عزمي بشارة
خلافا للانطباع السائد ليس من جديد في احتفال إسرائيل المكثف بما يسمى استقلالها. وتحتفل إسرائيل بيوم نكبة الشعب الفلسطيني بحسب التقويم العبري مما يفصل الموعدين رمزيا، موعد النكبة وموعد استقلالها. ويعتبر ما يسمى ب"يوم الاستقلال" أحد الأعياد المدنية التي تبنى بواسطتها الديانة الوطنية الإسرائيلية الجديدة المدنية- الدينية، وتتشابك فيها الميثولوجيا الدينية بالقيم القومية العلمانية بقيم الاستيطان وأساطير الآباء المؤسسين للدولة بالعسكرتارية. ويتميز هذا اليوم بشعائر واحتفالات تفوق احتفالات أي من دول العالم الأخرى بتأسيسها. وهي تفوق بما لا يقاس احتفالات الشعوب العربية باستقلال دولها. تحمل مقارنة كهذه إذا أجريت أكثر من مغزى حول شرعية الكيانات في نظر الشعوب. فطابع الاحتفالات الإسرائيلية شعبي وليس رسمي فحسب. والأهل يصطحبون أبناءهم للاحتفالات المحلية والمهرجانات وغيرها.
وتبث وسائل الإعلام برامج وأفلام وأناشيد لا تنتهي مما يساهم في خلق ذاكرة إسرائيلية جماعية حول ما يسمى ب"حرب التحرير" عام 1948. ويزورون في اليوم ذاته وحدات الجيش في المعسكرات، والمتاحف العسكرية إضافة الى النزهات المنظمة في الطبيعة. هذه شعائر قومية دينية عسكرية باتت تقاليد ممأسسة تتكرر كل عام. ويبرز من بينها وقوف الشعب كله دقيقة مع إطلاق صفارة الإنذار على روح الضحايا قبل الاحتفالات بيوم. "يوم الاستقلال" في إسرائيل هو عيد لا يفوقه من الأعياد الدينية من حيث المشاركة الشعبية الا "يوم الغفران". وهو ليس يوم عيد، بل يوم صوم وندم وتوبة دينية.
أما من ناحية العرب فلم يحيِ العرب ذكرى النكبة كما فعلوا في عامها الستين. وقد ساهم الإعلام الفضائي في تكثيف الانطباع بإحياء الذكرى هذه المرة. ولكن إضافة إلى ذلك لا بد ان نذكر أن الإحياء الشعبي الفلسطيني والعربي قد تضمن نوعا من الرد المحق على التقاطر غير المسبوق من قبل زعماء غربيين وغير غربيين وفي مقدمتهم رئيس الولايات المتحدة الأميركية إلى القدس للاحتفال بما يسمى "استقلال إسرائيل".
ولم يؤثر الخلاف الفلسطيني الفلسطيني الخطير على إصرار العرب والفلسطينيين في هذه المناسبة على التعبير عن تمسكهم بحق العودة. فقد ارتبطت النكبة كقضية تشريد شعب من أرضه وسرقة وطنه بحق العودة. وهو الحق الذي اعترف به العالم قبل أن تنشأ حتى منظمة التحرير الفلسطينية وفتح، فضلا عن حماس بنت العشرين عاما، ناهيك بالخلاف بينهما، وهو ابن أوسلو والسلطة الفلسطينية، ابن الانفصال عن عام النكبة وذكرى النكبة.
ورب سائل يسأل عن معنى هذا التمسك بذكرى النكبة وإحيائها في أسبوع لاقى فيه الآلاف حتفهم في زلزال في الصين، وفيما يذكرنا العراق بالنكبات غير الطبيعية من صنع البشر. نكبة احتلال وتخريب العراق نكبة بلد عربي تفوق فلسطين في عدد الضحايا. وليس الشعب الفلسطيني "شعب الله المختار" لكي تميز نكبته وتحظى باهتمام أكبر. بالعكس تماما فإنه من عوامل خصوصية الشعب الفلسطيني هو أولا، أنه ليس شعب الله المختار بل ضحية من يعتبر نفسه "شعب الله المختار"، وثانيا أن قضية فلسطين من تشعبات قضايا أخرى، وقد أخضعت لها فقد تعقدت بتعقيدات المسألة العربية وحالة الدول العربية وعلاقاتها في الشرق، وبالمسألة اليهودية في الغرب، وثالثا أنها آخر قضية استعمارية غير محلولة...
ولأنها تحظى بإجماع الشعوب المستعمرة سابقا، وخاصة العربية منها، فقد تحولت إلى قناة ومتنفس للتعبير عن معاناتهم بشكل عام. فحُمِّلَت القضية الفلسطينية قدرًا من الرمزية لا يحمله البشر العاديون دون أن يتقمصوا هذه الرمزية، فساهمت الرمزية و"صناعة القضية" فعلا في إفساد جيل كامل من قيادة الشعب الفلسطيني.
ولا شك ان حجم المعاناة الإنسانية التي مر بها أبناء وبنات الشعب الفلسطيني باحتلال وسرقة وطنهم وفي اللجوء ثم الاحتلال المجدد هي أبعاد هامة من أبعاد النكبة... خاصة وأنها مستمرة دون حل في الأفق. ولكن أهميتها السياسية التاريخية وإسقاطاتها على الشعوب العربية كانت وما زالت أكبر من ذلك بكثير.
فاحتلال فلسطين وقيام إسرائيل هي عقدة في التاريخ العربي الحديث. وهي جرح ما زال مفتوحا يلتهب، ولا يفتأ يزود الساحة العربية بكافة أنواع الذرائع للإيديولوجيات العدمية والرفضية من جهة، وللاستسلام من جهة أخرى. لا يمكن فهم هذا الوعي الملتهب دون نكبة فلسطين ومكانها في الوعي العربي. وهي قبل كل شيء أهم تجسيد للتشظي والتنافر وإعاقة الوحدة العربية في المشرق العربي وبين المشرق والمغرب.
ويذكر الانشعال ب"معنى النكبة" وسؤال "لماذا وقعت؟" بسؤال التنوير العربي الذي لا جواب له "لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون؟". فقائمة الأسباب التاريخية الممكنة المؤدية إلى تكون ظاهرة تشكل لائحة غير متناهية. وسؤال "لماذا؟" التاريخي لا إجابة عنه شافية، ومن الأفضل التركيز على أسئلة مثل: ماذا حصل؟ وماذا علينا أن نفعل؟ وكيف نتقدم نحو الهدف المحدد؟ أما سؤال "لماذا؟" فمن الأفضل ان يبقى سؤالا فلسفيا وأخلاقيا، تعتبر الإجابة عليه معيارية.
بات بحث العرب بعد النكبة عن الخيار القومي العربي ليس لذاته، بل كأداة في مواجهة كارثة النكبة، وعن الخيار الديمقراطي ليس لذاته بل لمواجهة تحدي الهزيمة عام 1967. وحتى الخيار الديني الذي يطرح نفسه كإيديولوجية سياسية لم يسلم من اعتبار ذاته الطريق الوحيد لمواجهة سلسلة النكبات والنكسات. لقد اعتُبِر الموضوع مسألة تحد وكرامة، ولذلك طرحت الخيارات السياسية والثقافية كأنها مجرد أدوات في مواجهة تحدي القضية الفلسطينية. وتغيرت تفسيرات"معنى النكبة" بموجب القوى التي طرحت نفسها كبديل على الساحة العربية، ولكن التحدي بقي هو ذاته لا يتغير، ثابتاً قدرياً أزلياً وهازئاً من اختلاف الأدوات التي باتت تُهزَم في إدارة مجتمعاتها ذاتها قبل أن تُجَرَّب على هذا التحدي.
لم يخطر بالبال أن إسرائيل لم تطور خيارها القومي كأسلوب في مواجهة العرب بل من أجل ذاتها، لأنه الطريق الوحيد لتنظيم الدولة الحديثة. كان هذا هو هدفها. والدولة هدف ووسيلة في آن معا: في عملية بناء الأمة. كان الخيار القومي هدفاً بالنسبة إلى الحركة الصهيونية. وغاب عن البال أن إسرائيل لم تعتمد قواعد اللعبة الديمقراطية وسيادة القانون داخلياً لأنها أفضل الأدوات في مواجهة العرب، بل من أجل ذاتها، لأن الديمقراطية، كخيار سياسي – ثقافي وكعلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة، هي قرار وطريق تختاره النخبة السياسية الثقافية لنوع الإنسان الذي تريده والمجتمع الذي تبغيه في دولتها هي دولة اليهود، لا من أجل العرب ولا ضدهم. وبقيت ثوابت: الأمن ويهودية الدولة و"جمع الشتات" والعلاقة الاستراتيجية مع الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة ثوابت تدور لعبة الائتلافات والمعارضات في داخلها. (فقط للتنويه: "الشتات" كلمة دينية جرت صهينتها ولا تعني إلا أن "أرض إسرائيل" هي وطن اليهود التاريخي، ووجود اليهود في الخارج هو حالة شتات أو منفى. ولذلك فإننا ننصح الكتاب والمثقفين العرب الا يكرروا هذا التعبير. فاليهود في بلدانهم ودولهم مواطنون، وليسوا شتاتا لوطن أصلي هو ارض إسرائيل).
علينا أن نسأل إذاً عن معنى الخيار القومي وعملية بناء الأمة، وعن معنى الديمقراطية وسيادة القانون، وعن معنى كرامة الإنسان والمواطن من أجل ذاتها. علينا أن نسأل عن معنى القبلية والعائلية السياسية والفساد، وتناقضها جميعا مع الحداثة والتحديث ومع الإدارة الحديثة للدول وبناء المؤسسات ومبدأ الإنسان المناسب في المكان المناسب، ومع عملية اتخاذ القرار بناء على اعتبارات في الموضوع وليس خارج الموضوع – علينا أن نسأل هذه الأسئلة. ولكنها لا تسأل كاشتقاقات من الصراع مع إسرائيل أو كأسباب للنكبة، بل علينا أن نسألها لذاتها ولذاتنا – وحتى لو كانت هنالك علاقة تاريخية بين الموضوعين يجب الفصل بينهما بنيوياً لكي تتغير العلاقة الأداتية مع هذه المواضيع. فإرادة مقاومة الاحتلال ورفض إسرائيل لا ترتبط بها بالضرورة، ولأن ربط أسئلة الحداثة نفسها بمسألة الصراع مع إسرائيل يحولها الى أدوات سياسية وإيديولوجية.
يذكِّر سؤال المنكوبين عن معنى لنكبتهم بتساؤل أصدقاء المتوفى المذهولين وقد تحلقوا في بيت العزاء عن معنى وفاته، ولماذا هو بالذات، ولماذا لم يستمع للنصيحة ويقلع عن التدخين مثلا؟ إلى أن تأتيهم ملاحظة أحد المتذاكين عادة في مثل هذه المناسبات عن صديق له يدخن ولم يمت حتى اليوم، مفتتحاً لذلك سلسلة من التفسيرات لمعنى الموت لا تنتهي إلا بإعلانات مثل "تعددت الأسباب والموت واحد" و"هذا قدر الله لا رادّ له". عندها يصبح التفسير ندباً.
لم تكن نكبة فلسطين موتاً أو قدراً محتوماً بالطبع، ولكن لا معنى لاشتقاق مهمات المجتمع العربي من معناها المزعوم. فنحن عموما لا نعيش لكي نواجه الموت ولا الكوارث، بل نعيش لأننا نفترض أن للحياة معنى، وإذا كان للموت من معنى فهو مشتق من فقدان معنى الحياة.
وكما أن مهمات المجتمع العربي الحديث غير مشتقة من النكبة، كذلك فإن فهم سبب النكبة المباشر والعيني لا يحتاج بالضرورة الى كل هذا التحليل عن فجوة الحداثة وفجوة المؤسسات بين الصهيونية والمجتمعات والشعوب العربية. فقد كان بإمكان العرب كما كانوا الانتصار على المشروع كما كان في بداياته لو توفرت الإرادة السياسية. ولذلك يسأل السؤال بحق: الم يكن بإمكان الدول والشعوب العربية بوضعها المجتمعي الذي كان ان تحارب افضل عام 1948 وعام 1967 لو توفرت الإرادة. اليست هي نفس الشعوب التي حاربت افضل عام 1968 و 1969 إبان حرب الاستنزاف على القنال وحرب 1973 و 2000 و 2006؟ لقد حارب العرب أفضل دون ان يأخذوا اقتراحات المحللين والمعلقين حول العوائق البنوية والمجتمعية والتخلف بعين الاعتبار. لم تتوفر الإرادة السياسية عام 1948 ولم تتح لهم فرصة القتال عام 1967. وعندما دخلت الأنظمة الحرب عام 1948 فقد دخلتها ضد بعضها البعض وليس ضد الدولة اليهودية.
هذا لا يعني ان التحديث وبناء مؤسسات الدولة الحديثة غير مهم، بل هم مهم كهدف وكوسيلة، ولكن الهزيمة لم تكن حتمية في وضع العرب كما كان وكما هو الآن. لقد انتصرت حركات تحرر عند شعوب أكثر تخلفا، وقاومت الاحتلال دول أقل تقدما من الدول العربية. والمشروع الصهيوني قبل عام 1967 لم يكن مشروعا مضمونا لا عودة فيه. ولو توفرت الإرادة العربية لأمكن فعل الكثير، وبهذا المعنى فإن القضية العربية هي جوهر القضية الفلسطينية وليس العكس.
* نشرت أجزاء من هذا المقال عام 1998 في الذكرى الخمسين للنكبة تحت عنوان" في البحث عن معنى للنكبة". وللأسف لم يكن المؤلف (د.عزمي بشارة) بحاجة الى تعديل هذه الأجزاء بعد عشرة أعوام على كتابتها. وطبعا يتضمن المقال أجزاء وافكار إضافية جديدة..