ويتحدد بالسياق التاريخي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي وبدرجة التنافس والصراع بين قوى اجتماعية كما أنها متبدلة فهي ليست نفسها في كل مرحلة تاريخية".
في هذا التعريف الدقيق للطائفية يتفق بشارة مع ابن خلدون في معنى العصبية لكنه يدرك أن أدوات الدولة الحديثة والمجال السياسي الذي خلقته حول مفهوم الطائفة والطائفية وجعلهما أدواتين في إطار الصراع السياسي في الدولة العربية الحديثة التي فشلت في بناء جماعة المواطنين وفشلت في تحقيق الحد الأدنى من الرابط المواطني بين أبنائها، ولذلك وجد هؤلاء الأبناء في الطائفية هوية جديدة وفي كثير من الأحيان حماية لهم من "شرور" الدولة الحديثة وأدواتها الحديثة التي تطورت بشكل متقدم في مؤسسة الجيش والأمن وبقيت جنينية أو لم تولد في مجال الحريات العامة والأساسية والديمقراطية ومؤسسات القانون والعدالة.
في كل الحروب الأهلية التي حدث فيها ارتكاب مجازر واسعة النطاق على مستوى اثني أو طائفي، أو تلك الحروب التي مورس فيها الاغتصاب على نطاق واسع، يكون الهدف هو نشر الرعب والخوف بين السكان المدنيين، أن الآخر وهو هنا المنتمي للطائفة أو الإثنية الأخرى ليس بمأمن عن القتل أو انتهاك عرضه أو تصفيته لمجرد أنه ينتمي لطائفة أو اثنية مغايرة عنا تماماً، وهذا بحد ذاته مبرر كاف للقتل أو التصفية الجسدية أو تعريضه "للعار" عبر انتهاك جنسي لزوجاته أو بناته أو أولاده.
وربما كانت الجرائم المؤسسة على أساس طائفي وإثني هي الأكثر انتشاراً في الحرب السورية من الاغتصاب الذي مارسته الأجهزة الأمنية بشكل كبير داخل المعتقلات السرية، إلا أنه ربما أحدثت الهدف السياسي المنشود منه تماماً وهو التطهير أو "التجانس" حسب التعبير الذي استخدمه الأسد مراراً وكما نقل على لسان رئيس الاستخبارات العسكرية جميل حسن حين قال "إن العدد الهائل للمطلوبين لن يشكل صعوبة على إتمام الخطة (خطة تهدف إلى اعتقال أكثر من 3 ملايين سوري مطلوبين داخليا وخارجيا للمخابرات الجوية)؛ فسوريا بـ 10 ملايين صادق مطيع للقيادة أفضل من سوريا بـ 30 مليون مخرب".
وهو ما يكشف أن هناك قراراً سياسيا بتصفية هذا العدد الهائل من الناشطين والمعتقلين السياسيين عبر القتل تحت التعذيب أو التصفية داخل السجون بهدف دفع أكبر عدد من أهاليهم وذويهم للرحيل والمغادرة خوف الاعتقال ومن ثم التصفية.
فقد كشف مدير الأحوال المدنية في سوريا، أحمد رحال، عن تثبيت 100 ألف حالة وفاة منذ بداية 2017 حتى آب/أغسطس 2018، مشيراً إلى تثبيت الوفيات لم يتضمن تحديد طبيعة الوفاة، وهو ما تضمنته شهادات وفاة رسمية أرسلها النظام مؤخراً لدوائر النفوس، عن معتقلين قضوا في سجونه جراء التعذيب، دون تبيان أسباب الوفاة. وقال رحال في تصريح لصحيفة "الوطن" المملوكة لرامي مخلوف والمؤيدة لنظام الأسد، يوم الخميس 9/8/2018 ، إن "مديرية الأحوال المدنية ثبتت 32 ألف حالة وفاة خلال العام 2018، و68 ألفاً خلال العام 2017 دون تحديد طبيعة الوفاة، مشيراً إلى أن الأحوال المدنية تثبت وقائع الوفيات بناء على أي وثيقة تأتي من دوائر النظام، وقال إنه عند تثبيتها لا يُذكر ما إذا المتوفى مفقود أو غير ذلك" في اعتراف رسمي نادر بتصفية 100 ألف معتقل سياسي تحت التعذيب. حسب حواره مع جريدة الوطن المقربة من نظام الأسد.
من الغباء السياسي أن نعتقد أنه ليس هناك مسألة طائفية في سورية، فالبعض يحاجج من قبل النظام أنها مسألة صراع على السلطة، أما بعض المعارضين فيعتقد أنها لا تعدو سوى أن تكون حرباً بين مؤيدين ومعارضين، لن نخوض هنا في بنية النظام السوري أو تركيبته الطائفية وخاصة لعائلة الأسد وكيف انعكس ذلك على قراراته الأمنية والسياسية خلال العقود الطويلة من استلامه الحكم منذ عام 1970 وحتى اليوم، فهناك دراسات أكاديمية رصينة وبشكل خاص كتاب الدكتور عزمي بشارة، الطائفة- الطائفية والسياسات الطائفية.
كما أنه ليس هنا موضع النقاش حول تأريخ وبداية الاستخدام الطائفي للشعارات في الثورة السورية، أو الخلفية الطائفية والدينية للمتظاهرين السوريين في بداية الثورة، وما إذا كانت الثورة السورية من بدايتها طابعاً طائفياً أم لا، يتحدث عزمي بشارة في كتابه تحت فصل بعنوان "كشف غطاء الاستبداد وظهور الكراهية الطائفية" عن أن "الثورة السورية بدأت مدنية بالمعاني كلها،
وكان الناشطون الفاعلون في التنظيم والإغاثة والإعلام من الطوائف كافة، كما أن الواجهات السياسية للثورة التي تشكلت خارج سورية حافظت على بنية مختلطة من الطوائف كافة"، لكنه يضيف أن ثلاثة تطورات أدت إلى ظهور تعبيرات طائفية دفعت الثورة باتجاه الاحتراب الأهلي: وهي أولاً قمع الناشطين المدنيين بالقوة في مراحل الثورة الأولى، ثانياً إصرار النظام على قراءة الثورة تارة باعتبارها مؤامرة خارجية وتارة فتنة طائفية وتصاعد دور مليشيات النظام خلال الثورة، وثالثاً ظهور محاور إقليمية تؤثر في خطابات الأزمة السورية وتتأثر بها مع بروز تحالف الحكومة العراقية والإيرانية وحزب الله بشكل منسق في دعم النظام السوري مادياً وعسكرياً".
ثم يسرد بالتفصيل كيف تم توظيف الخطاب الطائفي من قبل النظام بهدف تحويل الطائفة العلوية إلى نواة النظام الصلبة لاسيما بعد أن شعر باتساع الثورة وخطورتها كرد فعل على مركزة الثروة والسلطة وهذا ما فتح الباب لمسارب الكراهية الطائفية على حد تعبيره التي أذكاها خطابات فردية داخل المعارضة اتسعت تدريجياً كي تصبح صوتاً مهيمناً فيما بعد، لكن النظام كان يصر على إذكائها بدل معالجتها بوصفها الطريقة الوحيدة لدعم صلابة قاعدته المتمثلة في "الطائفة العلوية" كما جرى تكرار رواية أن المتظاهرين استخدموا أو رفعوا شعاراً من مثل "العلوي إلى التابوت والمسيحي إلى بيروت" في الأيام الأولى للثورة في درعا رغم أنه من المستحيل العثور على فيديو واحد لكل المظاهرات السلمية يظهر رفع هذا الشعار، لكن هذه الرواية جرى تردديها بشكل أعمى من قبل كل مؤيدي النظام السوري من محلليين ومعلقين على الفضائيات العربية بهدف نشرها وتحويلها للرواية الرسمية، وللأسف كل الباحثين الذي أرخوا لظهور الطائفية في الثورة السورية رددوا هذه الرواية دون حتى محاولة التحقق من تاريخ رفع هذا الشعار أو مكان ظهوره وحتى مدى هيمنته على خطاب المظاهرات السلمية في المرحلة الأولى للثورة السورية، أو تكرار رواية "مقتل العميد عبدو التلاوي بالإضافة إلى ابنيه وابن أخيه في حي الزهراء بحمص، وعرض جثثهم المشوهة عبر الإعلام" كدليل على البعد الطائفي المبكر في المرحلة الأولى من الثورة السورية.
لكن الطريف في الأمر أن أحداً لم يتوقع أنه كيف سمح النظام السوري في نيسان/ابريل 2011 حيث سطوته الأمنية والعسكرية على كل أحياء حمص من القوة والسيطرة والرقابة الكلية بتمثيل بالجثث و"عرضها" ورواية أخرى تردد أنه جرى "سحلها في شوارع حمص"، كما أنه إذا كان هدف النظام وأد الثورة الطائفية كما هو هدف أي نظام سياسي شرعي يرعى إلى حقن الدماء بين المواطنين بهدف ضمان الأمن والاستقرار، كيف لم يقدم إلى اليوم أياً من مرتكبي هذا الفعل الشنيع إلى العدالة وفق محكمة علنية بهدف تحويل النظر من البعد الطائفي الجمعوي إلى المسؤولية الفردية كما هي حال كل الجرائم الجنائية في العالم، لقد كان واضحاً أن النظام – سواء أكان مسؤولاً عن هذه الحادثة أم لا – كان يهدف بشكل رئيسي وخاصة الأجهزة الأمنية والمخابرات كما يذكر خضر خضور هو "ضمان الولاء الكامل لعلويي حمص والذين ينظر لهم بوصفهم مؤسسة يتم التحكم فيها ويهيمن عليها العلويون من الساحل، على الرغم من حقيقة أن العلويين من حمص هم من المدنيين، ومعظمهم من أفراد العائلة أو الجيران الذين يعملون للجيش أو في أجهزة المخابرات وهو ما ساهم بشكل مبكر في "عسكرة" المجتمع العلوي مبكراً"، وهو ما يفسر الارتفاع الكبير في نسبة المتطوعين المبكرة لعلويي حمص وخاصة من منطقة الزهراء في ميليشيات ما يسمى "الشبيحة" التي أطلق عليها النظام "الدفاع الوطني" وهي شبيهة تماماً بما يطلق عليه paramilitary وهي قوة شبه عسكرية ذات هيكل تنظيمي ، وتكتيكات، وتدريب، وثقافة فرعية، ووظيفة (غالباً) تشبه تلك الخاصة بالجيش المحترف، ولكنها لا تُدرج كجزء من القوات المسلحة الرسمية للدولة. وإلى هذه الميليشيات بالتحديد تنسب أكثر المجازر الطائفية ترويعاً ووحشية من مثل مجزرة كرم الزيتون والحولة وكلاهما حدثتا في عام 2012 ولعبا دوراً رئيسياً في ارتكاب المجازر الطائفية في مدينة حمص.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا