تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

فوضى السياسة الأمريكية

2006-11-23

لو اكتفى المرء بمراجعة الصحف الأميركية الرئيسية طيلة الأسبوع المنصرم لجزم أن صناع القرار في الدولة العظمى يعيشون حالة تخبط وفوضى مواقف فيما يخص القضية الرئيسية في سياستها الخارجية في فترة الرئيس بوش. والمقصود هو التدخل العسكري واحتلال العراق. وهذه بحد ذاتها حالة خطيرة قد يترتب عنها كوارث جديدة، فليس بالضرورة أن تقود الفوضى الحالية إلى استنتاجات سليمة.
 

فمن الواضح للجميع أن الفرضيات الرئيسية التي بنيت عليها السياسة التي أدت إلى هذا الاحتلال كانت خاطئة، ولكن هذا الوضوح لا يجلب معه بدائل حقيقية متحررة من هذه الأخطاء، إذ يجري البحث عن مخارج مما بات يعتبر ورطة وليس عن بدائل سياسية قائمة على مواقف مختلفة واستنتاجات مختلفة فيما يتعلق بالتعامل مع المنطقة بشكل عام.
 

لقد بررت الولايات المتحدة شن الحرب على العراق على المستوى الدولي بالأكاذيب عن دور العراق في "القاعدة" لإقناع الرأي العام الأميركي داخليا، وحتى تزوير الأدلة عن أسلحة الدمار الشامل في مجلس الأمن.اعترفت الولايات المتحدة بهذه الأكاذيب دون أن تحاسب عليها، وهذا أمر طبيعي. ولكن هنا تمت المغالطة الكبرى بالتهوين من هول الكذب في أمر كهذا بدجل يكاد يكون سينمائيا هولووديا، ويتلخص بأن الأسلوب القذر مثل أسلوب أي بطل بوليسي من نوع "ديرتي هاري" يتجاوز القانون من أجل هدف أسمى هو الإمساك بالمجرم، وفي هذه الحالة التخلص من الديكتاتورية وبناء الديمقراطية.
 

وكما يليق بدولة عظمى لم يخلُ الكذب والدجل من قاعدة نظرية شبه علمية يستند إليها. فقد سبق أن نظّرت أوساط في هذه الإدارة للعلاقة الوثيقة بين غياب الديمقراطية ووجود الاستبداد العربي بشكل خاص من جهة، ونمو الإرهاب من جهة أخرى.
 

وطبعا لم ينفع كل التفنيد النظري لهذه النظريات والفرضيات، ولا سمحت النظريات وأصحابها للوقائع أن تزعجهم. فقد ثبت بطلان الادعاءات عن أسلحة الدمار الشامل، أما "القاعدة" فقد دخلت العراق مع الاحتلال، وتوسع نطاق الإرهاب والعنف السياسي ضد المدنيين بشكل غير مسبوق. وبالنسبة للديمقراطية في العراق وأفغانستان فحدث ولا حرج. لقد انتقلت الولايات المتحدة فجأة ودون سابق إنذار، ودون تقرير يشي بأي حساب للنفس، إلى سياسة تحالفات تذكِّر بتلك التي سادت أيام الصراع بين القطبين وذلك بحجة "مكافحة الإرهاب"، بحيث يبرر التحالف مع أي نظام بغض النظر عن طبيعته بمدى فائدته في المعركة ضد الخصم الذي رفع حجما إلى مستوى الفاشية والنازية، والحرب معه إلى مستوى الحرب العالمية. وهذه النعوت الجديدة ليست مجرد غضب أو رد فعل تحريضي يفتقر بطبيعة الحال إلى الدقة، بل استخدمت لتبرير أمور كثيرة: من عدد الضحايا وحتى ضرورة التضحية، فالحرب ضد خصم يعادل الفاشية والنازية تكون عالمية، وحتى التحالفات التي تبرم تميز الحروب العالمية.
 

لقد بدأنا المغامرة الأميركية بأسطورة إسقاط الديكتاتورية كضرورة في "مكافحة الإرهاب"، وانتهينا إلى أن مكافحة الإرهاب تبرر التحالف مع الديكتاتورية.
 

كل هذا أصبح معروفا إلى درجة الضجر، لولا أنه معروف أيضا أن الولايات المتحدة ما زالت تستخدم غياب الديمقراطية والفساد نقدا على أنظمة لا تروق لها، حتى بعد أن أصبح العراق بعد الاحتلال ينافس على تصدر قائمة دول الفساد.
 

وفي الجرأة على تبديل المواقف والتنكر لها، والانتقال إلى اقتراح سياسات قوة جديدة دون رقيب أو حسيب، فلا أخ ولا مثيل لهنري كسنجر على وجه البسيطة. فهو يفعل ذلك دون تأنيب من ضمير أو تنبيه من شعور حتى بالحاجة لمنطق متماسك أو لمعيار أخلاقي متماسك، فتلميذ كارل شميت وليو شترواس لا يرى حاجة لتماسك معياري عندما يتعلق الأمر بسحق الخصم.
 

وفي مقابلة أخيرة (لوس انجلوس تايمز 19 تشرين الثاني نوفمبر الجاري) يقول كسنجر الذي أيد الحرب على العراق إن "العراق غير ناضج للديمقراطية" وأنه "على الولايات المتحدة أن تختار بين الديمقراطية والاستقرار في العراق". لم يشك أن كسنجر مخلص لنموذج تصدير الديمقراطية، فهو لا يعاني من سذاجة المحافظين الجدد. وهو مع ذلك يؤيد الرئيس الحالي ويؤيد سياسته، وتعتبره الصحيفة أحد مستشاري الرئيس ونائبه. فماذا يؤيد إذا كان لا يتفق علنا مع أهدافها المعلنة ويفندها الواحد تلو الآخر كما يجري في المقابلة. إنه في الواقع يؤيد فقط عدوانيتها ويشاركها نزعتها العامة بعدم التردد عندما يتعلق الأمر بالتدخل العسكري واستخدام القوة. وهو، كما يدعي في المقابلة، واثق من نجاحها بالمنظور التاريخي على أن يكون واضحا أن هذا لا يجري في مرحلة رئيس واحد. ولكن الغريب انه لا يجد من يسائله، إذا كانت البدائل إما الاستقرار أو الديمقراطية فلماذا أيد الحرب التي ضربت استقرار النظام، ولماذا أيد سياسة لم تؤدي لا لديمقراطية ولا لاستقرار؟
 

يقول كسنجر "إن العراق ليس أمة بالمعنى التاريخي للكلمة"، ثم يجتر ويكرر كلام القوميين عموما أن الديمقراطية يجب أن تمر بمرحلة بناء الأمة، وهو يدعو لعدم القفز عن هذه المرحلة، أي مرحلة بناء الأمة. وبدل الانتخابات وبناء الديمقراطية من أسفل كان على الولايات المتحدة برأيه أن تهتم بمكافحة "الأصولية الجهادية الإسلامية"، وأن تستعين بدول أخرى في ذلك. ويبدو أنه لا حدود للاستخدامات الممكنة لعبارة "عملية بناء الأمة". 
 

فالغريب أن عملية الانتخابات في العراق ذاتها سميت في حينه "خطوة هامة في عملية بناء الأمة". أما "الأصولية الجهادية" كما يسميها كسنجر فلم تكن قائمة في العراق كقوة سياسية قبل دخول الولايات المتحدة. إنه لتسلسل غريب للأمور، وتوال عجيب للمعطيات أن تدخل أميركا إلى بلد وتحتله وأن تُوَجَّه إليها النصائح لاعتبار مكافحة الأصولية معركتها الرئيسية في نفس هذا البلد الذي لم تكن فيه "الأصولية الجهادية" قائمة كقوة منظمة قبل الاجتياح الأميركي وعملية تفكيك الدولة. 
 

كل ما تجلى للعيان حتى الآن من عملية بناء الأمة هو تفكيك الجيش والدولة في العراق إلى طوائف وميليشيات، وعندما تبين مدى خطر الطائفية السياسية على "الاستقرار" بما فيه استقرار الاحتلال تم اللجوء إلى العشائر لتحريكها ضد القيادات الطائفية، كما يجري حالياً في الأنبار من اتصالات ضد جمعية العلماء المسلمين. ويمكن إطلاق تسميات عديدة على هذه السياسة التي تصل بالتفتيت إلى وحدات عضوية أصغر فأصغر، إلا "عملية بناء الأمة". 
 

ويستمر كسنجر بمفاجأتنا، ففظاظته وغروره والمفاخرة بانعدام الحجة لديه لا تعرف الحدود. فهو يقول إنه كان يفضل سياسة أميركية ما بعد الاحتلال على شكل"تنصيب رجل قوي من الجيش...لو فعلنا ذلك فورا لكان هذا أفضل طريق للاستمرار". صدق أو لا تصدق!! لقد تمت إزاحة صدام حسين بالحرب والاحتلال لكي يقترح تنصيب رجل قوي من الجيش بعد ذلك. وما أزاحه هذا الاقتراح هو آخر كذبة عن تقويض الديكتاتورية وبناء الديمقراطية. وربما يجب ألا يقاطعه أحد لكي يواصل كلامه وتوالي تداعياته فنكتشف مثلا أفكارا من نوع: ولم لا يكون هذا الرجل هو صدام حسين؟ فقد كان بإمكان أميركا أن تتفاهم معه دون أن تحتل العراق أصلا. وكان صدام حسين نفسه يتمنى حوارا مع أميركا وتفاهما معها بعد حرب الكويت. مثل هذا المنطق يمكن بسهولة أن يقود لمثل هذه النتيجة بعد 600 الف قتيل وبعد تخريب بلد. ولم نفهم ألهذا السبب صدر بحقه حكم الإعدام، لأنه لم يكن قويا بما فيه الكفاية؟ وهل كانت مثل هذه العقوبة ستصدر بحق الرجل الذي كان يفترض أن تنصبه أميركا؟ ولنقرأ ما يقوله كسنجر الآن: " لقد عمقت الانتخابات من الشقاق الطائفي...ومن الخطأ الاعتقاد أن الشرعية تتحقق فقط بالانتخابات". الكثير من الأنظمة العربية قال ويقول ذلك ولم "يعِبِّرها" أو "يعبِّر" منطقها هذا أحد. فمن أعطى لكسنجر ومنطقه المتغير المتدحرج، إذا صح التعبير، أفضلية عليها؟ القوة طبعا. 
 

وكيف يقترح كسنجر أن تتم عملية بناء الأمة؟ إنه يقترح دولة كونفدرالية لا مركزية تقوم على توازن مصالح بين دول أجنبية تستدعى للتوافق لهذا الغرض... هكذا بالحرف. وهكذا "بنى" كسنجر الأمة القبرصية طبعا حيث أدى اعتماد التوازن بين "الدول المعنية" إلى تقسيم الجزيرة وتهجير سكانها من قسم إلى آخر. لدى الرجل خبرة واسعة في هذا المجال. وهو يقترح لهذا الغرض مؤتمرا للدول المعنية لتأخذ دورها في وضع الحل. وبدل أن يُحَاكَم كسنجر ويلقى به في السجن على سياسات إجرامية من هذا النوع، ما زال بعد ثلاثين عاما يدلي بآرائه وما زلنا نخشى مفعول نصائحه في أماكن أخرى من العالم، وما زال يتقاضى مبالغ طائلة عن مقال أو مقابلة.
 

أما ما الذي يدفع به وبغيره للاعتقاد أن دولا مثل إيران وسوريا مستعدة للتعاون في شأن كهذا دون أخذ مصالحها الإستراتيجية بعين الاعتبار فهذا يبقى لغزا. ولكن هنالك من يتوقع ذلك في أميركا حتى بعد أن أدى فشل سياساتها إلى نشر وتداول أفكار كسنجر حول الديمقراطية والرجل القوي. 
 

الشعور العام في إسرائيل وأميركا هو أن أميركا تسدي معروفا لسوريا وإيران بمجرد أنها تحتاج لمساعدتها وتعترف بهذه الحاجة. ولكن هذا ليس الشعور السائد في البلدين، وبحق. فطالما استمرت السياسة الأميركية في فرض الحصار على الدولتين ولا تعرف سوريا ماذا يقترح بوش عليها سوى الجملة الصماء: "سوريا تعرف ما هو المطلوب منها"، ويستمر التحريض عليها في لبنان بعدائية متفاقمة بعد انسحابها منه، ويتم تجاهل أراضيها المحتلة ويتم التآمر عليها،وتحميلها مسؤولية ما تعرفه وما لا تعرفه... فليس لدى سوريا سبب لكي تقصر التعاون مع أميركا على حاجات الأخيرة الأمنية. 
 

لقد فشلت السياسة الأميركية في العراق. ولا يمكنها أن تتصرف تجاه سوريا وإيران كأنها قد نجحت. وهنالك في سوريا وإيران براغماتية كافية للحوار والتعاون إذا قدمت أميركا أفكارا إضافية تتجاوز طلب العون في العراق. وليس صحيحا أن على البلدين أن يثبتا نفسيهما أولا "ثم نر". فمن يحتاج أن يثبت نوايا حسنة هو أميركا المحتلة والمعتدية والتي لم تستمع لنصائح الدولتين بشأن احتلال العراق، والتي كانت حتى فترة قريبة تعدهما بمصير مماثل لمصير العراق.
 

لقد فشلت السياسة الأميركية في العراق. للنجاح ألف أب ومدعي أبوة، أما الفشل فيتيم مثل كل فشل، ولذلك تتقاذفه الأيدي حاليا، كل في أميركا يرميه على الآخر.
 

وكما في مثل هذه الحالات تكثر اللجان لإعادة التقييم، واحدة في البنتاغون وأخرى انبثقت عن الكونجرس. والتوصيات تتراوح بين توجيه الضربة القاضية والانسحاب، أو زيادة عدد القوات لضمان الأمن والاستقرار ثم الانسحاب بالتدريج. وسياسيا يجري الحديث عن التقسيم وعن الكونفدرالية وعن الاستعانة بدول الجوار وعن عدم الاستعانة بدول الجوار. ولكل تبريراته، مع وضد. ولا يوجد ما يضمن أن هذه النقاشات لن تؤدي إلى خطوات كارثية كما أدت النقاشات التي سبقت التدخل وحل الجيش والدولة وفتح باب جهنم على مصراعيه في العراق.
 

تزدحم الصحافة الأميركية بهذه النقاشات والاجتهادات في مرحلة تزداد فيها وطأة المقاومة والعنف الطائفي وعنف الاحتلال. ويتصاعد عدد القتلى، وقلة فقط تفطن إلى أن أربعين بالمائة من سكان العراق يعيشون في مناطق مختلطة، هكذا باتت تسمى مناطق العراق التي يعيش فيها الشيعة والسنة للأسف، وأن التقسيم يعني مذابح وتهجير. وكسنجر ما زال حيا يرزق ويعطي مقابلات ويعتبر مستشارا للرئيس.