تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

هل حلت روح التفاوض فجأة على أولمرت؟

2006-06-10

هل حل على أولمرت فجأة خيار التفاوض مع الفلسطينيين، وتحديدا مع الرئيس الفلسطيني؟ الإجابة هي قطعا لا. فخطة فك الارتباط كما طرحها شارون ارتبطت، حين تكلم عنها وبررها، بمقدمة تتضمن «اقتراحا» للقيادة الفلسطينية للتفاوض لكي يتم الاتفاق معها على دولة فلسطينية كحل دائم أو كحل انتقالي طويل المدى، في حالة لم تكن جاهزة بعد للتنازل عن الثوابت نظريا، أي إيديولوجيا، بعد أن يتم التنازل عمليا. وكان شارون يقول أن على القيادة الفلسطينية أن تقرر: هل تحصل على حل بالتفاوض، أم تفرض إسرائيل ما تراه من طرف واحد، وسوف يكون ما تفرضه أسوا للفلسطينيين. لا جديد في معادلة العصا والجزره هذه، ولا جديد في نوايا إسرائيل بالنسبة لاستخدامها الإسرائيلي المتميز: إما أن يأكل الفلسطينيون العصا، أو يضربوا بالجزرة...
 

وكان شارون يشترط لبدء التفاوض أن تحارب القيادة الفلسطينية الإرهاب بموجب المدخل إلى تطبيق خارطة الطريق والتفاوض على دولة. والفرق كما رآه شارون هو بين ان تفرض إسرائيل حدود الكيان الفلسطيني من طرف واحد بحيث يحصر في حدود 40-50% من الضفة الغربية أو يتم التوصل بالاتفاق الذي تسبقه وتتبعه التزامات أمنية على كيان فلسطيني متواصل جغرافيا داخل الضفة يصل إلى 70% من الأرض.
 

وكان واضحا أن شارون يفضل أن يفرض الحدود من طرف واحد، بموجب أفكاره القديمة منذ عام 1988 سنة فك الارتباط الأردني والتي دعا بموجبها إلى تحويل الخيار الأردني إلى خيار فلسطيني في كيان، سمي في حينه حكما ذاتيا ويسمى حاليا دولة، على نفس مساحة خطة ألون لتسوية مع الأردن بإعادة المناطق المكتظة بالسكان، وضم الباقي إلى إسرائيل ولو من طرف واحد.
 

بعد فشل كامب ديفيد وما أنتجه واقع الانتفاضة الفلسطينية الثانية من انفصال شبه مطلق من ناحية الحصار الإسرائيلي أو من ناحية وسائل النضال التي اختيرت، أصبح خيار فرض الحدود من طرف واحد وإدارة الظهر للفلسطينيين بعد التخلص من عبء السيطرة المباشرة على مناطقهم المأهولة إجماعا إسرائيليا عشية وبعد فك الارتباط في قطاع غزة. وهو مزاج عام يقوم عليه حزب مركزي. ومع أنه ليس حزب الأغلبية إلا أن بقية أحزاب الائتلاف لا تطرح طرحا منافسا، وليس بحوزة أحد منها مشروع سياسي بديل.
 

يتمسك أولمرت بفرض الحدود من طرف واحد لسببين أولهما أنه، مثل شارون، لا يرى (حتى الآن) قيادة فلسطينية تقبل بالحد الأقصى الذي يمكن أن تطرحه إسرائيل كحد أدنى يمكن قبوله فلسطينيا كحل عادل. وثانيهما، أنه على هذا الأساس يقوم حزبه، والى حد ما ائتلافه أيضا.
 

ماذا حصل في هذه الأثناء؟
 

غاب شارون، وهذا بحد ذاته لم يغير بل زاد من أهمية التمسك بطرحه كمصدر شرعية لحزب كاديما. أين التغيير إذا؟
 

أولا، انتخب الشعب الفلسطيني مجلسا تشريعيا فيه أكثرية ساحقة لحركة حماس. وهذا بدوره يعني أمرين أساسيين:
 

أ- أن فك الارتباط لم يؤد إلى نتائج محسوبة إطلاقا. 
 

ب- أن رفض القيادة الإسرائيلية التفاوض مع الحكومة الفلسطينية السابقة أدى إلى تقوية الفئات الأكثر تمسكا بالثوابت، أو الأكثر تشددا وتطرفا باللغة الإسرائيلية. سوف يقود فك الارتباط في الضفة فقط إلى توسيع نفوذ هذه الحكومة الفلسطينية الجديدة ويريحها من اتفاق. 
 

وثانيا، نجد أصلا الكثير من الأفكار لدى أوساط في اليسار الصهيوني أيدت فك الارتباط من طرف واحد في غزة وترفضه في الضفة، ولكن الأهم والملفت هو ارتفاع صوت أوساط يمينية في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية عبر عنها مؤخرا جيورا آينلد في هآرتس (الأحد 3 حزيران\ يونيو) أنه إذا كان فك الارتباط في غزة تسرعا لم تقبض إسرائيل ثمنه (وهذا غير صحيح، فهنالك رسالة الضمانات من أميركا) فإن فك الارتباط في الضفة سوف يكون كارثة، خاصة أن مكانة المستوطنات في الضفة في الرأي العام لا تقارن بمكانة مستوطنات غزة. ولا يجوز تفكيك مستوطنات في الضفة دون مقابل. والدولة الفلسطينية التي سوف تنشأ ستكون برأيه غير قابلة للحياة وغير مستقرة وتكاد تنفجر اقتصاديا وسكانيا، وسياسيا إضافة لكونها بقيادة حماس. ولذلك يدعو آيلند مثلا إلى «حل شامل». 
 

ولكي لا نخطئ هو لا يقصد مبادر ة السلام العربية، بل إدخال الأردن ومصر في صلب المشاورات لتبادل الأراضي في سيناء وشرقي الأردن، والتوصل إلى حل يشمل مصر والأردن والفلسطينيين...لا حديث عن سوريا طبعا. ليس هذا اقتراحا مهما، ولكنه يعكس عدم ارتياح عسكري من عدم التخطيط للمستقبل ومن السرعة التي تم فيها اعتماد مخرج سياسي من مأزق كخطة لمواجهة أعقد القضايا دون التفكير خطوتين إلى الأمام بالعواقب.
 

وثالثا، القيادة الفلسطينية التي طالبها شارون بتطبيق الجزء المتعلق بها من خارطة الطريق كشرط ليفاوضها فقدت الأغلبية وتجلس الآن في الرئاسة وفي المعارضة داخل المجلس التشريعي، ولا معنى لفرض نفس الشروط عليها دوليا. خاصة وأن المجتمع الدولي لا يتوقع إمكانية استمرار الحصار إلى اجل غير مسمى، ومن أجل فكه يجب أن تكون هنالك قناة فلسطينية لتحويل الأموال، وإذا كانت هذه القناة تصلح للدعم المالي، فهي تصلح للتفاوض بكل تأكيد، أو العكس. هذا حسن، ولكن لماذا أصبح رأي «المجتمع الدولي» مهما فجأة؟ فقد قلنا أن إسرائيل والولايات المتحدة متفقتان على خطة فك الارتباط. 
 

هنا يأتي رابعا: ليس بوسع إسرائيل في هذه المرحلة الدقيقة من المواجهة الأميركية مع إيران ان تزعج الأوروبيين. إذا انتهت الولايات المتحدة إلى حصار اقتصادي أو إلى مواجهة، فسوف تحتاج في الحالتين إلى ائتلاف دولي مع أوروبا، وتفاهم بالحد الأدنى مع روسيا والصين ألا تعترضا بشكل نشط، ولو في المرحلة أولى. وهذا ليس مجرد إملاء أميركي على إسرائيل. فالأخيرة تعرف دون وسائل إيضاح أن الخطر الاستراتيجي حاليا يكمن هنا في منطقة الخليج، وأنها دائما رغبت أن تضعه الولايات المتحدة على رأس سلم أولوياتها، حتى قبل احتلال العراق.
 

وقد باتت العلاقة مع أوروبا والرأي العام الغربي عموما أكثر هشاشة من أن تشكل قاعدة صلبة لتحالف ضد إيران خاصة بعد ورطة العراق واتضاح الأكاذيب التي قام عليها التحالف لشن الحرب عليه. وقد عادت رايس إلى رئيسها محبطة من اجتماعها مع وزراء الخارجية الأوروبيين في برلين، ولذلك زودها بوش بمقترحات «إيجابية» عادت بها إلى اجتماع فينا وتتضمن جزرا للتفاوض مع إيران بشرط وقف التخصيب، أي الاستعداد للحوار. وفقط هكذا كسبت إجماعا أوروبيا.
 

وعلى ذكر إرضاء أوروبا والحلفاء الغربيين عموما، لا يفهم أحد في أوروبا مقاطعة إسرائيل للرئاسة الفلسطينية، ولا الخطوات من طرف واحد حاليا...ونضيف: لا في أوروبا ولا في الدول العربية المحيطة والمؤيدة علنا أو ضمنا للتحرك الأميركي بشأن إيران ( وحزب الله) ووضع المقدمات للتأمر على المقاومة اللبنانية هو الآن على أشده.
 

لا بد هنا من التذكر أنه في سياقات التحالفات الدولية تعود قضية فلسطين لتصبح قضية علاقات عامة لا قضية استراتيجية حتى بالنسبة للدول العربية التى تعطي الغرب نصائح في كيفية تسكينها بمبادرات علاقات عامة وحسن نية وكسب الرأي العام أو تجنب إغضابه وإدارة أزمات إلى حين تحسم القضية الاستراتيجية التي جاء دورها لتكون موضوع الصفقات الجديدة. 
 

سوف يعقد اجتماع، وسوف يتوصل الطرفان إلى اتفاق على بعض التسهيلات لمرور الأموال والبضائع. وخلافا للاجتماع الأخير مع رئيس حكومة إسرائيل سوف يجري الاجتماع في أجواء جيدة، وسوف يتم الاتفاق على قناة لمواصلة التفاوض...هذا حتى تمر الأزمة الإيرانية.
 

في هذه الأثناء تواصل إسرائيل عملياتها في الضفة الغربية وقطاع غزة، تواصل حربها غير المعلنة. من جهة أخرى، أن إسرائيل ضالعة في حالة «حرب بوتيرة منخفضة» دون أن تعلن ذلك. العمليات منهجية، وهي تتجاوز التصعيد هنا أو هناك. وقد اعترف الجيش الإسرائيلي اليوم ( هآرتس 30 أيار\ مايو) أن الجيش الإسرائيلي موجود منذ أسابيع داخل أراضي قطاع غزة. وتشمل العمليات اغتيالات منهجية مستمرة لا تنقطع وغارات لوحدات المستعربين للقتل والاعتقال وقصف مستمر على شمال قطاع غزة. 
 

تندرج الاغتيالات في صيدا ضمن نفس الحرب الصغيرة التي تخوضها إسرائيل دون أن تعلنها. وكذلك الرد الإسرائيلي المخطط سلفا على رد المقاومة اللبنانية الذي صدم الإسرائيليين بدقته، أو على حقيقة أن المقاومة اللبنانية تصرفت كما يجب أن تتصرف، أي مذكرةً الإسرائيليين أنه يوجد لصيدا ولغيرها أصحاب، أي هي ليست «فالته» أو «داشرة» أو «أموال متروكة»، كما كانت تسمى أملاك اللاجئين الفلسطينيين في الوطن بعد عام النكبة، ولا هي مشاع للغزاة المحتلين بغض النظر عمن يستهدفون.
 

المثير للاستغراب هو أن الرد على العدوان والندية على الأقل في التعامل مع الغزاة هو الاستثناء المشرف بدل أن يكون هو القاعدة الطبيعية. 
 

ترفض المقاومة اللبنانية التعود على حرب غير معلنة وردها على إسرائيل هو ما يشعر البشر أن إسرائيل تشن حربا غير معلنة. فالحرب غير المعلنة والتعود عليها يمكن الناس والدول من التعامل مع إسرائيل كما في الأيام العادية، وكأنه لا يحدث شيء استثنائي. يقول والتر بنيامين: حالة الطوارئ باتت هي القاعدة... ونحن نضيف في حالتنا، وهي تطمح أن يعتاد الناس عليها.
 

تشن إسرائيل حربها الصغيرة والمستمرة بعد أن جهزت ظرفا دوليا ينطوي على حصار خانق مضروب على بسطاء الفلسطينيين المنشغلين وأصدقائهم بأولويات الحياة التي تحولت إلى شروط سياسية، وبعد أن أشغلت العالم بمواقف الحكومة الفلسطينية التي لا تقدم ولا تؤخر في المخططات الإسرائيلية ذاتها لفك الارتباط من طرف واحد. 

وفي الحرب، كما في الحرب، تفرض أجواء لاتخاذ الدول خطوات لا تجرؤ على القيام بها في الأيام العادية. وإسرائيل تتصرف حاليا كما يتصرف غيرها في فترات الحرب، إذ تطرد مواطنين فلسطينيين عائدين إلى بلدهم للعطلة الصيفية وتسحب الإقامة في القدس من مقدسيين وتكثف الحصار إلى درجة تحويل الشعب كله إلى سجين يتحرك بإذن سجان. وتقتل يوميا... تقتل حتى عافت النفوس الخطاب وعافها. إنها ترغب أن ترفع كلفة الموقف التي يدفعها الشعب الفلسطيني، فإما أن تقطف النتائج سياسيا، أو تنتج أجواء مناقضة للتفاوض، تشتق منها الخطوات من طرف واحد بطبيعية بل وتبدو هذه الخطوات تقدما.
 

تدور الحرب الإسرائيلية الحالية على محور التحضير الإقليمي لعدوان أو على الأقل لحصار واسع النطاق ضد إيران إذا لم توقف تخصيب اليورانيوم. ويتطلب هذا التحضير فحص قوة المقاومة اللبنانية ليس بالعدة فحسب، بل بالعتاد أيضا، والعتاد يشمل عناصر القوة المجتمعية الداخلية، كل ذلك في التحضير لمخطط أوسع إذا ما استقرت أميركا على قرار ما في المنطقة. وقد وصل التحريض على المقاومة اللبنانية أوجه مع الحديث عن صواريخ يصل مداها حتى النقب، وهي تربط باستمرار بسوريا وإيران.
 

كما تحض إسرائيل الفلسطينيين على المواجهة الداخلية، فهذا هو الضمان الأفضل لأحد خيارين: أولا، تطبيق فك ارتباط من طرف واحد نتيجة لحالة الفوضى الفلسطينية أو تنشأ من رحم المواجهة والارتباط المالي والعسكري بمن يدعم ومن يمكِّن من وصول الدعم قيادة مستعدة لقبول دولة في الحدود التي اقترحها شارون ويقترحها حاليا حزب شارون ممثلا بأولمرت ولكن أقل مما اقترحه كلينتون في كامب ديفيد. ويبرر القبول بمنطق وقف تفويت الفرص.
 

قلنا في حينه أن الحوار قد يكون مجرد تمريرات بالكرة (بلغة عالم الأسبوع المقبل) لكسب الوقت. ولكن فلسطينيا هنالك أساسا متينا لنجاحه لو توفرت النوايا والإرادة وذلك لأنه: ليس لدى إسرائيل ما تطرحه على أي طرف من الأطراف الفلسطينية المشاركة حاليا في الحوار إلا إذا ارتبط بها نهائيا لغرض مواجهة خصومه داخليا. ولو تقدمت إسرائيل باقتراح تريد القيادة الفلسطينية قبوله ولكن البرامج والمواثيق لا تمكنها من ذلك، حينها يجب أن يطرح الاقتراح للاستفتاء الشعبي بعد أن يسن له قانون ينظمه. لا تطرح للاستفتاء برامج ذاتية للفلسطينيين أنفسهم، لا يحصل شيء اذا قبلوها أو رفضوها، فهي ليست عرضا معروضا عليهم ليستفتوا على قبوله. 
 

البرامج السياسية تطرح في الانتخابات لتحوز على الثقة. وثانيا لأن مصلحة الشعب الفلسطيني تقضي بإقامة حكومة وحدة وطنية، وثالثا، لأن ممارسات إسرائيل الحالية تتطلب مواجهتها على كافة الجبهات.
 

ما هو محرم في هذه الظروف على أية حال هو الاقتتال الداخلي، والمسألة هي الضحايا الأبرياء، وتحطيم معنويات الشعب الفلسطيني وحلفائه من اقتتال ليس فيه رابح سوى الدولة الاستعمارية.