عزمي بشارة
جسّد عمير بيرتس أزمة حزب «العمل»، أولاً بانتخابه رئيسا للحزب، وثانيا بقبوله منصب وزير الأمن ما وصف أنه محاولة من أولمرت لتحويله إلى وزير ضعيف أمام جنرالات أقوياء. في هذه الحرب سعى بيرتس إلى قلب هذه الصورة عبر تصريحات ماتشوية (رجولية) وتوزيع التهديدات يمنة ويساراً، فتحول إلى كاريكاتير عن وزير أمن قوي ما جعله أداة مطواعة تماما في أيدي الجنرالات.
من ناحية أخرى كان وجود بيرتس في وزارة الأمن، وحزب «العمل» في الحكومة في هذه الأجواء من أسباب عدم وجود أية معارضة واسعة للحرب في إسرائيل. إذ انضوى «اليسار الصهيوني» تحت إجماع لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. ونذكر أن يوسي بيلين دعا في بداية الحرب إلى ضرب سورية. وفقط في الأسبوع الأخير، ومع وصول الأخبار عن حال الجنود في جبهة القتال وعدد القتلى جاءت صحوة «اليسار الصهيوني» ليقينه انه لن يتحقق انجاز عسكري، بل ستعود الحملة البرية بضحايا بالجملة، ومن هنا ارتفاع صوته معارضا مع بدء المعركة البرية. كما منح وجود بيرتس في وزارة الأمن وغيره من معتدلي حزب العمل ونشطاء «السلام الآن» السابقين مثل يولي تمير وزيرة المعارف غطاء للحرب على المستوى الدولي أيضا. في حينه صرخ هؤلاء في المظاهرات أن شارون قاتل. كان هذا صحيحاً، ولكن شارون لم يقتل بيديه بل أعطى الأوامر لتدميرٍ اقل كثافة مما شهده لبنان خلال 33 يوماً. ولذلك فمن حق اللبناني أن يقول بوضوح إن بيرتس هو القاتل كما كان شارون هو القاتل في مجزرة صبرا وشاتيلا، ليس بمعنى أنه قتل بيديه بل بمعنى انه على رأس الهرم الذي يتحمل مسؤولية القتل.
كان انتخاب بيرتس زعيمًا للعمل بحد ذاته تعبيرا عن أزمة هذا الحزب. فهو لم يستحق بالمقاييس الإسرائيلية أن يكون زعيم الحزب لكنه حاز على منصبه بعد أن بدا وكأنه جاء إلى الحزب بأجندة عدالة اجتماعية في وقت لم تكن لدى الحزب أجندة سياسية. وتم التركيز في الدعاية الانتخابية على أصل بيرتس الشرقي ونشاطه النقابي ليضفي مسحة اجتماعية على رسالة الحزب خاصة بعد أن غاب مشروعه السياسي، ونقصد بالتحديد بعد انهيار المشروع السياسي الذي قاد باراك الحزب إليه بعد فشل المفاوضات مع سورية وفشل مغامرة كامب ديفيد مع القيادة الفلسطينية والإعلان عن عدم وجود شريك وبدء سياسة الإملاءات من طرف واحد. وكان تأسيس شارون لـ «كاديما» تجسيداً لمغادرة الأجندة السياسية والمفاوضات مع العرب الخريطة الحزبية الإسرائيلية لتحل محلها اللعبة الوحيدة في المدينة، لعبة فك الارتباط والانطواء والانكفاء. وما أن أصبح بيرتس وزيراً للأمن حتى قضى على الأجندة الاجتماعية في هذه الحرب الجنونية. فالخسائر الاقتصادية الناتجة عن الحرب ستقلص مصاريف كل الوزارات لصالح تعويض المناطق المتضررة ولصالح الجيش. وبالمقابل لم يصبح بيرتس قائد جيوش ولا آمراً عسكرياً، وكان من السهل أن يُحَمَّل مسؤولية ما جرى في الحرب بسبب قلة خبرته العسكرية. لقد خسر حزب العمل العالمين: عالم السياسات الاجتماعية والأمنية. لم يعد بيرتس نقابيا ولم يصبح الإسكندر الكبير. وسياسياً ليس في جعبة «العمل» أفكار يقدمها للإسرائيليين. وربما انتبه بيرتس إلى هذه الحقيقة، فأطلق فجأة تصريحات حاول فيها طرح خيار سياسي مع سورية. ودفع مجرد طرحه فكرة التفاوض معها أولمرت لإخراسه وقمعه باعتبار سورية ضلعاً في «محور الشر» يمنع التفاوض معها، لأن هذا قرار أميركي.
وفي تصريحاته التي رد فيها على وزير أمنه (بيرتس) وعلى وزير أمنه الداخلي (رئيس الشاباك السابق ديختر) ردد أولمرت الموقف الأميركي من التفاوض مع سورية بحذافيره، مطالبا أن تتوقف سورية أولاً عن دعم الارهاب، «ثم نرى»! وهو موقف علق عمليا ملف المفاوضات السورية. وبرأي الكثيرين في إسرائيل يتحمل هذا الموقف الأميركي المستمر منذ 11 أيلول (سبتمبر)، ومنذ رفض سورية الانضواء تحت الموقف الرسمي العربي فيما يتعلق بالعدوان الأميركي على العراق، ومنذ زيارة كولن باول إلى دمشق وحتى اليوم المسؤولية عما آلت إليه الأمور على ما يسميه الإسرائيليون «الجبهة الشمالية».
ولا ندري هل تعني العودة المقترحة إلى «مدريد 2» بداية خطابية جديدة قد تصل في أفضل الحالات إلى الاحتفال العربي الذي واكب خريطة الطريق، أم هو مبادرة جديدة، ولماذا يحتاج السوريون إلى مبادرة جديدة ما داموا قد وصلوا إلى ما وصلت إليه المفاوضات مع إسرائيل. من الواضح أن البالونات الإسرائيلية الجديدة تعكس بالإضافة إلى أزمة الطريق السياسي بعد فشل فك الارتباط فحصا إسرائيلياً واهماً لتغير الموقف السوري بشأن اقتراحات باراك وفحصا لمدى صرامة رد الفعل الأميركي. على كل حال وجدت إسرائيل نفسها للمرة الأولى في حالة تحول مصالحها المباشرة إلى تفاصيل في الأجندة الإمبراطورية الكونية. فأميركا ترى في محاربة «حزب الله» وسورية مجرد مراحل في «الحرب على الإرهاب» والحرب على كل من يقف ممانعاً ضد السياسة الأميركية. أما المصالح الإسرائيلية المباشرة مثل وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى فتبدو تفاصيل يجب أن تضحي بها إسرائيل.
وربما كانت هذه أول مرة في تاريخ الصراع يكون فيها على إسرائيل إذا قررت أن تفاوض سورية أن تقنع أميركا بضرورة هذا التفاوض. لقد جر بوش الأب ووزير خارجيته بيكر اسحق شامير إلى مدريد جراً. أما أولمرت، فحتى لو قرر التفاوض، ولا اعتقد انه يمتلك القوة والحكمة اللازمتين ليقرر، فسيكون عليه أن يقنع بوش الابن.
وضع حزب «كاديما» ليس أفضل من وضع حزب العمل. فالأول ليس حزبا أصلا، ليس له طريق إيديولوجي ولم يعقد حتى مؤتمرا، ولم ينتخب هيئات دستورية مقررة. إنه فريق من السياسيين الطموحين والانتهازيين الذين التقوا حول شارون من مختلف الأحزاب على قاعدة سياسية، ليست برنامجا بأي معنى، هي فك الارتباط. ومنهم من هرع الى شارون بعد أن أدرك أن الليكود أو العمل لن يرشحاه، ومنهم المعرض لمحاكمات فساد ورشاوى، ومنهم نجوم المؤسسة الأكاديمية الطامحون سياسيا وخريجو الأجهزة الأمنية تجمعهم الرغبة أن يضمنوا مقاعد في حزب السلطة. الأمر الوحيد الذي حصل لهذا الحزب منذ انتخابه أنه فقد «برنامجه السياسي» حتى قبل أن يعقد مؤتمرا، إذا اعتبرنا فك الارتباط برنامجا، فقد نسفته التطورات في غزة ولبنان. مسألة انحلال هذا الحزب هي مسألة وقت. وما يبقيه في السلطة هو معرفته ومعرفة حزب العمل ماذا تعني الانتخابات لهما بموجب الاستطلاعات الحالية. تمسكه بالسلطة هو نتيجة خوفه من الانتخابات.
اقتنص هذا الحزب أصوات حركة «شينوي» اليمينية العلمانية كلها وجزءا من أصوات الليكود والعمل. هويته علمانية صدامية، أو صقرية، ضد الفلسطينيين والعرب، وقد طبعه شارون بطابعه الأمني. وفقد هذا الحزب تميزه الأمني في الحرب الأخيرة، إذ بدا غير قادر على تلبية طموحات قواعده العلمانية اليمينية التي تؤمن بالجيش. والجيش والخصخصة والسوق والنجاح والعلاقة مع أميركا هي مقدساتها الوحيدة المتبقية.
القيمون على الصحف الرئيسية الثلاث هم مرآة هذا التيار المركزي في إسرائيل. لقد تصرفت الصحافة الاسرائيلية بشكل معبأ ومجند للحرب مثل التيار العلماني المركزي الإسرائيلي نفسه الذي يعتبر نفسه متنوراً ويشمل الصحافة بشكل عام. محتكرو الحكمة والتنور هؤلاء رأوا في الحرب كما يبدو فرصة لتأكيد ذاتهم وهويتهم. فالقوى التي تواجهها إسرائيل في الشمال والجنوب هذه المرة هي بنظرهم «قوى دينية إسلامية ظلامية». ومع زوال احتلال لبنان عام 2000 فإن إسرائيل من نفس المنظور لم تعد ضحية ومعتدى عليها فقط، بل يعتبر أصحاب هذا الرأي أن الحرب الأخيرة هي «الحرب العادلة» التي طالما تمنوها واشتاقوا إليها، لقد افتقدوها منذ حرب عام 1967 التي اعتبروها جميعا حرب دفاع استباقية عادلة. وأخيرا وصلت حربهم العادلة، وكم كانت فرحتهم بها عظيمة!
إسرائيل في هذه الحرب هي بالنسبة اليهم جزء من «قوى الخير» العالمية في مواجهة «قوى الشر»، ومن دواعي سعادتهم أنَّ هذه الحرب تضعهم بشكل واضح إلى جانب الغرب في مواجهة الشرق. فالغرب لم يتح لهم سعادة ونشوة الوقوف الى جانبه علنا ضد العراق وأفغانستان، كان يخجل من وجودهم معه، وكان هذا يغيظهم كثيرا. إنها أيضا مناسبة تاريخية للتحرر من معادلة دولة الاحتلال ضد شعبٍ واقع تحت الاحتلال. لقد كان هؤلاء العلمانيون الليبراليون في الحياة الداخلية الإسرائيلية هم الأكثر حماساً لفك الارتباط، وهم الآن الأكثر حماسا للحرب لأنها تشكل أيضا تأكيداً على هويتهم العلمانية والغربية في وجه «الأصوليين» في غزة ولبنان والعالم. ولا بد أن يعني هذا برأيي أيضا تأكيد هذه الهوية داخل إسرائيل ذاتها. وإذا اتقنوا الحرب وخرجوا منها منتصرين فسيكون ذلك أيضا انتصارا على الظلاميين والمتدينين في إسرائيل ذاتها ولصالح فك الارتباط. لقد حاول هؤلاء أن يكونوا أكثر حربجية في طروحاتهم من العسكر واليمين. كان الكتاب والصحافيون الرئيسيون المحسوبون على التيار العلماني والليبرالي مؤيدين للحرب بشكل علني وتحريضي. وكادوا يضعون في مقالاتهم الخطط العسكرية للجيش، ونظَّروا لعدم الاكتراث لمصير القرى والبلدات المهدمة ولحياة المدنيين في لبنان. وبرأينا فقد ساهم موقفهم هذا مساهمة واضحة في عملية صنع القرار. لم يكونوا مجرد صحافيين. وعندما قال دان مرغليت في اليوم الاول للحرب أنه اعتقد في البداية أنها عملية خطف يعقبها رد يعقبه تبادل، ثم غير رأيه بعد المؤتمر الصحافي لحسن نصرالله وقرر أنها الحرب، لم يتكلم كصحافي بل كممثل نخب متداخلة. لقد طالبوا القيادة بالحزم في الحرب والعودة بانتصار مما سموه «الحرب العادلة بين حروب إسرائيل». ولكنهم خرجوا ملطخين بدماء الكثير الكثير من الأطفال، أما النتائج العسكرية فانتهت الى ما لا يشتهون، وهي لا تمكنهم من استثمارها لا داخليا ولا خارجيا. لقد خابوا وخابت آمالهم لأن القيادة الإسرائيلية لم تستغل «عظمة اللحظة التاريخية» التي منحها الغرب وأميركا لإسرائيل. كل عناصر الهوية الذاتية لهم ولإسرائيل كما يريدونها أن تكون، كل ما تمنوه كان متوفرا في هذه الحرب. وقد خاب أملهم من عدم تحقيق إسرائيل إنجازات تذكر.
وبدا ان ما ميز هذه الحرب هو سوء الإدارة وقلة التدبير والتردد في صنع القرار. وهذا ما يناقش حاليا داخل الديموقراطية الإسرائيلية المبجلة. وخلافا للقضايا الجوهرية التي تناقش في لبنان ضد ومع المقاومة ونهجها، لا تناقش برأينا في إسرائيل أية قضية جوهرية فعلا، بل مسائل فنية متعلقة بسوء الإدارة وسوء عملية صنع القرار. ولا وجود لموقف مبدئي حقيقي وواسع ضد الحرب، أو ضد النهج الإسرائيلي الذي أدى الى الحرب.
لقد تعودوا أن يخوضوا حروباً من دون ضحايا. وهم يلومون الحكومة على أمرين متناقضين، إنهم يلومونها على كثرة الضحايا، ويلومونها على أن عدد الضحايا ردعها عن الاستمرار. إنهم يريدون المزايدة بالتضحية، ثم يريدون حرباً من دون ضحايا. وهذه ديماغوجية حروب يمينية معروفة تستفيد منها القوى الفاشية في المجتمع.
ومهما ارتفعت الأصوات الناقدة ومهما تفاقم تذمر جنود الاحتياط ومهما احتدم احتجاج أهالي القتلى فإنه لم يصل إلى ربع مستوى الاحتجاج الذي تبع حرب تشرين الأول (اكتوبر) 1973 وتبعته استنتاجات لجنة تحقيق رسمية بشأن مسؤولية المخابرات العسكرية عن المفاجأة، ومسؤولية الوزير ورئيس الوزراء عن عدم أخذ التحذيرات بجدية وغيرها. وبعدها بأربع سنوات جرى الانقلاب الانتخابي الكبير بوصول الليكود الى السلطة. هذا النوع من الانتقادات الجاري توجيهه حاليا يضاف اليه التسليم بعدالة الحرب ويضاف إليه نقد السياسيين والصحافيين يفضي إلى نتانياهو وليبرمان.
والأدهى أنه تبين أن تيار «المتنورين» اليمينيين العلمانيين قد فقد موقعه كنخبة قتالية. وفي ما عدا سلاح الطيران واستمرار أعضاء الكيبوتسات بالتطوع للوحدات القتالية غصت هذه الوحدات من نوع «غولاني»، التي لم تعد وحدة نخبة كما يعتقد، بجنود من المتدينين واليهود الشرقيين والمهاجرين الروس والمستوطنين المدججين بالدوافع القومجية والدينية المتطرفة. هؤلاء هم الذي سيقودون عملية الاحتجاج أيضا ولن يسمحوا أن تتجه الى مطلب السلام. ليس هذا الإحصاء بديلا لبحث علمي ولكني قرأت بتمعن قائمة القتلى الإسرائيليين من الجنود مع اسمائهم ومناطق سكنهم الخ، فوجدت من بين 117 جندياً اثنين فقط من تل ابيب (أحدهما مهاجر فرنسي) ومع بقاء عدد الذين سقطوا من أبناء الكيبوتسات والقرى الزراعية (موشافيم) كبيرا نسبيا (حوالي العشرين) إلا ان تسعة من الجنود القتلى جاؤوا من مستوطنات الضفة الغربية القليلة السكان، ثلاثة من مستوطنة «عيلي» المتطرفة وحدها، وخمسة عشر من بين الجنود القتلى هم من القادمين الجدد.