تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

عملية الوضوح المتبدد

2006-09-20

نشأ بعد الحرب على لبنان وضع سياسي إقليمي جديد يتميز بوضوح الخيارات بين الحرب والسلام. ويشكل وضوح الخيارات مأزقا حقيقيا لإسرائيل لأنها غير مستعدة لدفع ثمن أي من الخيارين، ولذلك تجري في الوقت ذاته حملة أميركية إسرائيلية عربية محمومة لتعكير صفو هذا الوضوح. والأداة الطيعة لإثارة الغبار ونشر الضباب وتبديد الوضوح، على مستوى العلاقات العامة على الأقل، هي صناعة القضية الفلسطينية كمصدر لا ينضب لأنصاف المبادرات والحوارات والتحرك و"العملية" و"بناء الثقة" والبحث عن طريق للعودة إلى خارطة الطريق وغيرها. كل هذا في وقت يستيقظ فيه الفلسطيني يوميا إلى وضع يحتاج فيه إلى خارطة طريق للوصول إلى عمله بسبب الجدران والحواجز الجديدة التي أقيمت في هذه الأثناء.
 

لم يكن محض صدفة قيام أولمرت بعد الحرب على لبنان بإلغاء خطة فك الارتباط في الضفة الغربية، وهي عبارة عن إملاء حدودي من طرف واحد يضم القدس وأجزاء من الضفة الغربية، وإن لم تستحق تسمية برنامج سياسي فقد كانت برنامجه السياسي الوحيد المطروح في الشأن الفلسطيني. لماذا ليس صدفة؟ لأنه في الذهن الإسرائيلي يعتبر الانسحاب من لبنان عام 2000 انسحابا أحاديا، هو عبارة عن بداية التفكير الإسرائيلي الأحادي البديل عن التسويات بشأن الصراع في خطوة من طرف واحد، وجاءت الخطوة بعد فشل المفاوضات مع سوريا. ويرتسم نفس الانسحاب في الذهن العربي بحق كعملية تحرير. ولكن بالنسبة لإسرائيل جرى الانسحاب من لبنان دون تسوية أو اتفاق سلام، وكان يمكن أن يتم ضمن تسوية مع سوريا تشمل الجولان. من زاوية النظر هذه يبدو باراك وليس شارون أبا فكرة الانسحابات من طرف واحد. 
 

وقد تلاها فك ارتباط وانسحاب أحادي من غزة بعد فشل المفاوضات مع السلطة الفلسطينية في كامب ديفيد في عهد باراك، وظهور رغبة إسرائيل بقطع الطريق في عهد شارون أمام أية مبادرات جديدة من نوع مبادرة السلام العربية وحتى خارطة الطريق. وقد رغبت إسرائيل الشارونية بتجنبها رغم مساوئها الجمة للعرب.
 

بعد أن دفعت إسرائيل الانسحاب الكامل من سيناء ثمنا لإخراج الدولة العربية الكبرى كطرف في الصراع، يمكن حصر النموذج الذي قدمته إسرائيل في المفاوضات حتى الآن بما يلي: إذا رفض أي "شريك عربي" من الأطراف العربية المتبقية في المفاوضات المنفردة شروط إسرائيل للتسوية وللعمق الذي تقبل به لانسحابها من الأراضي التي احتلت عام 1967 مقابل السلام، فإنها لا تعلن أنه لا يوجد اتفاق بل أنه "لا يوجد شريك"... وفي "غياب شريك" تقوم هي بالتالي بفرض ما تراه مناسبا من طرف واحد بحيث تنسحب من المناطق التي تشكل مصدر إزعاج استراتيجي لها من نوع المقاومة أو الأعباء المعيشية والديموغرافية مثل جنوب لبنان وغزة، وهي تفعل ذلك دون اتفاق أو تسوية وتترك للطرف الذي لم يعد شريكا مصادر إزعاجه من نوع: بقاء جزء من أراضيه محتلا تحت سلطتها، إقامة جيتو أو سجن للسكان الذي يعيشون حيث تم فك الارتباط، تحديد خروجهم ودخولهم والتحكم به، والاجتياح وشن غارات متى يحلو لها إذ لا يوجد اتفاق سلام، أي أن إسرائيل تفعل ما يحلو لها.
 

من زاوية النظر الإسرائيلية فشل نموذج فك الارتباط والإملاءات من طرف واحد في غزة وفي لبنان رغم الفرق بينهما من زاوية النظر العربية. وقد تبين الفشل من تنامي قوة وزخم المقاومة في البلدين وبانتخاب الأكثرية لحماس، وافتضح أمره نهائيا في فشل إسرائيل الأخير في عدوانها أمام بسالة المقاومة اللبنانية.
 

إذا أضفنا إلى ذلك أن حكومة إسرائيل بقيادة أولمرت لا تستطيع أن تدفع ثمن صراع جديد مع اليمين حول انسحاب، مهما كان محدودا من الضفة الغربية في ظل احتدام الصراع السياسي داخل إسرائيل حول أسباب الإخفاق في الحرب على لبنان، نفهم لماذا ألغيت خطة "الانطواء" أو فك الارتباط من طرف واحد في الضفة الغربية. 
 

وقبل ذلك ألغى باراك في كامب ديفيد اتفاقيات أوسلو مع رابين و"واي بلانتيشن" مع نتنياهو، وانضمت إليه في ذلك خطة فك الارتباط من طرف واحد التي ألغت عمليا كل الاتفاقيات. لقد أعلن باراك في حينه أنه لن يلتزم بالانسحابات الجزئية وإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين المترتبة على الاتفاقيات، وأنه يصر على حل نهائي في كامب ديفيد. وقد فشلت مفاوضات كامب ديفيد وبقي تجميد تنفيذ الاتفاقيات. ثم جاء فك الارتباط وألغاها عمليا. وفقط الحكومة الفلسطينية المنتخبة تطالب بالاعتراف بها كشرط من شروط الرباعية بعد أن رفضتها حكومة شارون وباراك من قبله.
 

سقط إذا فك الارتباط، وسقطت الحلول الجزئية على نمط أوسلو. ماذا اتضح أيضا بعد الحرب على لبنان؟ لقد فشلت أيضا سياسة القوة. خرجت إسرائيل في حرب أميركية على لبنان، ومصلحتها الذاتية في ذلك هي ترميم هيبة الردع الإسرائيلية التي تعتمد عليها في سياسة القوة طالما لم يقبل العرب بشروطها. فكانت النتيجة من هذه الحرب أن تضررت هيبة الردع الإسرائيلية أكثر من السابق.
 

لا يوجد في إسرائيل خلاف على أن إسرائيل قد فشلت في الحرب على لبنان، ويدور نقاش فقط حول أسباب الفشل ومن يتحمل مسؤوليته. ويجدر ببعض الأخوة العرب أن يتذكروا هذه الحقيقة. لأن النقاش على تفسير نتائج الحرب هو استمرار للحرب بوسائل أخرى. ولا ندري كيف تُجمع إسرائيل من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين على فشل عدوانها، في حين يدور نقاش عربي حول الفشل والنجاح، لا شك أن هنالك من يحاول منع استثمار نتائج الحرب لصالح المقاومة، وهذا موقف لا تعنيه الحقائق ولا تؤثر عليه الحجج.
 

لم تتضرر هيبة الردع الإسرائيلية فحسب، بل تضررت حتى الفكرة عن فاعلية سلاح الطيران ضد مقاومة تستند إلى دعم شعبي. فهو فاعل ضد أنظمة وجيوش لا تستند إلى تأييد شعبي. وتفوق إسرائيل في سلاح الطيران هو أكثر من هيبة ردع، إنه قضية استراتيجية تتجاوز الردع إلى الحرب ذاتها. وفي هذه الحرب القصيرة، الطويلة بالمفاهيم الإسرائيلية، سقط إلى جانب فاعلية سلاح الطيران في القضاء على إرادة الشعب رغم الدمار الهائل، عمودا العقيدة العسكرية الإسرائيلية: 1. مبدأ "تصدير الحرب إلى أراضي العدو وعدم السماح بإجرائها على أرض إسرائيلية"، أفشله سقوط الصواريخ بكثافة دون أن يتمكن سلاح الطيران من حل المشكلة، مما أدى إلى التدخل بريا فتعمق التورط وزاد من حدة المشكلة، و2. مبدأ "الحرب الخاطفة" الذي يعني حسم المعركة بسرعة بقصف استراتيجي أو كسر سريع للجيش المقابل؛ آلياته اتصالاته التسلسل الهرمي فيه، أو احتلال سريع يجنب إسرائيل التورط في حرب استنزاف طويلة المدى. أسقطت المقاومة هذا المبدأ، فهي بحكم تعريفها المضاد الحيوي للحرب الخاطفة. وعلى الهامش نقول أيضا أنه يجب أن يذكر ذلك كل من ينظِّر حاليا لفشل ردع المقاومة بمجرد الهجوم الإسرائيلي على لبنان.
 

فشلت إذا سياسات القوة الجارية التي حاولت إسرائيل ترميمها استراتيجيا بترميم هيبة الدرع، وفشلت الحلول الجزئية، وفشل فك الارتباط من طرف واحد. ماذا تبقى إذا بعد الحرب على لبنان؟ تبقى أحد الخيارين: إما السلام الشامل والعادل والدائم الذي لم تقبل به إسرائيل، وإما الجمود والفراغ السياسي والدبلوماسي الذي يؤدي إلى تدهور الأوضاع إلى حرب شاملة، وقد يعني ذلك في اللحظة التاريخية الراهنة تبني استراتيجية المقاومة على كافة الجبهات. وضوح الخيارات بعد الحرب على لبنان هو مأزق إسرائيل الاستراتيجي.
 

من أجل تعميق هذا المأزق يتوجب على العرب التمسك بمبادرتهم السلمية لسلام عادل ودائم دون التزحزح قيد أنملة، والكرة حاليا في الملعب الإسرائيلي. أما الخروج بمبادرات جديدة وتعديلات جديدة فتمنح إسرائيل وغيرها مخارج من المأزق في حركة دبلوماسية فارغة من المضمون وجلسات وحوارات وزيارات تبني حالة انتظار وأوهاما جديدة وتنشر الضباب وتبدد الوضوح. وبدل تبديد الوهم يتبدد الوضوح. 
 

لقد كان توقيت المبادرة العربية في حينه سيئا، إذ جاء بعد 11 أيلول من منطلق ضعف، كأنها جاءت لتثبت رغبة العرب بالسلام، أي مبادرة لتحسين صورة العرب، وصورة المملكة العربية السعودية بناء على نصائح أميركية خاصة بعد أن تعرضت لتحريض واسع ومكثف في أميركا في تلك الفترة. لقد كانت تلك عملية ابتزاز. ولذلك تحولت المبادرة إلى نقطة انطلاق لتدهور ولتنازلات جديدة بعد أول زيارات عربية تلتها إلى واشنطن حتى تحولت إلى ملاحظة هامش يشار إليها في "خارطة الطريق". 

لم تحظ المبادرة العربية بأي رد إسرائيلي إيجابي. وبدل تأكيد هذه الحقيقة، والتمسك بالمبادرة ما دامت قد أطلقت، وبدل توضيح المأزق بحيث لا تهرب منه إسرائيل مرة أخرى يتحرك العرب بعد حرب لبنان في نشر أوهام جديدة.
 

وعلى المسرح السياسي الإقليمي آلة أخرى لنشر الضباب تشبه تلك الماكينة المستخدمة لنشر الضباب الأبيض الكثيف قبل تصوير مشهد سينمائي ماطر وغائم في وضح يوم صحو. إنها صناعة العلاقات العامة للقضية الفلسطينية. بعد الحرب على العراق زار بلير فلسطين، وبعد الحرب على لبنان زارها بلير أيضا. فبعد الحروب والعدوان يبدأ موسم التحرك في الشأن الفلسطيني الذي يعلق بعد ذلك حتى الأزمة القادمة. وهي زيارات علاقات عامة متعددة الأهداف لتبييض صفحة المعتدين بعد حرب كأنها مطهر وللتحضير لائتلاف لحصار أو لحرب أخرى يصعب على العرب المشاركة فيه دون "تحريك" الملف الفلسطيني. 
 

لقد باتت صناعة العلاقات العامة تكتفي ب"تحريك" بدل حل، فالتحريك أفضل من الجمود، و"الحركة بركة"، والمهم هو الحفاظ على "العملية" مستمرة، والمقصود "عملية السلام". وتدعي هآرتس (19\9 ) أن أميركا نصحت إسرائيل أن تكتفي بمبادرات حسن نية تجاه منصب الرئاسة الفلسطيني ( هل توجد مصطلحات وعبارات كهذه في أي منطقة أخرى في العالم؟) من نوع موافقة أولمرت على الاجتماع مع الرئيس الفلسطيني، وإطلاق سراح أسرى... وهذا يكفي في هذه المرحلة لكي تستمد القوة اللازمة للعرب باستمرار المساهمة في محاصرة الحكومة الفلسطينية المنتخبة. وهو حصار يجري بتعاون عربي طوعي أو تطوعي دون أي قرار دولي يوجب ذلك؟
 

وبدل أن توضع الخيارات بوضوح أمام إسرائيل توضع أمام حكومة فلسطينية منتخبة ومحاصرة فإما أن تقبل بشروط الاعتراف بإسرائيل وباتفاقيات لم تعد إسرائيل تعترف بها، أو يستمر الحصار عليها، ويستبدل المأزق الإسرائيلي بمأزق فلسطيني يصطنع اصطناعا. 
 

التحرك العربي وصناعة العلاقات العامة للقضية الفلسطينية ينقذان إسرائيل من مأزق تاريخي. وهو مأزق لأن إسرائيل إذ تفكر بخيار الحرب الشاملة في مقابل السلام الشامل لن تختار الحرب بالضرورة، فهنالك تجارب هامة في المنطقة تثبت أن هزيمة وضع عربي قائم أو تفكيكه بالحرب ينتج أعداء أكثر خطورة للمشاريع الأميركية والإسرائيلية مع الفرق أن الأعداء الأخيرين لا يحملون ولا يملكون إمكانية طرح بدائل إيجابية لمجتمعاتهم، كما بإمكان حركات مقاومة وطنية مثل حزب الله وحماس وحلفائها أن تطرحها لو توفرت الإرادة. فهذه الأخيرة تحاول أن تطرح، وتستطيع إذا حاولت أن تطرح بدائل سياسية اجتماعية تتجاوز المقاومة والممانعة إلى آفاق من التعايش بين تيارات وطنية متعددة ملتزمة بالسيادة وطنيا ورافضة للتدخل الأجنبي.
 

وعلى إسرائيل أن تختار. ولا أذكر وضعا لم يكن فيه لدى إسرائيل أية أفكار سياسية كما هو حالها الآن. دولة دون مشروع سياسي من أي نوع لمواجهة القضايا المصيرية التي تواجهها. 
 

لم تضطر القيادة الإسرائيلية حتى الآن إلى تخيير شعبها بين السلام العادل والدائم والشامل وبين الحرب الدائمة. وهي إن خيرته بهذا الوضوح فسوف تتفاجأ من عدد من يفضلون السلام ودفع ثمن السلام. ولكن لا توجد قيادة تاريخية قادرة على ذلك في إسرائيل من ناحية، ومن ناحية أخرى يكثر العرب الذي يشغلون معاولهم ويحفرون بكل اتجاه لفتح مسارب جديدة لإسرائيل للهرب من وجه الخيارات التي تنتصب أمامها بعد حرب لبنان بإنكار نتائج الحرب وبإعادة إحياء خارطة الطريق الميتة وغيرها.