تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

على كوكب آخر

2004-01-22

مع هبوط عربة "سبيريت", أي مع حلول الروح على سطحه يوم 4 كانون الثاني (يناير) 2004, أمسك المريخ بتلابيب الخيال البشري وانتزعه من العراق ومن الحرب ضد الارهاب, او هكذا خيل لهم. تلا ذلك خطاب الرئيس الأميركي عن برنامجه الطموح لاستكشاف الفضاء بالتخلي عن محطة الفضاء الدولية التي حاولت عبرها الادارة الاميركية السابقة ان تدشن مرحلة جديدة من التعاون العالمي, مع روسيا تحديداً, ببرنامج تطوير للتكنولوجيا الفضائية يكون بين مهماته انعاش الاقتصاد الروسي المنهار ايضاً. انه يدعو الى إقامة محطة فضاء, ترانزيت اذا صح التعبير, في القمر يتم القفز منها الى المريخ برواد فضاء بشر, نوع من العودة الى رؤية والده قبل سقوطه بسنة, التي عبر عنها بمشروع قدر بأنه يكلف 400 بليون دولار في حينه, أرقام فضائية لا شك في ذلك. وقد اطاحت نتائج الانتخابات الرئاسية في حينه بتلك الرؤية. وهدف الابن ايضا هو العودة الى برامج تشمل بشراً فضائيين بدل الآلة الذكية, وعلى المريخ ذاته حتى العام 2015.

 

تصدت لوكهيد فوراً للتحدي في اعلانات وطنية على صفحات كاملة في الصحف: نحن جاهزون للمهمة. ولا يشك أحد بجاهزيتهم فهم الرابح الاساسي ثم انهم لن يطوروا تكنولوجيا الفضاء بأموالهم.

 

بالطبع تبادرت الفكرة فوراً الى بال كل سريع خاطر: حسناً, وليكن جورج بوش الابن اول رائد فضاء الى المريخ فوراً, لا داعي للإنتظار حتى عام 2015. وقامت القيامة ولم تقعد لأن الموضوع انتخابي, وكل موضوع في عام الانتخابات هو موضوع انتخابي. حتى المريخ هو في الواقع موضوع أرضي.

 

ألهب الخيال هبوط عربات على المريخ يتم التحكم فيها وبحركتها من الأرض. ماذا لو وجدوا ماء؟ وماذا لو عثروا على آثار حياة؟ هل يعني هذا أن المريخ الحالي هو مستقبل الأرض؟ وماذا تعني كلمة المستقبل في مثل هذه الحالة؟ التقديرات حتى الآن تقول انه كان هنالك ماء, وفني الماء نفسه. المستقبل من هذا المنظور هو حياة سابقة, حياة كانت على كوكب منطفئ. المستقبل هو كوكب منطفئ تهب فيه بشكل موسمي عواصف رملية ترابية لا يهم أحداً توقيتها لان لا أحد هناك سواها, كوكب بارد محاط بهيولي أحمر. يا لها من فكرة عقيمة.

 

وما أن زال الحماس لواقعة فحص أسنان صدام حسين, وعاد روتين الاحتلال بثمنه المرتفع واسئلته الصعبة, حتى سنحت فرصة اشغال وطنية الرأي العام باجتياح المريخ. ولكن لا بد ان يرى المرء في ظرفنا ما يثير التشاؤم. اذا لم تكن حياة على المريخ فما الفائدة من استكشافه ولو كان مصنوعاً من ذهب؟ واذا كانت حياة هذه نهايتها بانطفاء كوكب يبعد عن الشمس اكثر منا فلا بد ان "يلحقنا" الدور مع انخفاض حرارة الشمس على رغم قربنا منها وعلى رغم ارتفاع درجة الحرارة الموقت من حضارة ثقب الأوزون. أو ربما كان هذا هو الفرق بين حضارتنا والحضارة السالفة على المريخ اذا كانت, اننا ثقبنا الاوزون وهم لم يثقبوه. سيموت كوكبنا من الحر لاننا كثيرو النشاط والحركة والصناعة والحروب, في حين ماتت تلك الحياة الهادئة من البرد.

 

ولا شك انه الى جانب كونية العلم والاكتشاف العلمي, والى جانب كونية التكنولوجيا وعملية تطوير قوى الانتاج الجارية من خلال صناعة الفضاء يأتي دور الوطنية والكبرياء القومي والشعور بالعظمة, ليس فقط عظمة الانسان الموهومة في السيطرة على الطبيعة وتسخيرها. وانما أيضا عظمة الأمة بين الأمم. وتكاد تنطلي اللعبة على السامع المشاهد ان هذا الرجل الأحمق بالعينين الزجاجيتين المرعوبتين دوماً لسبب ما قد احتل المريخ مجسداً العظمة الأميركية في طريقه إلى المنظومة الشمسية كلها, كأنه يعلن نهاية العمليات العسكرية في العراق من على حاملة طائرات.

 

ولا يجد علماء الفضاء تفسيراً آخر لإنزال إنسان أميركي على القمر خطط له جون كنيدي إبان الحرب الباردة وأنجز بعد عهده, ولم يتكرر, إلا ضرورات المنافسة الايديولوجية والثقافية مع الاتحاد السوفياتي على النظام الأكثر تقدماً وتطوراً. في حين يتفق الجميع على الفائدة الهائلة للصناعات المدنية والعسكرية أي للتكنولوجيا عموما, المتمثلة بصناعة وبرمجة الروبوت الصغير والروفر الصغير الذي يقوم بمهمات البحث والتنقيب على سطح القمر والمريخ, وكل ذلك في عملية تحكم عن بعد. كلّف بناء عربة الـروفر التي تقوم بعملية جمع العينات وفحصها على سطح المريخ بحثاً عن آثار حياة سابقة ومتحجرات مبلغ 800 مليون دولار في عشر سنوات. وكما هو متوقع يطرح السؤال الذي يطرح منذ بدء مشاريع استكشاف الفضاء حول الفائدة المرجوة من وراء ذلك, وضرورة استثمار المبلغ في استكشاف المحيطات او في محاربة الفقر والجوع وبرامج الصحة والتغذية على الأرض.

 

لقد خصص بوش في خطابه 12 بليون دولار أخرى لوكالة الفضاء "ناسا" للسنوات الخمس المقبلة. ولكن لا حاجة للحماسة الزائدة في السخرية من هذه السياسة على حساب المحتاجين للعلاج الطبي وللتعليم, خصوصاً أننا نعرف أن الجيش الأميركي يكلف بليون دولار يومياً في كوكب العراق, وأنه صرف أكثر من 100 بليون دولار هناك حتى الآن. وتقسيم الثروة في عالم أفضل لا يبدأ بالفضاء. فالأسهل هو البدء بنقد السياسات الأميركية على سطح الارض ومنها يجب أن يتشعب نقد سياسات الفضاء وموزانات الفضاء. من دون ذلك لا يحق لنا ان نسأل السؤال عن الخطوات الصغيرة الضئيلة في هذا الكون اللامتناهي. نقد الفضاء يبدأ بنقد الارض.

 

وفي غياب التنافس مع الاتحاد السوفياتي هنالك من يحاول ان يقلل من أهمية الهبوط بانسان على سطح المريخ واعادته سالما الى محطة في القمر أخذاً في الاعتبار الخطر الكامن فيه تقابله الفائدة التكنولوجية المرجوة من تطوير الآلة وتوجيهها من بُعد و غياب المجازفة في هذه الحالة. ثم ما معنى وجود محطة فضائية على القمر وما الفائدة من ذلك؟ ولا شك ان هنالك حججاً وجيهة تسند هذا الرأي وضده بلغة ثقافة "ناسا" الصغيرة.

 

يقال ان الفهم هو الملكة التي تميز بين الممكن وغير الممكن, في حين أن العقل يميز بين ما له معنى وما لا معنى له. وهذا يمكننا بالطبع من تصور الممكن الذي لا معنى له. وهبوط الانسان على المريخ هو الممكن الحصول نتيجة لتطور العلوم والذي لا معنى له.

 

من الأجواء الحربجية في العراق , يبدو نقل الكبرياء الوطنية الأميركية الى المريخ ملائماً. والمفارقة طبعاً بحكم تعريفها لا تدل على رابط منطقي. ولكن عقولنا التي تسيِّرها التداعيات أحياناً في مرحلة تتداعى فيها قلوبنا لم نستطع إلا ان نذكر ان المريخ (مارس) هو الكوكب الأحمر. وباللاتينية جعله الرومان إله الحرب, لأنه أحمر غاضب او يذكر بالدم القاني. ولكن البابليين سبقوهم الى ذلك بألف عام عندما سموا نفس الكوكب "نيرغال" على اسم إله الموت والفناء. وقبل الرومان وبعد البابليين أسماه اليونانيون (آريس) على اسم إله الحرب عندهم. ومن نفس المنطلق أيضاً لا يزال الفلكيون يسمون القمرين الصغيرين المحيطين بالمريخ ديموس (ارهاب) وفوبوس (الخوف) على إسم الفرسين اللذين يجران عربة آريس إله الحرب. خيول اله الحرب هي الخوف والرعب والارهاب. ولا يزالان يجران عربة اله الحروب حتى يومنا هذا. ولكنه في عصرنا فقط يبدو كأنه يحارب خيوله.

 

نحن لم نؤلف هذا الكلام المتداعي من يوم الرابع من كانون الثاني الجاري ومن خطاب الرئيس الاميركي, ولم نخترعه, ولا نرى وجوب علاقة منطقية بين التداعيات والداعي اليها, ولكنها تداعيات نفوس يعصرها الالم وهي تشهد ما يجري على الكواكب الأخرى في عالمنا ذاته. ولسنا ضد العلم لا سمح الله ولا شك اننا نشارك علماء "ناسا" صيحات الـ"آه" والـ"واو" الطبيعية التي تذكر باندهاش الانسان من انتصاب طفله للمشي اول خطوة والتي انطلقت عندما تحركت العربة بأمر من الارض, وعندما ارسلت الصور الارجوانية الاولى من عالم مسحور بخيال البشر منذ قرون. فمن قرأ "غوليفر" لجوناثان سويفت من العام 1726 انشغلت طفولته بالحياة على المريخ وبملك المريخ ذاته, ومن قرأ قصة هربرت ويلز عن "حرب العوالم" اشغلته جيوش المريخيين. لا شك ان هنالك "واو" طفولية انسانية بالهبوط على المريخ الذي استحوذت امكانية الحياة فيه على عقول الناس منذ قرون في الأدب والثقافة الشعبية, مرة لأنه خيل للتلسكوبات الاولى انها رأت وجه انسان عليه, وطوراً لأن عالماً ايطالياً رأى عليه خطوطا تشبه القنوات عام 1877, في مرحلة ربط فيها الناس كلمة قناة بقناة السويس أي بالماء. لا شك ان من عناصر الحملات العلمية على المريخ دوافع عقائدية شعبية واسطورية لا علاقة لها بالعلم تجعل الحملة شعبية ايضا. وكل عالم كان طفلا في يوم من الايام.

 

لكن لعبارة "صور من كوكب آخر" وقع آخر يثير صدى آخر في النفس. ولما يبارح ذاكرتي هذا الاستخدام الآخر لكلمة كوكب. أذكر من "يوميات محاكمة ايخمان" يوم صعد الكاتب يحيئيل دينور (الملقب كاتسيتنيك) يقدم شهادته ضد المجرم النازي. بدأ شهادته عن الحياة في معسكرات الاعتقال بالجملة التالية: "كنت هناك مدة سنتين. الزمن هناك ليس كالزمن على سطح الارض. كل لحظة هناك تتحرك بسرعتها الخاصة. ليس للناس على ذلك الكوكب اسماء. ولم يلبسوا كما نلبس نحن هنا. لم يولدوا هناك ولا انجبوا اطفالا. لقد تنفسوا بموجب قوانين طبيعية أخرى. وأنا اؤمن من كل قلبي بأنه كما في التنجيم, تؤثر النجوم على مصائرنا. وهكذا كوكب الرماد المدعو اوشفيتس, انه يقف فوق هذه الأرض ويؤثر عليها".

 

عندما هبطت مركبة "سبيريت" (الروح) على المريخ كنا نراقب ما يجري في قطاع غزة, وهو ليس اوشفيتس, ولا يمكن مقارنته باوشفيتس, ولكنها تداعيات حشد وحشر اكثر من مليون ونصف المليون انسان وراء جدران وأسلاك شائكة, ومن تقييد حركتهم تبدأ ديناميكية معسكر الاعتقال والكوكب الآخر هنا في عالمنا. الكوكب الآخر معنا على الأرض.

 

وردت الاشارات الاولى من المركبة "سبيريت" يوم 14 كانون الثاني وفي ذلك اليوم وردت اشارة أخرى من كوكب آخر: ام لطفلين تفجر نفسها بالجنود على حاجز ايرز. وبعد ذلك بيوم: ثلاثة عشر ألف رجل يتزاحمون في برد الفجر وراء بوابة للدخول الى ارض الميعاد للعمل, للعمل. لم يتزاحموا على بوابة ديسكوتيك او "هارد روك كافيه" بل للعمل. والعمل ليس هواية, بل ضرورة. كيف يفهم ذلك آلاف البشر الذين لا يعملون ويعيشون برفاهية وكسل؟ كيف يفهمون تدافع الآلاف حتى الاختناق او الدوس امام الحاجز العسكري منذ الفجر ليمر أكثر بقليل من ألف منهم للعمل. للعمل, يعني لقوت اليوم للأبناء. انه كوكب آخر.

 

بموجب الحيرة الفلسفية العادية لا يكمن امتحان التقدم والتفوق والتنور في التحكم بعربة على المريخ بل في التحكم بـاسرائيل في الكوكب الآخر هنا على الأرض في غزة حيث عدد لا حد له من الأكوان الصغيرة "مايكروكوزموس" كل واحد منها يشمل امكانية الحب والجمال والخير ولكنه يعكس حالة ما لا نهاية من التعاسة.

 

يصعب علي الغضب من استكشاف المريخ, كما يصعب علي اتخاذ موقف منه. وكما تجاوزنا مرحلة "غوليفر" الطفولية تجاوزنا أيضا فترة الغضب المشوب بالحسد من أن أميركا وصلت الى القمر قبل الاتحاد السوفياتي. ومن الصعب جداً تجاهل الفوائد العلمية والتكنولوجية الكامنة ليس في اكتشاف المريخ نفسه, وإنما في عملية البحث والتطوير التي تتم في الطريق اليه. ولكن عندما يقال لنا انه لا يمكن في حسابات تجاهل هذه الدولة التي تسيطر على آلة وتسيرها على المريخ, لا نستطيع ان نمنع انفسنا من التفكير: قولوا ذلك لملايين لا سقف فوق رؤوسهم في اميركا ذاتها, ولملايين المحرومين من علاج طبي لعدم تمكن هذه الدولة من اقامة نظام تأمين صحي لتقليص نفس نفقات قطاع الدولة الذي يصرف على الفضاء بسخاء, وأقنعوا اهل غزة كيف تبرر هذه الدولة القادرة على التحكم بآلة على المريخ عدم تحكمها بآلة القمع الاسرائيلية على الكوكب الآخر المسمى فلسطين! ليس نكداً ولا تنكيداً في لا يكمن امتحان التقدم والتفوق والتنور أجواء الغبطة والاغتباط, ولكننا لا نستطيع ان نحلق من هذا الواقع في غمرة الحماس بالاكتشاف العالمي من دون التفكير بما يجري في كواكب أخرى على عالمنا.