عزمي بشارة
توالت مؤخرا تداعيات انتخاب نتنياهو واتضاح طبيعة العلاقات الأميركية الإسرائيلية للمرة الألف حتى في عهد أوباما. وبالعامية "حاصت" القوى السياسية الفلسطينية، أو دارت في مكانها بعصبية وحيرة ضاربة أخماسا بأسداس. وتتالى الإدلاء بمواقف وتصريحات جسيمة تعبِّر عن حالة من عدم الارتياح الشديد. واستنجد رئيس السلطة الفلسطينية بما يسمى "المجتمع الدولي" لأنه لا يمكنه الاستمرار بهذه الطريقة ملوّحا بإمكانية عدم ترشحه (عدم رغبته في الترشح مرة أخرى).
وفي غضون أسبوعين تطرّق ناطقون باسم السلطة مرة إلى إمكانية حل السلطة، ومرة إلى حل الدولة الواحدة، وثالثة إلى التوجه إلى مجلس الأمن لترسيم حدود الدولة الفلسطينية، أي لترسيم حدود الرابع من حزيران. وهي حدود معروفة لا تحتاج إلى ترسيم. لأنها هي هي خطوط الهدنة التي رسمتها المعركة، ووقع عليها في رودس مع الجيش الأردني عام 1949، وأهمها خطوط الهدنة داخل القدس نفسها.. وخرائطها موجودة جاهزة في الأرشيفات. هي إذا خطوط واضحة خلافا لحدود التقسيم 1947 التي رسمتها وصاغتها الأمم المتحدة من لا شيء. وصارت هي أيضا خرائط في الأرشيفات.
ومع أن التوجه إلى مجلس الأمن تحول من "أضعف الإيمان" الذي تسخر منه الثورة الفلسطينية إلى خيارٍ يهدِّد به الفلسطينيون خصومهم، فإن هذا الخيار الأخير هو الأكثر جدية من ناحية السلطة والأكثر انسجاما مع إستراتيجيتها. أما الخيارات الأخرى فلا تنسجم ضمن تصورها لنفسها وللعالم، وهي تشبه التلويح والتهديد في مشادة أكثر مما تشبه التكتيك السياسي، ناهيك عن الإستراتيجية.
فالدولة الواحدة هي حلٌ يُطرَحُ لمصلحةِ الشعبين. وعلى من يجِدّ في مثل هذا الحل أن يُقنِع، لا أن يهدّدَ به، وكأنه يهدد بحرب لا يقصدها أصلا كي يُنَفِّرَ منه. فلا نحصد من هذا التلويح سوى أن خيار الدولة الواحدة خيار سيئ يُلَوَّح به للتخويف. الضرر اللاحق بهذه الفكرة جراء هذا الاستخدام هو ضرر جسيم.
أما فكرة حل السلطة فحبّذا لو كانت واقعية، وكان حلها ممكنا. فلا أفضل لمسار أوسلو من عودة التاريخ إلى الوراء كأنه لم يكن. ولا أفضل للمقاومة من عودة إسرائيل للاهتمام بالقمامة وتأمين العمل والصحة والتعليم بالحد الأدنى من واجبات الدولة المحتلة وعودة فصائل المنظمة بالمقابل للاهتمام بالمقاومة.
ولكن هيهات، فالتاريخ لا يعود القهقرى. وعلى أية حال، فإن السلطة هي كل ما يملكه أربابها وربابنتها وربيبوها. ولن يتخلوا عنها. وإذا تخلوا (في خيالنا الجامح طبعا) فلن تقبل إسرائيل أن تعود للاحتلال المباشر، وستنشأ حالة فراغ تملأه الأجهزة الأمنية. والمرشحون لـ"إنقاذ الشعب الفلسطيني" من حالة الفوضى بدعم غربي وإسرائيلي همُ كثُر.
أما اقتراح التوجه إلى مجلس الأمن لاستخلاص قرار بإقامة دولة وترسيم حدودها، فهو خيار أكثر جدية إذ ينسجم مع عالم ولغة أصحابه السياسية. هذا وإن أدى إلى معاناة التقاط الصور التي لا يرغبون فيها مع قادة عالم ثالثيين شعبويين (في رأي الكاتب أيضا) من أمثال شافيز بعد التعود على الصور في البيت الأبيض. ولكنه للأسف عبارة عن تخريجة، وليس مخرجا مشرفا.
والتخريجة غير موجودة في لسان العرب، ولكن عبقرية العامية الدارجة جمعت فيها دلالتين: ما تفعله الأم لتخرج اللعنات والأرواح التي تؤمن بها من عالم طفلها المريض الناجم عن اللعنات، كما تؤمن به هي، والتخريجة في هذه الحالة سحر وشعوذة، وما يفعله المرء للاحتيال بصيغ تبدو كأنها مخرج ولكنها ليست مخرجا فعليا. نحن نتحدث في الحالين عن محاولة التأثير على الواقع بالالتفاف عليه بالسحر والشعوذة وخفة اليد.
وهي ليست مشرِّفةً لأنها تعبر عن مأزقِ سلطةٍ لا يمكنها العودةَ للمفاوضات، ولا يمكنها العيش سياسيا دون مفاوضات. ومن هنا فهي تستدر عطفا ودعما. أقطابها يتحركون دوليا لتحريك الأوضاع في نوع من الحركة الدبلوماسية غير المدعومة بخيارات بديلة لخيار التفاوض.
وبالتالي فإن "العالم" لا يرى تهديدا، كما لم تهتز قصبة لنفس هذا "العالم" (وهو في عرفهم أميركا وأوروبا) عندما أعلن رئيس السلطة الفلسطينية "عدم رغبته" في ترشيح نفسه. لقد استخدموه ولا يبدو أنهم سيذرفون عليه دمعة، بل سيفكرون فورا في البديل. فهو عزيز فعلا، ولكن معزّته ليس شخصية... حليفهم في مأزق هذا صحيح، ولكنه لا يهدد بالعودة للانتفاضة، ولا حتى للحجر.
وبالتالي فإن الحركة في مجلس الأمن محرجة قليلا له و"للعالم". ولكنها في النهاية سوف تنتهي. ويعودون إلى نفس المأزق. فمجلس الأمن لا يغيِّر موازين القوى، ولا الواقع على الأرض، ولا حتى حين يرسل قوات لتغيير الواقع وإسقاط دول. فحينها لا يقوم مجلس الأمن بتغيير الواقع، بل تقوم بذلك الولايات المتحدة وحلفاؤها عبر استخدام مجلس الأمن.
ولا يبدو أن الولايات المتحدة عازمة على استخدام مجلس الأمن لإقرار فرض عقوبات على إسرائيل، ناهيك عن إرسال قوات لتحرير مناطق الضفة الغربية والقدس التي سيعلنها مجلسُ الأمن دولةً. وبالعكس فإن هنالك احتمالا جديا بأن تحبط قرارَه باستخدام حق النقض، باعتبار اقتراح القرار الفلسطيني هو دعوة "للتدخل" في المفاوضات التي ترعاها الولايات المتحدة بين "الطرفين". ومؤخرا قام ميتشل الذي أكثرت بعض "الصحافة العربية الخفيفة" (أو باختصار "الصخافة") من التغني بأصوله العربية، قام، لا فض فوه ولا عشم يثنوه، بتهنئة نتنياهو على تخفيف الاستيطان.
ومنذ أوسلو تصر الولايات المتحدة على أن على الهيئات الدولية ألا تتدخل في عملية السلام، وأن تترك "الطرفين" يتفقان. وهذا المنطق هو أحد أهم أبعاد أوسلو من ناحية إسرائيل. ففي أوسلو خرجت (م ت ف) عن تقليد تطبيق القرارات الدولية إلى المفاوضات بين "طرفين" كاملي الإرادة، متساويين كذبا، متكافئين زورا، بوسيط محايد زورا وبهتانا، ألا وهو الولايات المتحدة. وها هي السلطة تدرك للمرة الألف منذ عقدين أنها في ورطة ومأزق. وهي تحاول استثارة الشفقة أو التعاطف القائم على تقدير موقفها وضرورة إنقاذها.
وفي كل مرة تعود فيها السلطة لاستدعاء المجتمع الدولي الذي همَّشته، أو إلى التضامن الذي هدمته بمعاولها تجد أن قسما كبيرا من الدول التي كانت حليفة للشعب الفلسطيني استغلت أوسلو لتنظم علاقاتها مع إسرائيل (والهند فقط حالة من هذه الحالات). ولكن غيرها كثير، كما لوحظ مؤخرا من زيارة تسيبي لفني المعيبة إلى المغرب. وهي وزيرة خارجية إسرائيل إبان حربها على لبنان وعلى غزة.
على كل حال لنفترض أن مجلس الأمن أقر التوجه الفلسطيني. ماذا سوف يحصل بعدها؟ لقد أقرت هيئة الأمم المتحدة حدودا أفضل بكثير هي حدود التقسيم لعام 1947. ووافقت عليها الحركة الصهيونية في حينه، فماذا حصل؟ احتلت إسرائيل غالبية القسم المقرر أن تقوم عليه دولة عربية في فلسطين. سيكون القرار المقترح تراجعا عن قرار التقسيم، وهو القرار الدولي الوحيد الذي يتضمن حدودا مرسمة بين الكيانين. وسيكون دون حق العودة. ولن تطبق إسرائيل قرار مجلس الأمن، بل سوف تدعو السلطة إلى العودة للتفاوض لأنه لا شيء يلزمها سوى المفاوضات برعاية أميركية.
لقد أعلنت دولة فلسطينية عام 1988 في الجزائر. ولكن قلة تذكر أن الإعلان جاء بناء على قرار التقسيم عام 1947. أما الإعلان الحالي فيرغب في أن يأتي بناء على قرار مجلس الأمن على حدود 1967. أي أن السلطة "تهدد" إسرائيل بالتراجع عن الإعلان السابق، ولتهتز أركان الهيكل. وسوف تبقى السلطة في حدودها الحالية. أي أنها سوف تتحول في أفضل الحالات إلى دولة محاصرة بحدود مؤقتة على نمط اقتراح موفاز. ولكنه سوف يبدو كأنه إنجاز وتحدّ.
ويستشهد البعض بالغضب الإسرائيلي من التحرك الفلسطيني لإثبات صحته. هذا ليس دليلا على الإطلاق. فمن الطبيعي أن تعارض إسرائيل، لتحصّل ما هو أفضل لها دائما. فهذه الدولة خلافا للعرب ترى في كل شيء خسارة لها، وتنازلا منها، ولا تتوقف عن البكاء والتمسكن، حتى حين يرى العرب قرار مجلس الأمن انتصارا لهم، رغم أنه لن يطبق.
إن أي مخرج مشرف يتطلب تغييرا ما في الإستراتيجية التي قادت إلى المأزق.
حين تصل قيادة إلى وضع تهدد فيه بالاستقالة وتخرج من لدنها في الوقت ذاته ثلاث إستراتيجيات متضاربة فلا يعني هذا سوى أنها في مأزق. ومأزق القيادة السياسية إذا ارتبط بخيار سياسي يكاد يكون تاريخيا، ودافعت عنه وربطت مصيرها ومستقبلها به في مرحلة تاريخية معينة، هو مأزق لهذا الخيار. وإذا تورط قسم كبير من نخب الشعب الفلسطيني وجمهوره في هذا الخيار، فإن المأزق هو مأزق شعبي. والشماتة في مثل هذه الحالة هي حماقة، فحال مرتكبها كحال المتشفي بمأساته.
تتطلب المسؤولية السياسية إذا حوارا عربيا وفلسطينيا للبحث عن مخارج. وأقول مخارج مشرفة، وليس حلولا ولا إستراتيجيات. لأن الإستراتيجية في رأي الكاتب غير مرتبطة بالوعظ والتبشير، بل بالهدف، وبمقومات هذه الإستراتيجية المادية وعناصرها وحَمَلَتِها، وبالإرادة أيضا. وهذه كلها لا يمكن فرضها.
ففي رأيي لا يوجد حل لقضية فلسطين، ناهيك عن حلول، بل إما أن توجد إستراتيجية مواجهة عربية أو لا توجد. والمقاومة هي حالة بينية لا بد من توفرها إلى أن توجد إستراتيجية مواجهة عربية. ومهمة المقاومة هي تحرير الأرض بالمعنى القطري للكلمة، ومنع تحوّل إسرائيل إلى حالة طبيعية في المنطقة، وتقديم نماذج ناجحة في مواجهة إسرائيل، وتقديم الدليل على أن هذه المواجهة ممكنة، وتطوير إرادة المجتمعات العربية، ومنع فرض حلول غير عادلة... وغيرها.
وقد حقّقت المقاومة إنجازات في هذه المجالات. ولا يمكن فرض حلول أو إستراتيجيات على من تبنّى حتى الآن إستراتيجية محدّدة جدا مناقضة لما نقترح. ولكن لا بد من طرح المخارج عليه لكي لا تُفَسَّر الأمورُ بأن جزءًا من الشعب الفلسطيني ينتظر فشل الجزء الآخر ليتفرج على عملية سقوطه، أو ذهابه في طريق الفشل إلى نهايةٍ يدفع الجميع ثمنها. فقد وُقِّعَ أوسلو، ولكن من دفع ثمنه هو من وقَّعه ومن عارضه، وحبذا لو طرحت مخارج لعدم توقيعه من قبل الدول العربية، بدلا عن الدفع باتجاهه أو انتظار فشله.
لن تعود السلطة الفلسطينية إلى خيار المقاومة. وما زالت الدول العربية غير راغبة في تبني خيار المواجهة من جديد. وهو في رأينا أمر لا بد من حصوله في النهاية بهذه الأنظمة أو بدونها، فإن أي تحديث وتطوير للعالم العربي، وأي نهوض ديمقراطي، وأي نهضة، وحتى أي إلغاء للتأشيرات بين الدول العربية سوف يؤدي إلى التصادم مع إسرائيل.
ولكن في هذه الأثناء، كيف يمكن أن تقترح على جزء كبير من الشعب الفلسطيني مخارج مشرّفة؟ لا بد أولا من الاعتراف بفشل طريق أوسلو. والتلويح الجدي يكون بالعودة إلى الوحدة الوطنية الفلسطينية وإقامة حكومة وحدة وطنية فلسطينية. هذا تهديد، وهو تهديد جدي، ويجب أن يُنَفَّذ. لأن البديل قاد إلى مأزق. ثم لا بد من وضع برنامج سياسي مشترك يلزم الجميع، وذلك في مقابل تخلي السلطة عن التنسيق الأمني مع إسرائيل.
أما بالنسبة للعودة إلى المفاوضات. فلا عودة إلى المسارات المنفصلة لأنها تتيح لإسرائيل الاستفراد بكل طرف على حدة بل وخلق وهم حول وجود تنافس معيب ليس له وجود بين المسارات. ومن هنا فإن أي خيار تفاوضي لا بد أن يكون بمنطق مبادرة السلام العربية الشاملة لفلسطين وسوريا ولبنان سوية. إذ لا يمكن التفاوض على القدس وعلى حق العودة فلسطينيا، ولا يجوز أن توقع سوريا ولبنان اتفاقيات سلام مع إسرائيل بناء على حدود الرابع من حزيران، ودون حق العودة. ومن يشكك في نوايا سوريا فليلزمها بالتنسيق معه من خلال حكومة وحدة وطنية فلسطينية، وفي مسار تفاوضي عربي واحد.
لن تقبل إسرائيل بما نطرحه هنا للآخرين كمخرج. فكاتب هذه السطور يرى أصلا أنه يجب إلغاء مبادرة السلام العربية. ولكنه كلام مطروح كمخرج لغيرنا بمنطقه هو، منطق التفاوض، وليس بمنطق كاتب هذا المقال. ولكنه لو كان منطقا متماسكا على الأقل، فسوف يطرح مخرجا مشرفا. في حالة فشل مثل هذه المبادرة، وسوف تفشل، يجب أن تدعو الدول العربية الأردن ومصر إلى إلغاء السلام المنفرد مع إسرائيل. فقط في مثل هذه الحالة تطرح خيارات بديلة، خيارات مواجهة، يقود إليها منطق التفاوض. وهي تحول المأزق إلى مأزق إسرائيلي وأميركي.
وهي تطرح حلا لاستعادة التضامن العربي بلغة لا يريد النظام الرسمي العربي حاليا التخلي عنها. حسنا، من لا يريد التخلي عن منطق التفاوض فليطْرَحه على الأقل بشكلٍ ناجعٍ يحرجُ ويقلق إسرائيل وأميركا فعلا، ويلزم العرب بطرح خيارات أخرى. وباختصار لا مخرج مشرفا دون التخلي عن مسار أوسلو.