تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

من الذي يهتم لديون العراق؟

2007-05-09

كأن عدوى الـ"عملية"، وأقصد ما يسمى عادة بعملية السلام، أو العملية السياسية قد انتقلت من فلسطين الى العراق. هنالك بشائر لعملية سياسية من النوع الذي يصبح هدفا قائما بذاته إذا لم يتوفر حل سياسي وانسدت الآفاق واشتدت وطأة الاحتلال والقمع والمعاناة. لم نعد ندري إذا كانت الوفود تتقاطر لتبحث شأن العراق، أم يستغل العراق لبحث علاقات ثنائية من نوع آخر على هامش المؤتمرات. وما "هامش" المؤتمرات من هذا النوع إلا مركزها في الواقع.
 

استقبالات يعقبها افتتاح وخطابات ثم اجتماعات. ثمة مسلسل قد انطلق، ويتضمن مؤتمراً أولاً وثانياً وثالثاً، وتساؤلات وتوقعات وتوترات تنتج وتخرج صحفيا من نوع احتمال لقاء وزيرة الخارجية الأميركية مع وزراء من حكومات دول تحب أميركا أن تسميها "راعية للإرهاب" على "هامش" المؤتمر، وقضايا أخرى لا تنتهي ويعتاش منها الخبر في مرحلة عزت فيها الأخبار السياسية الفعلية عن العراق ذاته.
 

وفي النهاية حديث وقرارت عن شطب ديون للعراق. ولا أحد يذكر أن للعراق أصلا اقتصاد وأنه مدين، هل تعمل بالفعل في العراق بنوك دائنة ومدينة وميزانية دولة وعجز تجاري. ولنفترض أن العراق مدين ولن يدفع ديونه، ماذا تراهم فاعلين؟ هل سوف يحاصرون العراق ويفرضون عليه العقوبات أم سوف يحتلون العراق مثلا؟ يقول المثل العامي المحكي في بلدنا "أكثر من القرد ما مسخ الله"، فماذا لدى العراق ليخسره لو جن جنون أحدهم على ديونه وليس على دمائه. يكاد المرء يجن أن هنالك من جلس وبحث وبحث وبحث، فلم يجد سوى مشكلة ديون العراق لينجح في حلها. أي عراق وأي ديون؟
 

لقد غرق العراق بالدم والفساد والسرقة والنهب والقتل والسطو والمطامع الصغيرة والكبيرة واستغلال الطوائف مطايا للتحشيد والتنافس بين أشخاص بلا ضمائر، فيختتم مؤتمر أعماله متحدثا عن الديون، وليس هنالك من يعرف الفرق بين الفساد والديون، والعجز المالي والسرقة، والاستبداد والاحتلال، والإرهاب والمقاومة...أي عراق وأي ديون؟ 
 

هؤلاء الذين جعلوا العراق الغني الأبي فعلا يشحذ ويتسول، هؤلاء الذين جعلوا أبناء العراق وعلماء العراق يتشتتون في أصقاع الأرض كلها حفاظا على حياتهم، هؤلاء الذي لم يتمكنوا بعد سنوات على سقوط بغداد من إيصال النفط الى محطات الوقود في العراق نفسه، هؤلاء الذين لا يستطيعون حتى الآن تشغيل مولدات تكفي حاجة العراق من الكهرباء يتحدثون عن شطب وإعادة جدولة ديون العراق.. أي عراق وأي ديون؟
 

وفوق كل ذلك يستغل العراق كحلبة تحسين أرصدة إقليمية في مواجهة المشروع الأميركي أو تحسين المواقع في إطار نفس المشروع، أو غير ذلك. المهم أن العراق الممزق المتشظي النازف ليس هو الموضوع. 
 

لقد افتتحت عملية جديدة توهم بتنبي توصيات سياسية من نوع توصيات بيكر هاملتون، ولكن تنفيذها يخرج إخراجا كما تخرج المؤتمرات ويجهز لها. وكما يخرج نقد الفساد إخراجا يتكرر الحديث الممل عن الإصلاح والشفافية والمحاسبة مثل لازمة، فيما يمارس الفساد بكل شفافية. وفيما يسفك الدم دون أن يفهمنا أحد من مؤيدي تلك الحرب في حينه الملوحين بالحرب ضد إيران حاليا عن السبب في أنهم لم يفقدوا القدرة على الكلام، ولماذا لم تلتصق ألسنتهم في حلوقهم ولماذا لم يجف الحبر في أقلامهم بعد ان جفت حتى الدموع في مآقي أطفال العراق.
 

وكأننا أمام "عملية" جديدة، عملية سلام سوف تتكرر حلقات اجتماعاتها ومؤتمراتها، وسوف يتكرر اهتمام الصحافة بكل اتصال يليها ويعد للمؤتمر المقبل. نقول ذلك لأن الولايات المتحدة بحاجة لعملية ومبعوثين ومؤتمرات حين ترسل عشرات آلاف الجنود إلى العراق ليصبوا الزيت على نار تلك الجحيم.
 

هنالك طبعا منطق في محاورة دول الجوار بشأن العراق. ولكن الحوار الحالي بين الولابات المتحدة ودول الجوار يتلخص في محاولة الأولى جرهم نحو موقف من المقاومة العراقية أقرب إلى موقف الاحتلال، وإلى موقف من الحكومة المركزية يؤدي إلى تسهيل شؤونها وتمكينها من العمل.
 

أما من ناحية هذه الدول فيتلخص الحوار بمقايضة هذا الموقف المرغوب أميركيا مع قضاياها المعلقة وهمومها هي مع الولايات المتحدة. هذه سياسة، وبهذا المعنى فإن "العملية السياسية" الجارية بشأن العراق لا تشمل كلمة السياسة بمعناها المختلف والمتميز عن "العمليات الحربية"، أي "عملية سياسية" بدل الحرب، بل السياسة بمعناها الأصلي المتلخص بالعمل على أساس مصالح الدول والحكومات. ولذلك حال انتهاء المؤتمر سمع فورا عن تنفيذ الولايات المتحدة نيتها بإضافة آلاف الجنود في العراق، أما صدى التفجيرات فزلزل المنطقة كلها.
 

ولا تتناقض خطوة من نوع زيادة عدد الجنود مع نقد هاملتون وبيكر وضباط استمع اليهما الأخيران على سياسة رامسفيلد. فقد انتقد رامسفيلد منذ بداية الغزو على الغرور الكامن في احتلال العراق بهذا العدد القليل من الجنود تطبيقا لنظرية عدم استغلال كل طاقات الجيش الأميركي في حرب واحدة، وتمكين أميركا من شن حروب أخرى إذا لزم. كان رامسفيلد مقتنعا أن أميركا بعدتها وعديديها سوف تكون مضطرة لخوض عدة حروب في نفس الوقت، وأن عليه ان يثبت إمكانية ذلك في أي حرب، وذلك بقصف شديد يليه انزال متفوق ضد نظام متداع، ولكن بعدد من الجنود يقل عما يلح عليه الجنرالات. وخلافا لما يعتقد البعض كان النقد على رامفسيلد نقدا على غروره واستخفافه المعبر عنه بقلة عدة الجنود، لقد طالب النقاد بأعداد أكبر وليس أقل. 
 

يخطئ طبعا من يقدر النقاد من داخل المؤسسة الحاكمة في الدول الغربية أخلاقيا إذ يسقط عليهم نقد ضحاياها، إذ غالبا ما يعتبرون حلفاء أو يتم تصويرهم أكثر إنسانية من صناع القرار الذين ينتقدونهم. إنهم في الواقع يديرون سياسة مصالح حزبية أو فردية واقعية ضد خصومهم المحليين في الإدارة كما تدير دول الجوار سياسة مصالح مع الولايات المتحدة في "العملية السياسية". وفي أفضل الحالات يسمع نقد جدي من منطلق المصالح العليا والأمن القومي الأميركي. وهنا تخلط الضحية بين الصرامة في التعامل مع ما يمس الأمن القومي الأميركي البادية على وجوه بيكر وهاملتون وبين المسؤولية الإنسانية. فهي غير قائمة إلا في الأذهان. 
 

لم نسمع لا بيولسي ولا غيرها من نقاد الحرب من داخل المؤسسة ينتقدون الجرائم الأميركية في العراق بجدية، أو يذرفون الدموع السياسية العلنية على غير الجنود الأميركيين. ويتوجه نقدهم كله لاستقطاب الرأي العام بناء على تزايد عدد الجنود الأميركيين الذين يسقطون في العراق دون تحقيق أي هدف، ودون أفق لنجاح العدوان. وحتى الموت، موت الجنود الأميركيين لم يكن ليعصر دمعة واحدة من عيونهم لو كان مقترنا بانتصار. ولذلك قلنا دموعا سياسية.
 

ليست تحفظات بيكر هاملتون على الحرب ناجمة عن نظرة أكثر إنسانية للعراق وشعب العراق، ولا هي ناجمة عن رفض العدوان، بل عن فشل إدارة المحافظين الجدد للعدوان، ونقد رئيس وكالة المخابرات المركزية الأميركية الأسبق تينيت يكمله إذ ينتقد القرار بالعدوان ويتبرأ من الأكاذيب التي لفقت لتبريره. فالنقدان وغيرهما مما سوف يكتب عن القرار بشن الحرب على العراق وإدارتها والمصالح الاستراتيجة والنفطية التي كمنت خلفها ونظريات نشر الديمقراطية البائسة التي تممتها، كلها تنطلق من فشل العدوان على العراق. وكما قلنا في حالة لجنة فينوغراد في إسرائيل: مع أنها تعالج الأخطاء عادة بأثر رجعي، فإن الفشل وليس الخطأ هو أبو لجان التحقيق، وهو المسؤول عن تشكيلها. ليست المشكلة بالنسبة للنقاد من داخل النظام في الأخطاء التي ارتكبت بل في الفشل في تنفيذ السياسة. ولو نجح العدوان على العراق نتيجة لعدم وجود طاقة مقاومة مجتمعية عراقية مثلا، ولو تم النجاح بنفس الأخطاء المنتقدة حاليا في إدارة العدوان وبنفس الثمن الذي يدفعه الشعب العراقي وبنفس حمام الدم، لما ارتفعت أصوات رسمية أميركية تنتقد الحرب من داخل المؤسسة. الفشل هو السبب. ويعود الفشل لوجود مقاومة.
 

ونعود هنا إلى دول الجوار. لقد أفشلت المقاومة العراقية العدوان الأميركي كما افشلت جزءاً من أهدافه العراقية والإقليمية، ولكنها لم تنتصر بعد. لم يتحول الفشل إلى انتصار بعد. ولن يكون ذلك ممكنا دون محاربة الطائفية ودون اتفاق دول الجوار دون وصاية أميركية. وعلى كل حال، إذا كان فشل العدوان الأميركي يعني تقسيم العراق بعد انسحابه فإن هذا الفشل العسكري سوف يعني نجاحا سياسيا أميركيا. بل أكثر من ذلك، إنه يذكرنا أنه فشل في السيطرة ولكنه لم يفشل ولا حتى عسكريا في تحطيم العراق. ومن هنا فإن ترجمة الفشل العسكري الأميركي الذي أدى الى كل هذا النقد وهذه التقارير وهذه الحوارات الموصوفة أعلاه مع دول الجوار إلى انتصار على السياسة الأميركية يمر عبر اقتران الانسحاب الأميركي بالحفاظ على وحدة العراق.
 

ويحتاج هذا الجهد إلى عنصرين أساسيين. أولا، دول الجوار التي يجب أن تدفعها مصالحها المشتركة في الحفاظ على وحدة العراق أن تتفاهم فيما بينها على الاعتراف بعروبة العراق ومواطنته العراقية المتميزة في الوقت ذاته للعرب وغير العرب، والحقوق جماعية للأكراد فيه وفي إطاره. الاتفاق على وحدته يعني عدم استخدام الفوراق الطائفية فيه لتوسيع نفوذها هي على حسابه. هذا هو الحوار الذي يجب أن يجري بين دول الجوار دون رعاية أميركية. ليس هذا وعظا بل هنالك منطق مصالح يدفعها إلى ذلك يتلخص بتقديم البديل الإقليمي عن التدخل العسكري الأميركي المؤدي إلى تفتيت دول المنطقة. وكلها عرضة للسياسات التفكيكية التفتيتية بالتآمر دون عدوان أو تهيئة لعدوان أو من خلال عدوان عليها.
 

أما العنصر الثاني فهو تفاهم فصائل المقاومة العراقية على وحدة العراق بأكثريته العربية وبأكراده، وتوجيه المقاومة والعمل النضالي حتى لو لم يشمل كل الطوائف على هذا الأساس. ومن الأفضل طبعا أن يشمل كل الطوائف. ولا نرى حلولا سحرية دون ذلك. لا يمكن محاربة الطائفية والتقسيم الطائفي إلا باتباع سياسة مقاومة غير طائفية بل معادية للطائفية ومقاومة تحويلها إلى طائفية سياسية. عندما تدفع القوى المؤيدة للاحتلال بسياساتها نحو التقسيم الطائفي تصبح معاداة الطائفية مبادئ عليا للمقاومة.