تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

في الكذب والسياسة

2004-02-05

لا طائل من وراء البحث عن علاقة بين طبيعة نظام الحكم السياسي الحديث ومدى إستخدامه, أو حاجته الى إستخدام الأكاذيب لتبرير سياساته. فالأكاذيب تبرر نهايةً بعد نزع "الرتوش" الأيديولوجية بالواقعية السياسية. والواقعية السياسية قائمة في معظم أنظمة الحكم. وليس أسهل من تخيل سياسيين ميكافيلليي التوجه في إطار نظام حكم ديموقراطي ليبرالي, وأسهل من ذلك تخيل نظام حكم سلطوي ميكافيللي في تعامله مع تبريرات سياسته.

 

ومن أضغاث أحلام التمني الإعتقاد بأن الديموقراطية الليبرالية متطابقة مع الشفافية وحق الوصول الى المعلومات بحرية, وأنها تعني المساءلة والمحاسبة. ومن المفترض أن هذين المركبين يتطلبان حق الناس بمعرفة الحقيقة عن أهداف ودوافع ونيات, وبالتأكيد عن أفعال السلطة الحاكمة. فهذه كلها قيم مرغوبة في الديموقراطية. وهذا هو الفرق بينها وبين أنماط الأنظمة الأخرى. ولكنها مسألة صراع مستمر, وقد تطبق الشفافية والمساءلة والمحاسبة بعد فوات الأوان, أي بعد ان تستخدم الواقعية السياسية الكذب والتزوير من أجل تجنيد غالبية الناس لتأييد خطوة سياسية ما كانوا ليؤيدوها لو عرفوا الحقائق التي حجبت عنهم.

 

وتميل المنافسة الديموقراطية وكذلك المشهدية الاعلامية ذات الشأن في الديموقراطيات الى تشجيع الكذب والتزييف وليّ الحقائق بشكل خطير خصوصاً عندما يتعلق الامر بالمس بالخصوم السياسيين او عندما يتعلق الأمر بانجازات تعرض على الجمهور. ولكن هذه البذاءة البنيوية في السياسة باتت بديهية تجعل السياسة في ذهن المواطن المتوسط أمراً قذراً.

 

مقالنا يتناول كذباً آخر منطلقاً من "الهدف النبيل" الذي تعرفه النخبة الحاكمة أو أصحاب المصالح الذين يقفون وراءها او اجهزتها الأمنية, ولكن عقل الجماهير يقصر عن استيعابه في نظرها وبالتالي يتم بيع الجماهير أهدافاً أخرى. وكان حتى نيتشه ذاته, وليس ميكافيللي وحده, سيوافق على هذا النوع من الديموقراطية وعلى هذا الأسلوب في "معالجة" الغالبية "الفظة والـرعناء" من الناس "العاطفيين او اللاعقلانيين او الغريزيين او ذوي اخلاق العبيد" أو... أو... أو غيرها من المصطلحات التي استخدمها محبذو حكم الحكماء, او حكم النخبة, او الاستبداد المتنور. وفي العصر الحديث تحتاج الديكتاتورية ويحتاج حكم الطغيان الى ايديولوجية تبريرية, خصوصاً بعدما فقدت الدولة الشرعية الالهية والحق الالهي. والايديولوجية التبريرية تعني في ما تعنيه تغليف الحكم وسلوكه وأهدافه ودوافعه بالشروح والتفسيرات والأكاذيب التي تجعله منسجماً مع هذه الأيديولوجية.

 

لكن الواقعية السياسية قد تتطلب من الديكتاتور قول الحقيقة. وفي أي حال غالباً ما تكون أكاذيب الديكتاتورية للإستهلاك الداخلي والحقيقة للخارج, خاصةً في تأسيس العلاقة مع دول قوية او خصوم أقوياء. وقد يعود حكم الطغيان الى الكذب نحو الداخل في شرحه أو تبريره لتصريحات او خطوات تمت في سياق العلاقة مع دول أجنبية صديقة أو عدوة. وبالمجمل فإن الصدق مع الآخرين والكذب مع الذات هي المعادلة الأقوى بين الصدق والكذب في الديكتاتوريات. الكذب نحو الداخل يتم لتبرير الصدق نحو الخارج ايديولوجيا, خصوصاً اذا كان في إمكان الشعب ان يفسر الخطوات نحو الخارج كواقعية مبالغ فيها او كتعبير عن ضعف النظام. هنا تجند لتبريرها الديماغوجيا الموجهة نحو الداخل. اما في الدعاية الفظة والمفضوحة فيتم بث الكذب نحو الخارج الديموقراطي حول احوال الداخل. والعكس صحيح ايضاً, أي تسهل في الغرب الديموقراطي بث الدعاية السلبية والمبالغة عن فظاعة الاوضاع الداخلية في الدول غير الديموقراطية, فهنالك نزعة لتصديق كل ما يقال عنها, وأي تدقيق قد يفسر كدفاع عن الديكتاتورية.

 

لقد صمم أصحاب القرار في النظام الحاكم في الولايات المتحدة على شن الحرب على العراق. واعتُبر التخلص من نظام الحكم هناك بداية ضرورية لتغيير السياسات الأميركية في الشرق الأوسط ولتغيير العالم العربي بشكل عام, بحيث تتحالف سياسات الولايات المتحدة الخارجية للمرة الاولى مع النزعة الديموقراطية المعادية للديكتاتوريات في العالم العربي. ورغبت عناصر أخرى في نظام الحكم المسمى "الادارة الاميركية" بـ"انهاء المهمة" التي انقطعت في عهد ادارة بوش الأب في حرب الخليج الثانية. وأرادت عناصر أخرى رداً أميركياً حازماً على أحداث 11 أيلول يكرس هيبة الامبراطورية الاميركية وهيمنتها. وقد اقنعت التيارات الثلاثة في الادارة الاميركية بعضها بعضاً. ونحن نعلم اليوم علم اليقين ان اعتبارات هذه التيارات لشن الحرب على العراق لم ترتبط لا بأسلحة الدمار الشامل العراقية ولا قدرة العراق على انتاجها, ولا بالخطر المحدق بالولايات المتحدة الذي يمثله العراق, ولا بالعلاقات المفترضة بين النظام العراقي وتنظيم القاعدة. هذه هي المحاور الثلاثة للأكاذيب الأميركية والبريطانية حول دواعي شن الحرب على العراق. وهي اكاذيب المستوى السياسي التي يحاول اليوم تلبيسها للمستوى المخابراتي ان كان ذلك في الـ "إم آي فايف", أو كان في الـ "سي آي اي".

 

لقد اقنعت التيارات المختلفة في الادارة الأميركية بعضها بعضاً, لكنها ادركت ان حقائقها النبيلة هذه لم تكن مقنعة للجمهور. وحده المهووس بكره أميركا يستطيع ان يوثق او يتابع نشرات آلاف الأكاذيب في المقالات والتصريحات والـمعالجات والكتب, او أن يتابع تعاون وتواطؤ التيار الرئيسي في شركات الاعلام الكبرى والصحافة بشكل عام مع الكذب والتخلي عن وظيفة التحقيق والتحقق الصحافية. ولكن لا بأس في تعداد الأكاذيب الرئيسية التي سبقت احتلال العراق في خطابات المسؤولين الأميركيين: 1) خطاب الرئيس بوش في 5 أكتوبر 2002 في سينسيناتي . هنا عممت او روجت كذبة انابيب الالومنيوم, تحت عنوان "الدلائل تشير الى ان العراق يعيد انشاء قوته النووية". وهذه فرية قام "مكتب الخطط الخاصة" OSP (وهذه وحدة استخبارية في البنتاغون أسسها رامسفيلد من اجل معلومات استخباراتية "أكثر وثوقاً" بعد 11 ايلول وادارها المحافظون الجدد, لتكون "أكثر وثوقاً" من وكالة المخابرات المركزية (CIA) بتسريبها الى "نيويورك تايمز" في أيلول 2002. وهكذا, بعد نشرها في النيويورك تايمز, أصبح بإمكان الرئيس الأميركي, ومن بعده السيدة رايس الاعتماد عليها. في حين أكد الخبراء كافة ان هذه الأنابيب لا تصلح اطلاقاً للأهداف التي نسبت لها. من الأهمية بمكان في هذا السياق ملاحظة دور "مكتب الخطط الخاصة" التابع للبنتاغون ذي العلاقات الجيدة مع المؤتمر الوطني العراقي وبعض اطراف المعارضة العراقية. ولا يقل عن ذلك أهمية ملاحظة محاولة الادارة الاميركية رمي المسؤولية على وكالة المخابرات المركزية ذات العلاقة السيئة مع بعض اطراف المعارضو العراقية. فقد قوّمت الأخيرة, وهي من موروثات الادارة السابقة, المعلومات التي ادلت بها المعارضة العراقية بأنها معلومات تافهة لا قيمة لها. وما وصفناه وتوسعنا به في الكذبة الأولى يشكل نمطاً لكافة الأكاذيب الأخرى مثل: 2) خطاب بوش يوم 28 كانون الثاني عن حال الأمة, والذي أدلى فيه بمعلومات مصدرها الحكومة البريطانية ان العراق اقتنى كميات من اليورانيوم في افريقيا. والمقصود هو النيجر. ومصدر المعلومات محتال باعها للمخابرات الايطالية وقيمتها المخابرات الاميركية كتزييف. ولكن كذبة انابيب الالومنيوم لم تكن كافية, فاستحضرت هذه . 3) يوم 16 آذار قال نائب الرئيس تشيني في برنامج "واجه الصحافة بشكل واضح": "اننا نعتقد بأن صدام حسين اعاد في الواقع انتاج اسلحة نووية". وقد كان على علم بأن العراق ليس فقط لا يملك اسلحة نووية بل أنه ليست لديه القدرة على انتاجها. 4) أكتوبر 2002, عمم تصريح عن جورج تينيت, مدير وكالة المخابرات المركزية يتضمن معلومات لدى المخابرات المركزية حول اتصالات على مستوى عالٍ بين العراق والقاعدة. ويتضح اليوم ان التقارير التي كانت في حوزتهم معكوسة والجديد فيها هو انقطاع علاقات او اتصالات تمت في بداية التسعينات. 5) رامسفيلد فاق الجميع في حماسه عندما قال في 30 آذار 2003 ليس فقط ان العراق يملك اسلحة دمار شامل بل ان الولايات المتحدة تعرف موقعها "شرق غرب وجنوب بغداد وتكريت, والى الشمال أيضاً"؟ لا شك ان هذا تحديد دقيق للموقع, ولذلك ايضاً عثر عليها الأميركان بسهولة فيما بعد! 6) يوم 1 حزيران 2003, يقول بوش في بولندا "نعم وجدنا مختبرات لإنتاج الاسلحة البيولوجية", وكان المقصود شاحنتين معدلتين, ادعى العراقيون انهما عدلتا لتعبئة بالونات فحص الأحوال الجوية, وبعد فحص خبراء أميركيين وبريطانيين تبين ان العراقيين صدقوا.

 

كان هتلر يقول انه "كلما كانت الكذبة أكبر كلما ازداد ميل الجماهير لتصديقها". وليس تراجع ولفوفيتز المبكر بعد الحرب عن تبريرها بنزع اسلحة الدمار الشامل بموجب قرارت الشرعية الدولية إلا ادراكاً مبكراً لحتمية انكشاف الأكاذيب, وبضرورة تجهيز خط الرجعة مبكراً ومن دون تراجع يبدو كأنه يتم تحت ضغط الرأي العام او لجان التحقيق. فديفيد كاي وقبله سكوت ريتر, وبينهما بليكس والبرادعي هم فقط البداية, لقد صرفوا الملايين في التفتيش وعادوا يؤكدون حقيقة اقوال النظام العراقي.

 

منذ فترة يتم النشر بتوسع عن علاقة المحافظين الجدد بمفكر سياسي يهودي ألماني محافظ هو ليو شتراوس (1899 - 1973) الذي درّس عقوداً طويلة في جامعة شيكاغو, وبعضهم من تلاميذه. ويمكن, في رأيي, ايجاد علاقة بين المحافظين الجدد انفسهم وأفكار كارل شميت. واخيراً يبذل نقاد المحافظين الجدد محاولة حتى لفحص تساوق فكر ليو شتراوس مع تبرير الكذب. ولا اعتقد ان هنالك حاجة لليو شتراوس الى هذا الغرض. ولا شك ان هذا المفكر السياسي يبرر الواقعية السياسية التي تبرر الكذب. ولكنه ليس المفكر السياسي الوحيد الذي يبررها. فالفكرة برمتها تعود الى النخبوية في فكر شتراوس وضرورة ان تحافظ النخبة السياسية من "الحكماء", الحاكمين فعلاً, على النظام ضد احتمالات اختراق الديموقراطية بواسطة أعدائها, وهو تعميم لتجربة فايمار, واستفادة من مغزى ضعف هذه التجربة وانهيارها امام الحركات الفاشية وانظمة الطغيان. ولا شك ان من الممتع قراءة مقالة "ليو شتراوس وعالم المخابرات" بقلم غاري شميت Gary Shmitt وابرام شولسكي Abram Shulsky, فالأخير كان طالباً عند شتراوس في ستينات شيكاغو. وحين كتبت المقالة كان شميت مرتبطاً بإحدى مؤسسات المحافظين الجدد "مشروع قرن أميركي جديد"PNAC في حين جاء شولسكي من مؤسسة راند, والأهم أن الاول عين مديراً لمكتب الخطط الخاصة في البنتاغون (OSP)! الممتع في المقالة انها تؤسس علاقة مباشرة بين فكر شتراوس المحافظ وغير الليبرالي وبين نظرية المخابرات كما يفهمها المحافظون الجدد, و - الأهم من ذلك - كما طبقوها.

 

انهم يناقشون اسلوب جمع المعلومات الذي كان سائداً في المخابرات الأميركية كأنه عملية بحث وتنقيب اجتماعي عن مجتمعات يفترض أنها محكومة بالقوانين الاجتماعية نفسها والعقلية نفسها التي تحكم المجتمع الأميركي, وبالتالي لا يمكنها تجنب الاخطاء المميتة عند الاستنتاج. لأن طبيعة النظام برايهم هي الاساس في سلوكه, وليس طبيعة البشر الذين يديرونه, فطبيعة البشر كونية وهم على كل حال لم يخلقوا احرار أو متساوين, وبالتالي طبيعتهم لا تفسر شيئاً. ونظام الطغيان يقوم برأيهم على الخداع والكذب, ويجب عدم تصديقه. وبهذا المعنى فإن المحافظين الجدد رفضوا ان يخدعوا بغياب أدلة مادية على وجود اسلحة دمار شامل في العراق, ورضوا ان "تضللهم الحقائق والوقائع", أو أن تنطلي عليهم انكار النظام وجود اسلحة. فالمبدأ هو عدم تصديقه. ويبدو أنه من أجل اثبات كذب النظام العراقي اضطروا هم للكذب, وهكذا بدأوا حلقة مفرغة من الأكاذيب لا نهاية لها. لكن هذه تبريرات ايديولوجية قد تكون مقنعة في اطار الحوار الداخلي في اوساط المحافظين الجدد وذلك بالعودة الى نصوص معروفة في اوساطهم مثل نصوص شتراوس او غيره. انها تفهم بين تلامذته كما قد تقنع تبريرات الحرب بين اتباع الايديولوجيات الاخرى الذين يفهمون لغة ورموز إيماءات اخرى او "جورو" آخر بالاقتباس وغيره لتبرير الكذب. هل تسود "اوروبا القديمة" الايديولوجية في البيت الابيض حالياً؟ سؤال جيد. ولم يحتج نيكسون الى هذه المصادر, وكذلك كلينتون لم يكن بحاجة لها ليكذب. وليس النقاش مع المحافظين الجدد حول الكذب او حول استعدادهم للكذب من أجل الهدف "النبيل" الذي يعتقدون انه فوق طاقة الجماهير على الاستيعاب. النقاش الحقيقي هو حول الهدف ذاته.

 

صحيح ان من واجب الديموقراطيين في كل نظام ديموقراطي ان يقفوا بالمرصاد لفضح الخداع والغش الذي يقوم به النظام لتبرير خطواته السياسية, وذلك لأن هذا السلوك يتناقض مع التصور الديموقراطي للديموقراطية (اذا صح التعبير). وبموجبه يشكل المواطن رأيه حول القرار السياسي بموجب معلومات صحيحة تصل اليه من اصحاب القرار. وبدون ذلك تفرغ الديموقراطية من مضمونها ويصبح التضليل اداة ديكتاتورية في الواقع. وقد يؤدي فضح الكذب والمثابرة على فضحه كواجب ديموقراطي في مراحل معينة الى اسقاط نظام وانتخاب آخر. مصيبة شعوب العالم مع المحافظين الجدد هو هدفهم وليس ما يبرره من أكاذيب ما هي إلا أدوات لتكريس السيطرة الامبراطورية. الهدف هو ليس فقط تأمين نظام الحكم في أمريكا, بل تجنيد الرأي العام الأميركي خلف حرب دائمة لتأمين الهيمنة الأميركية على العالم كله على اساس الافتراض التبسيطي أن في الامكان فرض النظام الاميركي نفسه في العالم أجمع, وهذه ايديولوجية تيسيطية لا علاقة لها بليو شتراوس ولا بكارل شميت.

 

وما هو مجرد كذب في أميركا يتحول الى قصف على رؤوس اناس خارجها وحرب لا تنتهي وملحمة مستمرة اسمها "باكس اميركانا". ولا تتعلق المسألة بسر السياسة كما تبدو لكتاب اذكياء مثل كريستوفر هتشنز الذين ينتقلون من اليسار الى اليمين مع انتقال مركز ثقل الانتلجنسيا من اليسار الى اليمين ومع التحول نحو سياسات الهوية في العالم الثالث ومع اندثار اللغة الكونية المشتركة مع القوى الديموقراطية في الغرب. ويعتقد هتشنز ان احتفاظ "الحكماء" بالسر ومعرفتهم بهدف الحرب الحقيقي الذي لا يمكن قوله إلا عبر معالجات وتعديلات ومناورات وحبك القصة هو ما يجعل اللعبة جذابة للأذكياء من امثال ولفوفيتز. والحقيقة ان هذا أيضاً ما يجعل كتابة كريستوفر هتشنز جذابة, ولكن ليس في الأمر أكثر من ذلك. انها أيضاً استهلاك فضائح واسرار, ولكنها استهلاك راقي للنخبة.

 

لا تدار السياسة بهذا الشكل. والـحالمون من السياسيين, ومحتكرو الحقائق الجاهزة من امثال المحافظين الجدد, يستخدمون المناورة السياسية والتضليل للهدف الذي يعتقدون انه نبيل. ويعتبرون هذا الكذب النبيل لصالح الأمة. وخلال هذه العملية يفرغون الديموقراطية تدريجاً من مضمونها لأنهم يفرغونها من شكلها ويصادرون نظام الحكم عملياً ويضعونه في ايدي قلة قليلة تتحول تدريجاً الى جماعة متآمري محاطين بأجهزة أمنية واعلامية تعمل وفق اجندتهم. ويضيف بوش وبلير الى هذا الطبخ الايديولوجي نكهة انتهازية قوية تميز سياسيين صغاراً عندما يتهمون اجهزة المخابرات ذاتها بتضليلهم. لقد كانوا ضحايا عملية تضليل. وقاحة اعلامية لا تصدق.

 

التطور غير العادي الذي استثمر لصالح هؤلاء هو, فقط, انضمام عدد كبير من الليبراليين في الولايات المتحدة, بعد 11 أيلول, الى الاستعداد للتسامح مع الكذب والسكوت عنه, رغم معرفتهم بأنه كذب, وذلك خدمة للمصلحة الوطنية كما وضعها النظام. اضافة الى ذلك, زادت في مرحلة الحرب على العراق قدرة الديموقراطية على احتمال الكذب. ثم عادت هذه القدرة فانخفضت بعدما تبين ان الحرب على العراق قد تطول, وان عدد الضحايا قد يزداد. وكلما ازداد عدد الضحايا ستقل قدرة المجتمع ولجان التحقيق التي يفرزها على تحمل الكذب وستزداد العقوبة عليه صرامة. ولكن اذا كان ثمن الحرب منخفضاً, وحققت نجاحاً سهلاً, فإن عقوبة الكذب الذي استعين به لإقناع الناس بضرورة الحرب ستكون أقل بكثير