يسمح المجرى الحالي للعلاقة الفلسطينية مع مسألة الرأي العام أن ينتهي "الموقف الاوروبي المتوازن" بقدرة قادر الى ضغط على الفلسطينيين. فالعلاقة الاوروبية الفلسطينية تسمح لأوروبا بذلك، في حين لا تسمح العلاقة الاوروبية ـ الاسرائيلية لأوروبا بإقناع اسرائيل. وهذا في الواقع ملخص الدور الأوروبي في الحوارات الاسرائيلية الفلسطينية الجارية في العواصم الاوروبية. ولا تترجم السياسات الرسمية الاوروبية الرأي العام الاوروبي المؤيد أخيراً لعدالة القضية الفلسطينية بشكل عام ويخلط التحفظ عن سياسات المواجهة الاميركية على الصعيد العالمي بإلقاء تبعة المواقف الأميركية على شر اصلي واحد او خطيئة أولى هي الدعم الاميركي المطلق لاسرائيل.
فالموقف الرسمي الاوروبي لا يقبل ان الشر الاكبر هو السياسات الاميركية تجاه اسرائيل. وهو ينتهي عادة الى الاعتذار لاسرائيل عن هذه التعبيرات التي تعتبرها الاخيرة بدورها تعبيراً اخيراً عن العداء الاوروبي للسامية. ومن يدري فقد تنتهي هذه الجلبة الى حرج رسمي اوروبي ينتهي بدوره الى اعادة فحص برامج التدريس الاوروبية، والى فتح عدد اكبر من المعارض والمتاحف المكرسة لمعاناة اليهود في اوروبا.
لقد تبين منذ فترة أن الرأي العام الأوروبي يمر بتحول نحو التعاطف مع عدالة القضية الفلسطينية. ولم نخطئ عندما اعتبرنا تنصيب علم فلسطين علماً رسمياً لحركة الاحتجاج على الحرب ضد العراق مؤشراً مهماً الى تبوء القضية الفلسطينية مكانة اخلاقية اقتصرت في الماضي على اليسار الراديكالي وبعض الاوساط الاوروبية المحافظة والمعادية لاسرائيل، لاسبابها، ولم تكن كلها معادية للسامية، وكان بينها متعاطفون مع زعامات عربية تعاطف المحافظين مع محافظين او الرومانسيين الكولونياليين مع موضوع كولونياليتهم.
يجري حالياً تحول باتجاه تبني العناصر الأكثر تقدمية وليبرالية وديموقراطية لعدالة القضية الفلسطينية وقد عكسه تحرك بلير الحثيث ابان التحضير للحرب على العراق للتمييز بينها وبين العراق مطالباً واشنطن بموقف حيال فلسطين يغطي الحرب أخلاقياً على العراق وينفس ضغط الرأي العام ضد الحرب. كانت مراضاة الرأي العام المعارض لطريق الحرب في العراق بخريطة طريق في فلسطين مؤشراً الى توجهات جديدة في الرأي العام الغربي تأخذها القيادات في الاعتبار. فقد كانت هذه القوى متعاطفة مع اسرائيل في السابق، ولا يزال جزء كبير منها متعاطفاً تاريخياً مع اسرائيل ومع الدولة اليهودية في المنطقة العربية كحل للمسألة اليهودية الاوروبية، وذلك على رغم تعاطفه المتعاظم مع مطلب تصفية احتلال الاراضي العربية المحتلة عام 1967.
بالمقابل يتبنى اليمين الاسرائيلي الذي يحكم اسرائيل بشكل متقطع منذ عقدين ونصف العقد موقفاً شديد الفظاظة تجاه اوروبا، كان المعبر الاول والابرز عنه مناحيم بيغن. وهو الشخص نفسه الذي افتتح عملية استخدام الهولوكوست بشكل شبه روتيني في السياسة بما في ذلك رفض "الوعظ الاوروبي الاخلاقي" لاسرائيل الذي انتهى الى ملاسنات حادة مع مستشار النمسا في حينه برونو كرايسكي واهانات شديدة علنية لمستشار المانيا هيلموت شميت الذي لم يجرؤ على الرد كما تجرأ زميله النمساوي. انه مناحيم بيغن نفسه الذي وصف عرفات في العام 1982 كـ"هتلر بيروت"، بما في هذه الاستخدامات الأداتية من تقليل من شأن ومقاييس جرائم هتلر والهولوكوست. في الفترة ذاتها اصبح الخطاب السياسي الاسرائيلي اكثر غيبية واستثماراً للاسطورة الدينية. وفي أي حال عادت هذه التحولات في الخطاب السياسي الاسرائيلي باعتذارات اوروبية اكثر وضوحاً ومراضاة لاسرائيل والى موجات من الاستعراضية الاعتذارية غير المألوفة اوروبياً في تخليد ذكرى ضحاياها اليهود. لقد جرَّت الاستعراضية البيغنية استعراضية اوروبية في التعامل مع الاعتذار والاعتذارية لا تعبر بالضرورة عن تنقيب معمق في النفس. ولكنها أدت ايضاً الى دفع اوروبا الى اغتراب اكبر عن الموقف الاسرائيلي والى مراكمة مرارة بل نقمة في الخفاء على هذا الابتزاز المستمر من قارة كانت تشكل حتى العام 1967 السند الاساسي لاسرائيل اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. ولم تكن عملية حزب العمل وبراغماتيته في حينه تطالبان بالاستعراض في الاعتذاراو تفرحان بإحراج اوروبا بمقدار ما كانتا تطالبان بالنقود والسلاح.
ودفع تطور سياسة اليمين الاسرائيلي في عهدي نتانياهو وشارون نحو العبثية السياسية والغيبية السياسية في قضايا يعتبرها الغرب قضية مصالح وحرب وسلم. والصدام مع مشاريع السلام الاوروبية التي توّجها اتفاق اوسلو وتلخصت عملياً باستغلال النفوذ الاوروبي للضغط على الفلسطينيين وليس على اسرائيل، دفع الى توسيع الهوة بين الموقف الاوروبي واسرائيل. كما دفع التحالف المعمق مع القوى الأكثر محافظة في اميركا باتجاه تعزيز موقع القضية الفلسطينية في أوساط القوى الديموقراطية والليبرالية في العالم اجمع بما في ذلك الولايات المتحدة ذاتها وليس في اوروبا فقط.
ويفترض ان يضعف اندفاع اسرائيل الرسمية باتجاه التحالف مع اليمين المسيحي موقعها في اوساط ديموقراطية وليبرالية ويسارية اميركية بدأت تضيق ذرعاً بدور هذا اليمين في الإدارة لأسباب متعلقة بالسياسة الخارجية والداخلية على حد سواء. ولا تزال اسرائيل تحظى بتأييد غالبية القوى الاميركية التي تتخذ مواقف اكثر ديموقراطية في القضايا الاميركية الداخلية، من التأمين الصحي وحق الإجهاض الى حرية التعبير والقلق من مكارثية المدعي العام اشكروفت ومن ظاهرة معسكر الاعتقال في غوانتانامو. ولكن النفوذ الاسرائيلي لا يزال قوياً في هذه الأوساط لأسباب عديدة منها ان الموقف من اسرائيل ليس عقلانياً بالكامل حتى في هذه الاوساط، فاللاهوت السياسي المشترك مع اسرائيل يخترق هذه الاوساط ايضاً. ولكن السبب الاكثر الحاحاً هو غياب قوى ديموقراطية عربية فلسطينية كافية وذات صدقية تستثمر جهداً ووقتاً في هذه الاوساط. وكاد العرب يخسرون التأييد الطبيعي الذي من المفترض ان يحصل عليه الفلسطينيون في اوساط الافارقة الاميركيين، وقد كانوا حلفاء موضوعياً في معركة تحالفت فيها اسرائيل مع خصم رمزي وتاريخي هو نظام الابرتهايد في جنوب افريقيا. ولكن في الوقت الذي تحالفت اسرائيل مع جنوب افريقيا تضامنت اعداد كبيرة من اليهود المتعاطفين مع اسرائيل والصهيونية مع السود ضد العنصرية في اميركا وضد نظام الابرتهايد في جنوب افريقيا ذاتها. وفي الوقت الذي التقت القضية الفلسطينية وحركة التحرر الوطني الفلسطيني مع الافارقة السود ضد نظام الابرتهايد لم يكن عدد العرب في حركة التضامن في الغرب يذكر، وفضّل العديد منهم العلاقة مع القوى المحافظة في الغرب.
هناك حالياً فسحة عالمية متسعة باستمرار وفرصة لا تعوض امام العرب والفلسطينيين لتجنيد التأييد من حلفاء عالميين مبدئيين لصالح قضية عادلة تجمع بين النضال ضد تعسف الابرتهايد وعسف الاحتلال. وتتلخص المسألة على هذا المستوى باضافة البعد الاخلاقي الغائب عن عملية التفاوض، وهو البعد المتعلق بالعدالة والإنصاف في قضية لا تزال المفاوضات بشأنها تدار بموجب موازين القوى. وتحاول اوروبا واميركا وغيرها من القوى "الراعية" لعملية التفاوض وما يدور في فلكها من حوارات إقناع الفلسطينيين ان يصبحوا أكثر واقعية، أي أكثر تفهماً لموازين القوى القائمة، بمعنى التخلي عما لا يمكن أن تقبله إسرائيل. وسرعان ما يتحول الالتزام بموازين القوى مع اسرائيل واحترامها الى مراعاة للرأي العام الاسرائيلي، وما يقبل به وما لا يقبله، الى ان نتحول جميعاً الى قراءة الاستطلاعات الاسرائيلية. وبدل بحث كيفية التأثير على الرأي العالم الاسرائيلي نبدأ جميعاً بالبحث عن طريقة لتبني مواقف يمكن تمريرها في أوساط هذا الرأي العام. لقد حال استحواذ الاستطلاعات على باراك وعادة قراءتها يومياً بينه وبين تحقيق سلام مع سورية يقوم على ما وعد به الادارة الاميركية وهو الانسحاب الكامل. وبدلاً من تغيير الرأي العام بفرض اتفاق السلام وفرض قبوله امتنع عن الوفاء بوعوده، وانتقلت اوروبا واميركا الى الضغط على سورية لأخذ الرأي العام الاسرائيلي في الاعتبار.
يؤيد 80 في المئة من الاسرائيليين بناء الجدار الفاصل بموجب غالبية استطلاعات الرأي العام الاسرائيلي. فماذا نفعل؟ هل نجد صيغة نقبل بها الجدار؟ هذا هو الفرق بين منطق التفاوض والحوار الجاري وبين منطق كسب تأييد القوى الديموقراطية الاوروبية والاميركية وغيرها في عملية نضال للضغط على سياسة حكوماتها بدل الاكتفاء بوساطة هذه الاخيرة. فالمواقف المؤيدة لبناء الجدار في اسرائيل تشمل حزب العمل، الحزب المفضل والمدلل لدى اوروبا. هنا يجب ان ينطلق العرب والفلسطينيون ذوو الشأن من الاتفاق مع قوى ديموقراطية اوروبية واميركية على موقف اخلاقي ضد الابرتهايد الاسرائيلي المتجسد بالجدار، يليه وضع خطة واقعية لنشر هذا الموقف ومحاصرة الموقف الاسرائيلي سعياً الى تغيير الرأي العام الاسرائيلي. وينطبق هذا على رفض الاحتلال والاستيطان مطلقاً وعلى الاصرار على حدود الرابع من حزيران (يونيو) في حال حل الدولتين، وعلى المواطنة المتساوية او غيرها. يجب ان تتوافر قوى ديموقراطية عربية لتكون قادرة على شرح التناقض بين الصهيونية والديموقراطية، ويجب ان تكون هنالك قوى ليبرالية غير منشغلة بالحوار لتصر على ان اسرائيل دولة غير ليبرالية. ويجب ان تكون هنالك قوى عربية معادية للعنصرية ومتعاطفة مع ضحاياها التاريخيين بمن فيهم اليهود، لكي تقنع الغرب بعدم جواز استخدام اللاسامية او المحرقة اداتين في خدمة سياسات اسرائيل الخارجية. يجب ان تبرز قوى عربية معادية فعلا للعنصرية ومتعاطفة فعلاً مع ضحايا الهولوكست لكي ترفض استخدامها اداتياً لتخويف القوى الديموقراطية من النضال ضد الممارسات الاسرائيلية. ليس هذا هو موقف من يرغب بإثارة اعجاب الصهاينة بحضاريته لاسباب شخصية سخيفة وتافهة عبر تبنٍ غير صادق وغير مخلص لقضية معاناة اليهود في الغرب، انه استخدام اداتي معكوس ومرحب به اسرائيلياً للاستفادة.
وعلى عكس الموقف المتبجح بعلاقاته مع الزعماء الاوروبيين او الاميركيين ينطلق الموقف الديموقراطي من التساؤل الصحي الآتي: لماذا عليّ ان افترض ان أي اميركي أو اوروبي متوسط لا يؤيد استقلالاً للفلسطينيين؟ او لماذا عليّ ان افترض أنه يعارض سلطة الفلسطينييين على القدس او يؤيد استيطاناً كولونياليا اسرائيلياً، او لا يرى في حق العودة حقاً انسانياً طبيعياً؟ لا يجوز لحركة تحرر وطني تسعى الى احقاق نوع من الانصاف الا ان تنطلق من هذه المنطلقات وان تعمل بموجب هذه العقلية في اوساط القوى الديموقراطية. واذا كان الامر على عكس ذلك، أي اذا لم يكن هنالك حركة تحرر بل مجموعة سياسيين واصحاب مصالح ممن يحاولون الارتباط بمجموعة سياسيين واصحاب مصالح في الغرب واسرائيل من أجل أفضل فرصة ممكنة لهم لتحقيق مصالحهم في كيان سياسي في ظل موازين القوى القائمة باستغلال معاناة الناس واستخدامها أداتياً، اذا كان الأمر كذلك فمن يجب أن يهمه هذا الأمر؟
يرى من يهمه إحقاق الانصاف والعدل ان المطلوب هو استثمار الموقف الليبرالي الديموقراطي الجديد سياسياً. ويعتقد البعض ان استثماره يتم بالحوار الاسرائيلي ـ الفلسطيني تحت المظلة الاوروبية. وهذا امر مستغرب، فنتيجة الحوار برعاية شبه رسمية هو توفير الاحراج على الاوروبيين وتنفيس حركة التضامن مع حقوق الفلسطينيين. وبدل ان يستثمر الفلسطينيون جهدهم السياسي في عمل سياسي يرافق صمود وتضحيات الشعب الفلسطيني على الأرض، يتحول أي فلسطيني يفك الحرف (مبالغة مقصودة طبعاً) الى مفاوض او ناطق افتراضي. وكأن نصف الشعب يفاوض باسم نصفه الآخر. وكما ان قيادات الاجهزة الامنية تضاف الى قائمة طويلة من الناطقين الى درجة لا يعرف فيها باسم من ينطق كل ناطق، وكما يتحول كل صحافي غربي الى ناصح للسياسيين الفلسطينيين كيف عليهم ان يديروا سياساتهم، تجري كذلك عشرات عمليات التفاوض الى جانب عملية المفاوضات مع الاسرائيليين. وكأن المفاوضات تفرخ مفاوضات. ومنطق التفاوض الجاري هو منطق أي مفاوضات ومنطق حصد النتائج لا صنعها، في حين تفتقر الساحة السياسية في الغرب لأعداد من الفلسطينيين والعرب الديموقراطيين ليساهموا في عملية تغيير واستثمار موقف الرأي العام الجاهز للتغيير بدل الاستعجال الى قبول موازين القوى كما هي وحصد النتائج في مرحلة لا يوجد فيها افق لتسوية سياسية، في مرحلة يتحول فيها كل تنازل فلسطيني الى عبث لا غاية له. عندما لا توجد مفاوضات يفترض ان تصمت لا ان تخترع مفاوضات افتراضية كل ما تقوله فيها قد يستخدم ضدك.