تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

استحضار الكاريزما

2004-03-11

استثمرت سياسات الهوية جهدا سياسيا هائلا في هوية جماعية ثقافية او أقوامية (إثنية) أو قائمة على أصل مشترك لمجموعات سكانية يجمعها شعور بالغبن في اسرائيل. وقد فعلت ذلك لغرض الحراك السياسي كطريق للحراك الاجتماعي الاقتصادي والتقدم على السلم الطبقي. وقد أوصلت سياسات الهوية مستخدميها الى تجنيد واستنفار فئات من الناس خلف أحزاب تتحدث باسم هوية الجماعات ذات الشأن, وتعيد تصميمها وإنتاجها وتحديد حدودها مع الهويات الاخرى, بما يتلاءم مع دورها الجديد كرأسمال رمزي. في هذه الفترة التاريخية الممتدة طيلة العقدين الأخيرين من القرن الماضي برزت في اسرائيل شخصيات دينية عدة تمثل او تجسد الهوية التقليدية الشرقية. وغالبا ما وجدت هذه الشخصيات جمهورها في احتفالات حول المزارات وشراء التعويذات والأحجبة وغيرها كأمكنة لإنتاج الهوية, وغالباً ما كان في محورها رجل دين تقي حي يكمل طريق أولياء الله الصالحين من نوع الراب أبو حصيرة ونسله كقيمين على مزاره وغيرهم.

 

وقد تدخلت وسائل الاعلام الحديثة الباحثة عن مشهد وأسطورة وغيب ومجهول, وعن مغامرة إنتروبولوجية "ناشيونال جيوغرافية" بعشرة قروش لفيلم انطباعي يختتم "الماغازين" الإخباري التلفزيوني الاسبوعي فساهمت في انتاج هذه الرموز وتسويقها, وتسويق إيمان الناس بها كصورة للايمان الشعبي يقلدها الناس دون أن يدرون لكي يتحولوا الى جزء من هذا "الشعبي". وما ان تتحول الشخصية الى شخصية "كاريزماتية بطريقتها" (كما يحب الصحافيون أن يصفوا انعدام الكاريزما) حتى يبدأ السياسيون بالبحث عن صورة فوتوغرافية او تلفزيونية الى جانبها. وكم يبدو السياسي سخيفاً في هذه الحالة, حتى في نظر ذاته؟ وقد يلعن الساعة التي بدأ فيها سياسي غيره هذه العادة التي جعلت أنصاره من أبناء هذه الطائفة يحثونه على الذهاب لأن غيره من السياسيين قد توجه لنيل بركة "الحاخام" او "الراب" او "الحسيد". وهو السياسي العلماني لا يؤمن بهذا كله, بل يتهكم عليه. ولكنها "توتاليتارية" الثقافة الشعبية بعد أن تتحول الى ثقافة جماهيرية لا ترحم, بخاصة في مجتمع تجيش فيه الانتخابات الشعب الى جماهير, كما تجيشه وسائل الاعلام والثقافة الاستهلاكية وغيرها. ومع ذلك, يبدو السياسي مضحكاً وهو يدخل ويخرج من باب عوفاديا يوسف. ولا شك أن الأخير يحفظ قسماً من التلمود عن ظهر قلب, ويستنبط حكاية من حكاية, ويستدل على مغزى بدائي من رواية. ولكنه ليس عالماً ولا علامة, ولا يفهم السياسة ولا العصر. وربما يتقن حسابات القوة والسطوة, حسابات مصالح النخبة التي يرعاها تحت كنفه في إطار السياسة الطائفية والحسابات الحزبية اللازمة لرعاية هذه المصالح.

 

ولكن السياسي الذي يتحدث عنه باحترام أمام الكاميرا, وبسخرية في غيابها, يحوله فعلاً الى شخصية ينتظر الجميع الدرر التي سيدلي بها, ويتعامل معها الصحافيون بترقب دائم مما يزيد من أهميتها. وقد انقسم مساعدوه والناطقون باسمه الى فرق ومصالح موزعة على الأحزاب الاخرى التي يمكن الائتلاف معها. وظهر له مفسرون متنافسون على تشخيص معنى رأيه, معنى لا يحكمهم رأيه ولا عمق هذا الرأي, بل مصالح مفسروه والناطقون باسمه السياسية والمادية وعلاقاتهم وارتباطاتهم والتزاماتهم. هكذا كادت هذه الشخصية تتحول الى الشخصية المحورية في سياسات الهوية لدى اليهود الشرقيين فبدا الراب عوفاديا يوسف أكثر كاريزماتية يوما بعد يوم الى ان وصلت سياسات الهوية كخيار الى مأزق سياسي. عندها بدأ يتحول الى أكثر كاريكاتيرية مع كل يوم يمضي. والاعلام الاستهلاكي صانع الصور لا يرحم, يرفع ويحطم من دون رأفة, يبجل ويسخر من دون شفقة.

 

وقد وصل الانتاج الاعلامي لصورة "الراب" الذي يحرك المؤمنين بكلمة او بإشارة حد العبث في حالة الراب كدوري الذي كان الجميع على علم أنه ليس على اتصال بالواقع تماما, وذلك ليس نتيجة لتحليق روحاني, وإنما نتيجة الشيخوخة وربما الخرف. كذلك لم يعرف عنه علم او دراية في شؤون الدين. فهو بذاته خرافة يساهم الاعلام ومعه السياسيون الذين يرافقهم الاعلام الى باب بيته في تسويقه. وقد انتظر السياسي نتانياهو في حينه بركة كدوري بفارغ الصبر من دون أن يعرف الأخير من يبارك وما هو حزب ليكود, وبالكاد عرف كيف يلفظ هذه الكلمات في بركته, وكان على مساعديه ان يذكروه امام الكاميرات بحرف ليكود في صناديق الاقتراع, فهو لا يتذكر سوى مباي من الخمسينات.

 

لكن هذه الظواهر التي احتفى بها الاعلام الاسرائيلي وسخر منها ومن المؤمنين بها في آن, علت وهبطت ولم تتحول الى مقرر في السياسات الاسرائيلية. وقد أشارت الظاهرة الى ثقافة أخرى ولكن وبالمجمل لم يتحدث رجال الدين باسم الناس في الشأن السياسي بل اقتصر ذلك على الاحزاب والنواب والحكومة.

 

مقابل ذلك نشهد في الاقطار العربية ظاهرة مختلفة. فبعد سقوط نظام سلطوي يبرز ليتحدث باسم الناس رجال الدين. أمر عجيب ان يبدو السياسيون وكأنهم شخصيات خاصة تتحدث باسم ذاتها أو بإسم حزب سياسي (الكلمة الدارجة لوصف الأحزاب عربيا هي: مصالح حزبية ضيقة). ويتضاءل وزن الحزب السياسي مع إزدياد عدد الأحزاب ليتطابق مع عدد الراغبين بلعب دور سياسي. لقد تلقت التيارات السياسية والأيديولوجيات التاريخية ضربة قاسية, حطمت تحطيماً بالـقمع الدموي وبادعاء النظام أنه يحمل ايديولجية. وضربت مؤسسات المجتمع المدني القائمة على طاقة بورجوازية وطنية محلية اعادة انتاج ذاتها خارج سيطرة الدولة. ولم تبق الدولة إلا على الرابطة العشائرية كوسيط معها وكنوع من الاحتواء والحماية للفرد في ظل هذه الوساطة, هرمية عشائرية تنسخ الهرمية السلطوية في الدولة, وربما العكس ايضا. وأبقت الدولة السلطوية على الطائفة الدينية كموضوع للإحتواء او للإقصاء, يتم احتواؤه أو اقصاؤه بواسطة احتواء أو قمع رجال الدين. وكأن الدولة السلطوية رأت في رجال الدين عنواناً لجماعات الهوية الداخلية. ويتجمع الناس في الاماكن المقدسة ويتحلقون حولها في الأزمات حتى عندما يعلمون أنه عندما تتجذر الديكتاتورية ويـصلب عودها ويقسى مراسها ويتحجر قلبها لا تحميهم الأماكن المقدسة والمزارات ولا يشفع لهم الإلتفاف حول رجال الدين. ولكنهم يفعلون ذلك ويستظلون بالهوية الجماعية, ان لم يكن حماية فعزاء بالمقموعين الآخرين. تتحول صورة القمع الى مذهبية, الى قمع لجماعة تاريخية لها رموز وحكاية ورواية وابطال من المؤسسة الدينية.

 

وعلى كل حال, في بلاد تتعدد فيها المذاهب من دون تعبيرات عن تعددية ديموقراطية, يزداد بروز رجال الدين كناطقين باسم الجماعات كبديل عن التعددية السياسية, وكأنهم وحدهم لا ينطقون باسم حزب من الأحزاب, ويسمون أصلا مرجعيات دينية. وفي الواقع يتحولون الى مرجعيات لهوية طائفية مذهبية لا علاقة لها بالمرجعية في تفسير الفقه او الشريعة. بعضهم حظي بشخصية كاريزماتية, وبعضهم الآخر لم يحظ بها. حظي بعضهم بحكمة وبعضهم لم يحظ بها, ولكن لا علاقة لهذه الصفات أعلاه بالمكانة التي يحظى بها. فهذه تعدُّها له الظروف, وانهيار مؤسسات المجتمع المدني, وتحول الأحزاب الى أدوات للطموح السياسي الشخصي لا تشبع بحث الناس عن معنى في عالم متغير بشكل عاصف ولا بحثهم عن هوية ثابتة حميمة في عالم متقلب دون هوادة. ويعدها له الاعلام الباحث في مجاهل الوضع الجديد عن مرجعية, عن مصدر يقين في عالم لا يقين فيه يتحرك بل يتفجر حركة من حوله. انه على اتم الاستعداد لأن يحول المكانة المرجعية الفقهية الى مكانة سياسية.

 

وكلما كانت الشخصية أكثر اختفاء او غموضاً كلما وفر ذلك حيز مناورة أوسع في تعميم الشخصية ورسمها بواسطة مقابلة المعارف والمقربين والخبراء. وهم يرسمون خطوط الشخصية بالاعجاب الذي يريده الاعلام ويستطردون بسرور بالغ عندما يهز الصحافي رأسه في اشارة الى ان يواصل المتحدث. فكلما ازدادت الشخصية المختفية أهمية كلما تعززت مكانة من حظي بمعرفتها.

 

هكذا يتحول صمت الشخصية المطبق الى اطراق وحكمة وتأمل. وما دام الصمت هو القاعدة والكلام هو الاستثناء, فلا بد ان يكون الكلام مهماً وعميقاً وذا دلالات لا يعرفها احد, اذا ما صدر, وقلما يصدر. وما أكثر المحللين والمفسرين والمعلقين والمقربين والناطقين الذين يفسرون بموجب ما يرونه مناسبا. ولا يوجد هنا تناقض او تضارب فكلما ازداد عدد المفسرين والتفسيرات ومحاولات تسخير الشخصية لغايات كلما ازدادت اهميتها. خذ مثلاً جملة مثل "المطلب هو الإنتخابات"... هذه العبارة عادية ومتكررة وتعبر عن تطلع عادل. انها جملة صحيحة اذا صح التعبير. ولكنها هنا تبدو أكثر حكمة منها في مقالة سياسية, أو في كتاب تحليلي فعلاً قائم على معرفة ودراية وعلم في الأمور. والعلم والدراية والخبرة والبحث كلها لا شيء مقابل أن تأتي العبارة على لسان ناطق باسم ناسك زاهد تعرض صورته عندما يتحدث غيره باسمه. الإنعزال عن العالم وعدم الدراية بشؤونه والتركيز فقط على النصوص الدينية واستخلاص الفتاوى منها بالقياس وبغيره تتحول الى زهد في شؤون الدنيا وتركز في جوهر الحياة.

 

يدخل السياسيون ويخرجون وهم يهزون رؤوسهم لأن الدور يتطلب ذلك, فالخدمة متبادلة والمصلحة مشتركة. واستقبالهم دليل أهميتهم, ووسائل الاعلام في الخارج تنتظر. وهم ممتنون لصورة الشخصية الكاريزماتية التي أوقفتهم هذا الموقف. ولكنهم يسرون لمن حولهم انهم لم يفهموا الكثير ولم يكن التواصل مع شخصية رجل الدين سهلاً. وهذا يعني ان المساعدين والناطقين والمفسرين هم أيضاً ليسوا مجرد مفسرين وناطقين. الرجل مرجعية دينية كبرى لا شك في ذلك. ولكن أدوات تحويله الى مرجعية في شؤون أخرى سياسية ودستورية هي أيضاً أدوات انتاج هذه المواقف, وهي ليست ادوات دينية او فقهية.

 

وهو يزهد فعلا في شؤون الدنيا, ولكن غالبية رجال الدين الناطقين باسم الشعب او الطائفة او المذهب لا يزهدون في الاعلام ولا في السياسة. وهم يكرسون الظاهرة بشكل أكثر حدة. المرحلة عاصفة وانتقالية, والناس تتجمع في دور العبادة المذاهب هناك تشعر بالقوة, ورجل الدين هو الناطق باسم الدين إبان الصلاة, وباسمهم بعد الصلاة اذا اقتربت وسائل الاعلام لاستمزاج الناس. ويزداد عدد رجال الدين الذين يلعبون دورا سياسيا في كافة المذاهب.

 

يتحول العنف الى جنون اجرامي اذ يستهدف الناس في يومهم الاكثر تصميماً لهويتهم المذهبية, ويعتمد الأمر على حكمة رجال الدين الذين يرفضون الفتنة. وهذه حكمة فعلا. ولا تقترب منها انتهازية بعض الاحزاب التي عودتنا انها تستغل الطائفية والمذهبية اذا لزم بغرض تجييش الناس في صناديق الاقتراع.

 

لا بد من الاقرار بهذا الاتزان والاعتدال الذي يبديه رجال الدين في هذه الحالة. ولكن النظام الديموقراطي الذي يقوم على عقد اجتماعي متخيل بين افراد لا يعتمد على تسامح رجال الدين الحكماء بل على المؤسسات الديموقراطية وسيادة القانون لمنع الفتنة. والديموقراطية الفدرالية أيضاً لا تقوم على فيديرالية بين مؤسسات دينية ترعى مؤسسات علمانية ناطقة باسم هويات.

 

هل يتحدث رجال الدين موقتا باسم الجماعات في مرحلة انتقالية تحطمت فيها دولة حطمت هي بدورها كل المؤسسات المؤهلة للنطق باسم الناس والتفاوض في شأنهم وفي شان الحيز العام, أم أنها بداية حالة, براعم حالة إكليريكية, قد تنشأ فيها مؤسسات سياسية وأحزاب ولكنها ستسعى دائماً لأخذ بركة وموافقة المؤسسة الدينية؟ لا نعلم, ولكن من المفيد أن نعي وجود هذا السؤال.