عزمي بشارة
ديفيد بروكس، أحد أشد المتحمسين للحرب الأميركية على العراق لغرض بناء الديمقراطية أو لغيرها من الأهداف المتبدلة، استبدل حماسته بنزعة لقراءة تاريخ العراق. ففي مقاله الذي يستنتج عدم جدوى العراق كدولة إذا ثبت عدم جدوى السياسة الأميركية في العراق ( «نيويورك تايمز» 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 2006 ) تحول بروكس إلى قارئ معجب بالمؤرخ إيلي خدوري الذي يعرفه هو «كيهودي عراقي ولد وعاش في بغداد» في العشرينات من القرن الماضي. وقد قرأ مقالته التي أعيد نشرها أخيراً، عام 2004، مع مقدمة من دافيد بيرسي جونز. وهو ينصح صانع القرارات في واشنطن أن يطلع على الكتاب ما دام مقبلاً على اتخاذ قرارات. بعراق ومن دون عراق يؤمن الكاتب خدوري وصاحب المقدمة بتناقض الثقافة العربية والإسلامية مع الديموقراطية. والحقيقة انه لا معنى لمواجهة بروكس بالادعاء أن مثل هذه الدراسات كثير ولا يختص بها إيلي خدوري الذي يتميز بكراهيته للمجتمعات العربية. وما دام صانع القرار الأميركي مطلعاً على مثل هذه الدراسات (سبق أن نشرت محتويات كتاب خدوري في دوريات عدة وككتاب في العام 1970)، فلماذا وقع في خطأ شن الحرب لإعادة بناء الدولة والنظام في العراق ومن أجل الديموقراطية؟ فبموجب هذه النظرية كان من العقم الاعتقاد بدولة فكم بالحري بديموقراطية في العراق؟
لا شك أن بعض مثقفي المحافظين الجدد الخائبين في أيامنا سيتهمون بوش بالسذاجة والبساطة في تطبيق نظرياتهم. وهي السذاجة نفسها التي طالما تغنوا بتشبيهها بمثيلاتها من صفات رونالد ريغان التي ساعدته على عدم تصديق الخبراء والمضي قدماً بـ «فعل ما هو صحيح ضد الشيوعية». ربما يعترف بعضهم أن الهدف لم يكن بناء الديموقراطية بل الاحتلال، وأن الأهداف منه «متدحرجة» على حد تعبير إسرائيل في حربها على لبنان. ويشتم الهدف القادم من استلال مقالة خدوري هذه التي بين فيها عقم الجهد البريطاني في بناء الدولة العراقية والهوية العراقية، وان الانتماءات الممكنة في العراق هي الانتماءات الدينية المذهبية والقبلية.
كل من يدعو إلى حل الدولة في العراق كما تحل جمعية أو حزب أو شركة محدودة الضمان يذكر هذه المقالة عن تاريخ العراق. وقد انتبه إليها بالطبع الباحثون الإسرائيليون قبل الصحافيين الأميركيين. الدكتور آشر ساسار أشار أيضاً إليها في معرض توقعه انحلال العراق بعد الحرب وصعود الانتماءات ما قبل الوطنية بعد ضرب الدولة العراقية، ويتوقع ذلك لدول عربية أخرى في المنطقة، ( «ميدل ايست كوورترلي» خريف 2003).
إذا كانت النظريات تتلخص بأن تاريخ العراق هو تاريخ لصراع سني - شيعي وقبلي مما يجعل الاستبداد ضرورة لحفظ الأمن وكيان أي دولة في تلك المنطقة فلا حاجة للعودة إلى إيلي خدوري ومن الأفضل العودة إلى الحجاج بن يوسف الثقفي كما يفعل بعض العرب في مسامراتهم الديوانية، وما على المالكي أو خليل زاد أو قائد القوات الأميركية في العراق إلا أن ينشد: «انا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني» ثم يتابع قائلاً: «يا أهل العراق يا اهل النفاق والشقاق... يا أهل الكوفة إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها»، وإن الرئيس الأميركي «نثر كِنانته بين يديه، فعجم عيدانها فوجدني أمرّها عودا، وأصلبها مكْسِراً فرماكم بي، لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة، واضطجعتم في مراقد الضلالة»، و «إن جورج دبليو بوش أمرني بـ...» إلى نهاية الخطبة.
لا تعود أزمة الهويات في المشرق العربي إلى عصور سحيقة فهي أزمة حديثة. والقومية وعملية بناء الدولة والأمة ليست نظرية تنكر وجود طوائف وعشائر بل هي جواب على تحديات بناء مجتمع حديث. والمشكلة اليوم تكمن في فرض البنية القبلية والطائفية انتماءً سياسيا على العراق وأهله. الناس لا يولدون أمة، الأمة تبنى. وكي تبنى الأمة لا يكتفي أصحاب المشروع بالبحث في التاريخ أنها لم تكن، وأن ما كان هو الطوائف والعشائر، وما كان هو ما سيكون، كما يعتقد المستشرقون. وكان دأب أصحاب المشروع العربي الحديث بناء القومية العربية لتشكل أساسا للكيان السياسي وللمواطنة، وربما للديموقراطية في ما بعد.
وفي العراق وفي بقية دول المشرق العربي حاول الاستعمار بناء الهوية القطرية العراقية مثل غيرها ليس في مكان القبيلة والطائفة بل على أساسهما وضد القومية معتمداً على الأقليات، أو ما صنفه هو كأقليات في بناء الجيش. ثم يتداولون بعد ما يقارب القرن على سايكس بيكو الادعاء بأن هذه الدول القطرية قد فشلت. ولكنهم حاربوا البديل الوحيد الجدي الحي والممكن لهذه الدولة القطرية واعتبروه الخطر الرئيسي وهو العروبة. والآن يدعون إما الى فيديرالية أو إلى زيادة الجنود والقمع في العراق لمحاولة أخيرة للحفاظ على وحدة الدولة قبل إلغائها كما يقول بروكس «to end Iraq». وهو لا يقصد بهذه العبارة إنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق كما يستخدمها مرشح الرئاسة سابقاً جون كيري، بل يقصد حرفيا «إنهاء العراق».
وبالفعل فإن بروكس الذي أيد الحرب يدعو اولاً في مقالته التي اشرنا اليها إلى إقالة رامسفيلد، كما يدعو إلى زيادة عدد الجنود في بغداد وحدها بثلاثين ألفا، وفعل كل ما يجب لضبط الأمن. وهكذا، خلافاً لما هو متوقع، قد تعني إقالة أو استقالة رامسفيلد زيادة عدد القوات وزيادة التورط في وضع الخطط للنصر، ولا يتناقض هذا السلوك مع الدعوة الى الحوار مع سورية وإيران بشأن دورهما في العراق. ولا بد ان القارئ النبيه يذكر انتقاد رامسفيلد في أول أسبوع من الحرب لانه لم يخصص عددا كافيا من القوات للعراق وأنه دخل المعركة مستهتراً. وتتلخص النظرية الحالية بفعل كل شيء للانتصار وفرض الفيديرالية، أي ترك العراق يتقسم.
لقد هوجم القوميون العرب في الغرب في الدوائر المحافظة والنيو-ليبرالية بشكل خاص لأنهم رأوا أنه في المشرق العربي المقسم استعماريا لن تتمكن الدولة القطرية من ملء فراغ الهوية وعملية بناء الأمة اللازمة. فماذا كانت النتيجة؟ تم تهميش القومية العربية السياسية إلى أن تطرفت وازدادت راديكالية على المستوى الإيديولوجي كلما زاد ترسيخ الانقسام والشرذمة بين الأقطار العربية خصوصاً بعد حرب 1967. وفي الوقت الذي بدأ فيه نظام صدام حسين يشدد على الهوية العراقية والتاريخ البابلي ويركب تاريخاً عراقياً خاصاً، ويسمي صحيفة النظام الرسمية «بابل»، تحولت الدولة القطرية إلى هدف للتفكيك من قبل المجموعات نفسها التي هاجمت الهوية العربية سابقاً ولاحقاً. وهي تدعي حاليا أن هذه الدولة يجب أن تتحول إلى فيديرالية طوائف، تُمَوًّه كفيديرالية إقليمية في العراق، أو «إنهاء العراق». أما الهوية العربية كجامع بين أهل العراق العرب ومتعايشة مع وجود أقليات غير عربية يجب أن يعترف بها وبحقوقها، فلا تخطر بالبال. هاجموا القومية العربية كعدو أول ثم انتحلوا نقدها الدولة القطرية وطائفيتها وعشائريتها وعائليتها، وكرروا هذا النقد كي يطالبوا بالاعتراف بالعائلات والعشائر والطوائف كتعددية وحيدة ممكنة. أما الدولة والأمة فليس من حق العرب أن يستنتجوا ضرورتهما من نقد البنى الاجتماعية القائمة ما قبل الحداثة، كما استنتج ذلك أي أوروبي متنور في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
يحاول منظّرو الاحتلال حالياً نشر ثلاثة افتراءات تبسيطية مختلقة تختزل تاريخ العراق بشكل فظ: نظام البعث هو نظام سني تعرض الشيعة في ظله للظلم فاستنجدوا بأميركا وبريطانيا، ومقاومة الاحتلال هي حرب طائفية سنية ضد الشيعة. وحاجتهم للتغطية على الفشل حالياً لا تختلف عن حاجتهم لفرية سلاح الدمار الشامل، مع الفرق أنهم في هذه الحالة يساهمون في إنتاج سلاح دمار شامل ضد العراق والمشرق العربي كله.
لم تكن الأحزاب القومية واليسارية وغيرها مجرد أغطية لطوائف. فقد مرت على العراق ونخبه وجماهيره مراحل هيمنت فيها فعلاً أفكار أخرى غير الطائفية. وعلى رغم وجود الطائفية في المجتمع، فإن القوى السياسية الصاعدة التي تنظم ذاتها لتحقيق مشاريع كانت قوى تحمل أفكارا أخرى. ولم تكن الحكومات العراقية السابقة حكومات طائفية، ولم تكن تسمح حتى بتسجيل المذهب على أي وثيقة رسمية، وكان استخدام الانتماء للطائفة يعتبر عيبا وربما جريمة وانحرافاً عن الموقف السليم. وبالعكس، ربما ساهم هذا القمع للطائفة من قبل المشاريع الأخرى في تطرف الطائفيين الحالي كأنهم يدافعون عن هوية مقموعة. ولم يحكم نظام صدام حسين بواسطة السنّة بل بجهاز المخابرات والحزب من شيعة وسنة. وكذلك كانت المعارضات على أنواعها، وهي لم تبدأ بانتفاضة شيعية بعد حرب الكويت. ولا شك أن ممارسات النظام القمعية تفاقمت في المناطق الشيعية وضد الرموز الدينية خاصة إبان وبعد الحرب على إيران عندما طرح النظام التأكيد على الهوية الشيعية كأنه مسألة ولاء. ولكن رغم الاستثناءات المعروفة لم يقاتل مئات الآلاف من الجنود الشيعة في صفوف جيشهم الوطني ضد إيران تحت ضغط القمع وحده.
ما كان مسؤولو الحكومات العراقية من مراحل سابقة يحبون أن نصنفهم على هذا النحو، ولكن الطائفية تفرض تصنيفاً طائفياً بأثر تراجعي حتى على من عاش ومات من دون أن يكون طائفياً، ومن دون أن يلعب هذا الموضوع دوراً بالنسبة له. عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف، الأول يصنف على أنه شيعي والثاني سنّي، وناجي طالب الشيعي أصبح رئيس حكومة عارف، ومؤسس حزب البعث مسيحي أصلاً، وأحد وجوهه البارزين، طارق عزيز كذلك، وكان فؤاد الركابي أول مسؤول للحزب على مستوى العراق شيعياً، وفي العام 1963 كان جميع أعضاء القيادة القطرية المدنيين من الشيعة. وقد تقلد منصب رئيس الحكومة طيلة حكم البعث ثلاثة: أحمد حسين خضير السني وسعدون حمادي ومحمد حمزة الزبيدي الشيعيان، وكان هذا حال رئاسة المجلس الوطني بنعيم حداد وسعدون حمادي. وليس صدفة أن الناس تجهل أن وزير الخارجية ثم الإعلام العراقي الأخير محمد سعيد الصحاف بـ «مآثره» شيعي أيضاً. من يتكلم عن شيعة وسنة سياسيا في التاريخ العراقي لا يهمه أن يعرف بالتأكيد أسماء الشيعة الذين أمضوا حياتهم في العمل من أجل تحقيق الوحدة العربية أمثال الشيخ محمد مهدي كبة رئيس حزب الاستقلال، وطالب شبيب وشمس الدين كاظم وحازم جواد ومعاذ عبد الرحيم، واحمد الحبوبي، وعلي عبد الحسين، وأمير الحلو، وراسم العوادي ومحمود الشيخ راضي، وفاضل الأنصاري، وموسى الحسيني، وعبد الإله النصراوي وغيرهم. ولا جدوى من هذا التكرار للأسماء ليس فقط لأنه لا يغير مزاجا طائفيا، وليس فقط لأنه يوقع الكاتب في فخ تقسيم التاريخ طائفيا، بل لأن أي طائفي معاصر قد يدعي أن المسؤول الحزبي أو الرسمي من «طائفته» لم يملك صلاحية. ونحن نقول لم يكن الوضع دائما على نهج صدام حسين في الإدارة والاستئثار بالصلاحية، لا في الحزب ولا في الدولة. ولكن حتى عندما تم الاستئثار، فإنه لم يكن استئثاراً سنياً ضد الشيعة، بل استئثار طغمة عسكرية مختلطة في الحزب والدولة تقاطعت مع ولاء وانتماء عشائري لها.
وقد تعاملت الحكومات السابقة بالقمع والقسوة مع المعارضة، ومع كل من شكَّت بولائه. وذهبت ضحية ذلك قيادات وبسطاء من كل الطوائف. لقد قتل البعثيون محمد عايش وعدنان حسين ورفاقهما وغيرهما كثير حتى مقتل الفريق محمد مظلوم الدليمي وشاكر فزع الزوبعي وراجي التكريتي. وأول من قتل بعد التعذيب من الرموز الدينية الشيخ عبدالعزيز البدري السامرائي وبعده بأكثر من عشر سنوات تم إعدام السيد محمد باقر الصدر.
ولمن يتذكر كان الهجوم الأصولي السني والشيعي يوجه ضد «النظام العلماني» في العراق، وكان الإعلام الإيراني يربط باستمرار بين الاغتيالين ليثبت أن نظام البعث كان يحارب الإسلام سنة وشيعة. فهل يذكر الإعلام الإيراني حاليا اسم البدري؟ لقد باتت الطائفية عند الحديث عن تاريخ العراق طائفية سياسية سافرة. كما تحذف المواجهات المسلحة ضد الحكومة في الفلوجة في السبعينات (انتفاضة الدراويش)، وكذلك انتفاضة مدينة الرمادي أثناء تشييع جثمان محمد مظلوم المذكور أعلاه.
تتطلب مهمة هيمنة الطائفية السياسية وانكشاف المجتمعات أمام سلاح استعماري ضد المشرق العربي كله ليس فقط ذاكرة جماعية بل نسيان جماعي أيضاً.