يمثل هذا الكتاب مساهمة في تطوير النقاش الدائر اليوم حول العلاقة بين الوطنية والديمقراطية في البلاد العربية في الحقبة الراهنة التي تتميز بهجوم قوي من قبل القوى الاستعمارية على المواقع التي كانت القومية العربية قد اكتسبتها من قبل، سواء ما تعلق منها بتأكيد هوية قومية مشتركة وواحدة، أو بسيادة الدول العربية ووحدة أراضيها، أو باحتمالات تكوين أشكال من الاتحاد أو التفاهم والتعاون بين الدول العربية لا تخضع لإرادة القوى الكبرى ولا تدور بالضرورة في فلكها.
يحشد عزمي بشارة كل ذخيرته الفكرية والعلمية كي ما يبرهن للمثقفين المستمرين في اعتبار الديمقراطية ذات أولوية في مسار استعادة المبادرة العربية، الوطنية والاجتماعية، على أنهم لا يعرفون ما تعنيه الديمقراطية، ولا يفهمون شروط تحقيقها في الظروف العربية. وهو في سعيه لإظهار جهل خصومه وقلة معرفتهم النظرية أو حسهم التاريخيين، يوحد بينهم والنيوليبراليين الأمريكيين. بل يتجاوز ذلك، متهما إياهم بالجهل بواقع مجتمعاتهم وشروط إنتاجها وبقوانين الانتقال نحو الديمقراطية معا.
فلا تستقيم الدعوة الديمقراطية في نظر عزمي بشارة إلا في إطار أمة ناجزة. والحال إن ما يميز وضع العرب اليوم هو تعرض هذه الأمة للتفكيك والتخريب من قبل القوى الغربية. وهذا ما يستدعي الحديث عن وجود "مسألة عربية"، شبيهة بما أطلق عليه في القرن التاسع عشر اسم المسألة الشرقية. والمقصود أن الأمة العربية ما تزال "أكبر قومية معاصرة لم تحظ بحق تقرير المصير، بالتحول إلى أمة ذات سيادة، ولم تحظ بفرصة الصراع بعد ذلك للتحول إلى أمة من المواطنين". ومن هنا فإن " المسألة العربية (تعني) في ما تعنيه أن نفس العناصر التي تمنع تحقق الأمة داخل الدولة القطرية وخارجها، هي العوامل التي تعيق التحول الديمقراطي"، وبالتالي ليس هناك أجندة ديمقراطية ممكنة.
ما يأخذه بشارة إذن على خصومه الديمقراطيين العرب، وهو يخاطبهم بصراحة كخصوم، ومن دون تمييز، ليس تبنيهم للفكرة الديمقراطية، فهو يتبناها أيضا، وإنما عدم فهمهم أن الديمقراطية لا تصح من دون أمة. وهو يفترض، أولا، أن غياب هذه الأمة، بما تعنيه من سيادة ورأي عام حر ومستقل، ومواطنية، ووجود طبقة وسطى قوية، وغياب العشائرية والقبلية، لا يترك أي فرصة لنشوء حركة ديمقراطية فما بالك بتحقيق هدفها. وثانيا أن أي حديث في الديمقراطية في ظروف غياب الديمقراطيين، أي غياب قوى ديمقراطية جماهيرية، لا يمكن إلا أن يحرف الرأي العام عن المعركة الرئيسية، ويشجع على التدخلات الأجنبية أو يبررها أو يستدرجها. وهكذا بدل أن يقود العمل الديمقراطي، المعتمد على مجموعات صغيرة لا أمل لها في تحقيق أي إنجاز، إلى إصلاح أوضاع المجتمعات العربية، لا يعمل في الواقع إلا على تأخير حل المسألة القومية المصيرية.