من غرائب حالة الاستعمار الداخلي التي يعيشها العرب في الداخل أن بعض ممثلي اليمين الإسرائيلي واليسار الصهيوني يتهمون ممثلي العرب في البرلمان بعدم الاهتمام بقضايا شعبهم في الداخل، في حين يكاد الأخيرون لا يتحدثون عن موضوع آخر في البرلمان إلى درجة إهمال كل ما لا يتعلق بالعرب في الداخل. وهم يهتمون بقضايا العرب حتى من الزاوية الخدماتية المحض، ويصل الأمر بالنواب العرب حد الابتذال أحيانا في تملق المواطن العربي من اجل طرح قضيته والتنافس في ادعاء الفضل في طرحها.
وغالبا ما لا يحضر جلسات اللجان البرلمانية التي تعنى بشؤون المواطنين العرب إلا العرب أنفسهم وقد يحضرها غيرهم لغرض إفشال اقتراح قدموه لصالح العرب لأنه يكلف بعض الميزانية، أو لأنه يحتوي عنصرا من عناصر الوعي الوطني.
وتكمن المأساة في التسامح والعادية غير المحتملة التي يتم فيها التعامل مع ادعاءات وقحة صادرة عن ممثل حزب صهيوني قائم على نهب الارض والتمييز ضد المواطنين العرب أن النواب العرب لا يخدمون مصالح شعبهم وأنهم يهتمون بقضايا أخرى، في حين يهتم هو بقضايا العرب لضمان ألا تحل أية قضية أو لغرض تعقيدها.
كما تكمن المأساة في مجرد الاستماع لمثل هذا الكلام والسماح به مع أن القائل هو من حزب صهيوني قائم على أنقاض العرب. وينسى الكثيرون أن هنالك ممثلين عرباً في أحزاب صهيونية، إما يدعون أنهم ليسوا عربا، أو لشدة إخلاصهم لحزبهم او ائتلافهم الحكومي لم يفعلوا شيئا لحل قضايا المواطنين العرب، او صوتوا ضد اقتراحات طرحها نواب لصالح المواطنين العرب.
قد يعتقد شخص افتراضي عاد إلينا للتو من فترة الحكم العسكري أن من يخوض مثل هذا النقاش قد فقد عقله. فعندما كانت غالبية العرب في جيب الأحزاب الصهيونية، عاشوا تحت الحكم العسكري. وعندما رفعوا عقيرتهم مطالبين بالمساواة تكثف وعيهم الوطني او العكس، أي عندما اشتد وعيهم الوطني أصبحوا أكثر طموحا في مسألة الحقوق.
لم يتواز ويتزامن تطوران كما توازى وتزامن الوعي غير الصهيوني بمواطنة من منطلق حقوق المواطن الأصيل في دولة فرضت مواطنتها على من بقي لمجرد الحق بالبقاء مع الوعي الوطني عند عرب الداخل.
هذا غيض من فيض العبث الذي نضطر الى التعاطي معه تحت سقف الهيمنة الصهيونية على الإعلام والخطاب الإعلامي وتحت سقف ضبط إيقاع النقاش وإثارة المواضيع من قبل السلطة و"مثقفيها" العرب واليهود المعتاشين على بحث قضية العرب في الداخل صناعةً أو تنصتًا، المخبرين العرب من أبناء المؤسسة الإسرائيلية، في الثقافة وفي سقف الطموحات المهنية، المتلبسين بلباس الباحثين في أحوال شعبهم والمختبئين خلف سلسلة لا تنتهي ولا تميز حلقاتها بين الراديكالية الزائفة المتجلية في مهاجمة "القيادات العربية" فقط وحتى صناعة التعايش في جمعيات وغيرها.
لو قلل الإنسان عقله وأنصت إلى صراخ عربي يقال بالعبرية في نقد "القيادات العربية"، دون تمييز طبعا، وهو عمل بطولي خارق بحد ذاته، لحسب نفسه يستمع إلى شخص يقترح نهجا نضاليا بديلا، أو كفاحا مسلحا أو مقاطعة للمؤسسة الاسرائيلية. ثم لا يلبث أن يتمخض الضجيج عن صغير يرغب أن يثر إعجاب مستمعيه اليهود. ولنكتشف ان المزايدة ليست فعل بطل بل ولولة جبان رعديد، لم يشارك في حياته بأي عمل نضالي، ولا قدم من وقته او تطوع لاي شيء عام، وأنه ابن المؤسسة الإسرائيلية في كافة نواحيها إلا ما يتطلب صراعا سياسيا. أما الموضوعية العلمية والبحثية فتضيع في انتقائية وذاتية وحب وكراهية وعقد شخصية وغيرة وحسد وغيره من مكامن ضعف النفس البشرية!!
نحن إزاء حالات نفسية في الحقيقة أكثر مما هي حالات نقدٍ مثقفٍ ضروري للقيادات السياسية ذاتها، ومنها من هو أكثر ثقافة بما لا يقاس من المتذمرين الموسميين في الانتخابات وكأنهم في مهمة رسمية لإبعاد العرب عن السياسة!
والمصيبة ان بعضهم ليس مسيسا، ولا هو باحث بارز في العلوم السياسية، ولا هو حزبي ولا شارك في حياته في بناء حزب، ومع ذلك لا يتواضع موجها نصائح للأحزاب يفترض أن تكون موضع ترحيب، بل ينفي عملها جملة وتفصيلا. وأقصى ما نظمه بعضهم في حياته هو جمعية بمجلس إدارة مفصل على قياسه ويبصم له على كل قرار وممولة من الخارج ويتلقى أجرة عن كل صفحتين يكتبهما من عدة مصادر. أي حزب مهما بلغت سلطوية قيادته هو أكثر ديمقراطية من أية جمعية. أما من حيث النضالية وخدمة قضايا الموطنين العرب والاستعداد لأي عمل تطوعي فإن اصغر عضو في حزب وطني يعطي من وقته وصحته وعمله تطوعا أكثر من أي مزايد من هذا النوع.
لا نقول ذلك لكي نمنن أحدا، ولا لأننا نعتقد انه على كل ناقد أن يكون مناضلا، بل نقول ذلك نتيجة للوقاحة والجلافة وقلة التواضع التي ترافق كل من انهى شهادتين جامعيتين فاعتقد انه فوق الأحزاب، أو أن مثل هذا الموقف الفوقي يمنحه مكانة لا تمنحها له شحة انتاجه الاكاديمي. والعزاء أننا ننظر حولنا فنرى مثقفين أكثر إنتاجا وإداركا وأكثر تواضعا، حزبيين وغير حزبيين، نشطاء بجمعيات وبدون جمعيات، بأجر وبدون أجر، يقدرون معنى وضرورة القيادة للمجتمع ويأتون بنصح ونقد مفيدين دون غرور، وذلك إما من منطلق الاختلاف السياسي أو من منطلق الاتفاق السياسي والاختلاف على الأداء. وهؤلاء هم الأكثرية وغالبية هذه الأكثرية نقابلها في حلقات بيتية أو في عملها وفي مهنتها، وليس في حلقات مغلقة بين نشطاء جمعيات يعرفون أنهم لا يقوون على أي دور قيادي أو بحثي جامعي، فلا هم مؤسسة جامعية ولا هم حزب سياسي.
"وحبذا لو زاد عدد المثقفين الحزبيين وغير الحزبيين الذين يتقنون عملهم والمهتمين بالشأن العام، وحبذا لو زادوا من نقدهم وملاحظاتهم من منطلق المسؤولية الوطنية وبتواضع في الوقت ذاته".
ليست الدعوة الموسمية الى الإحباط والتيئيس من القيادة دعوة بوهيمية أو فوضوية قد نتعايش معها لو وجدت، فهما نزعة وميل يعتملان في داخل بعضنا، وحتى لدي شخصيا، ولا اخجل من قول ذلك، ولكن هذه الدعوة الموسمية تأتي من محافظين تقليديين ومربعين اجتماعيا، ومن نوازع انتهازية وعقد شخصية، ومن منطلقات دوغمائية او أصولية او بدوافع تنافسية صغيرة بلهاء أو لغرض إثارة إعجاب صناع الرأي العام الإسرائيلي.
وهؤلاء يملون إيقاع نقاشات المجتمع السياسي العربي في الداخل بالقضايا التي يثيرونها ونوع الأسئلة التي يطرحونها الخ.
وإذا أضفنا إلى ذلك مراكز الأبحاث المتخصصة بالمواطنين العرب وعرب المراكز الإحصائية الإسرائيلية التجارية الذين يفصلون نتائج استطلاع الرأي العام حسب الطلب أحيانا، وإذا أضفنا ما يقال بالعبرية ضد "القيادات العربية" بتهمة أنهم لا يخدمون قضايا الناس ثم بالعربية بنبرة وطنية راديكالية تدعو للمقاطعة ندرك مدى انعدام المسؤولية الوطنية لدى بعض الثرثارين في الإعلام الذي يساهمون في إيقاع مجتمعهم في فوضى مفاهيم وقيم لها اول وليس لها آخر.
في ظروف أقلية وطنية أصيلة يقف المثقفون الوطنيون في صف من يدركون أن الحاجة إلى قيادة وطنية هي حاجة تتماثل وتتطابق مع عملية بناء شعب والحفاظ على هويته. ويدركون الحاجة إلى نقد القيادة وتنقيتها قدر الإمكان من الانتهازية. ولكنهم يدركون بتواضع أن من يعمل يخطئ وأنهم بأنفسهم غير معصومين، بل هم أكثر ميلا لنقد الذات من نقد من يعمل في السياسة. كما يقف المثقفون الوطنيون مع الموقف الواقعي الذي لا يزايد على القيادة على عدم نضاليتها ليتملق هدوء وسكون وعدم نضالية الجماهير في مراحل الإحباط بعد ذلك مباشرة.
ويساهم المثقفون الوطنيون مع القيادة في تعميم النهج النضالي في القضايا المطلبية في دولة ليست لمواطنيها وتشاركها التفكير في الهم الكبير في كيفية طرح القضايا والهموم الوطنية في خضم الدفاع عن حقوق الناس اليومية وهي حقوق إسرائيلية. وفقط لكي نعالج مسألة العلاقة بين الحقوق المدنية وضغط الناس من أجل الحقوق والخدمات مع ضرورات بناء والحفاظ على مؤسسات ترسخ الهوية الوطنية نحتاج إلى جيش من المثقفين النقديين والوطنيين.
عن صحيفة "كل العرب"