أنور الجمعاوي
كتابة تاريخ الحاضر عربيا مشروعٌ تحيط به عدة عقبات، لعل أهمها أن المؤرخ في العالم العربي ينتمي إلى دول شمولية، لا تتيح له مواكبة الحدث مباشرة، والنفاذ إلى المعلومة سريعا، ولا تسمح بالإفراج عن أرشيف الدولة العام، وأرشيف رجالاتها الخاص، وتمارس رقابة صارمة على وسائل الإعلام، وعلى حق التعبير والتفكير، وهو ما يحول دون الباحث ومواكبة الراهن بتفاصيله وخلفياته. كما أنّ كثرة الشائعات، وصعوبة التمييز بين الأخبار، والوقوف على مدى صدقيتها يقتضي من المؤرخ نخل الأفكار وإرجاعها إلى مظانّها الأصلية قصد إدراك مدى صحتها، ومدى مطابقتها الواقع، وهي مهمّة تستدعي جهدا وصبرا كثيرين، ولزوم الموضوعية والدقة.
والأمر يزداد تعقيدا في مستوى التأريخ لحدث الثورة، فالدّارس يواجه في تعامله مع هذا الحدث ظاهرة اجتماعية غير مستقرة، ذلك أن الثورة حالة تاريخية نامية، هي بصدد الظهور أو الضمور أو التشكّل، والتصدي للتأريخ لها، والإحاطة بكل جوانبها الماهوية، والسردية، والدلالية يُعدّ تحدّيا حقيقيا، ومطلبا عزيزا، كلما رام الباحث القبض عليه فرّ منه إلى الأقاصي.
وفي السياق العربي المعاصر، تصدّر عزمي بشارة مشهد التأريخ من منظور عقلاني للثورات العربية، والبحث في آليّاتها وكيفيّات اشتغالها، ودواعيها ومعوّقاتها، وممكناتها وتحدّياتها ومآلاتها، وضمّن ثلاثيته: ثورة تونس المجيدة (2012)، وسورية: درب الآلام نحو الحرّية (2013)، وثورة مصر (مُجلّدان/ 2016) مقاربة تاريخية آنية معمّقة للحراك الاحتجاجي العربي، فراوح بين توثيق الحالة الثورية وسرد أبرز منعطفاتها التاريخية، وبين الحفر الإبيستيمي في تجلّياتها وتطوّراتها، باعتبارها ظاهرة عمرانية نامية، ذات خلفيّات متعدّدة وأبعاد مكثفة، فبرهن في مصنّفاته أنّ الثورة ليست حدثا اعتباطيّا، وليست مؤامرة خارجية، ولا هوجة انفعالية عابرة، بل هي منجز جماعي داخلي، وسلوك تعبيري احتجاجي على سياساتٍ سلطوية جائرة، أدمنت على مدى عقود تهميش المواطن العربي وقمعه وإقصاءه من المشاركة في الشأن العام، ومن المساهمة في صناعة القرار، ودأبت على الاستئثار بأسباب النفوذ والسلطة والثروة، ووظّفت الأجهزة الأمنية والإعلامية والقضائية لتكريس حكم أحادي/ شمولي، يُلغي الآخر، ويدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة، ويُمعن في شيطنة المعارضين والتنكيل بهم.
ومن ثمّة كانت الثورة نتيجة طبيعية لتراكم الظلم والفساد والاستبداد، وكانت حركة تغييرية تروم التأسيس للعدل بديلا عن الجور، وللحرّية بديلا عن القمع، وللكرامة بديلا عن التهميش، وللديمقراطية بديلا عن الشمولية. وليست الثورة في نظر عزمي بشارة بقرة مقدّسة، بل هي منجز بشري يحتمل النقد والتطوير، ولا تكتمل فائدته ما لم يتمّ تحويله إلى مشروع تنميةٍ شاملةٍ ودمقرطة ممأسسة لـ"دولة المواطنين". لذلك نبّه الرّجل إلى أنّ قيام الثورة لا يعني نهاية النظام الدكتاتوري، فبعد ذلك تبدأ مهمّة أصعب، تتمثّل في إقامة أركان الدّولة الدّيمقراطيّة التي تحول دون تحقيقها في سياق عربي عدّة عقبات، أهمّها الثّورة المضادّة، وفلول النّظام السّابق، وسطوة العسكر، وتراكمات الفكر الشّمولي، وأدوات الدّولة البيروقراطيّة العميقة، ومخاطر الصّراع الهويّاتي تحت لافتة الانتماء الطّائفي أو الأيديولوجي أو الحزبي أو الجهوي أو الطّبقي... وتلك التحدّيات تستوجب، من منظور عزمي بشارة، وجود نخب سياسية وهيئات مدنيّة مسؤولة، تعي قيمة المشروع الديمقراطي وضرورته، وتسعى إلى بلورة إجماع وطني من أجل تحقيقه.
وتوسّل عزمي بشارة في التّأريخ للرّاهن العربي ومحاورته بروافد معرفية وأدوات منهجيّة متعدّدة، عابرة للاختصاصات، مكّنته من استحضار الأحداث والوعي بالمعطيات الحافّة بالثورات العربية والخلفيات التي أنتجتها، وبرّر اختياره سبر أغوار تاريخ الراهن العربي الوعرة بأنّه "يريد أن يكتب قريبا من أجواء الأحداث (...) التي سوف يصعب على المؤرخين لاحقا تتبعها وفهمها، وخاصة بعد أن تتصلب الآراء المسبقة، والأحداث المفخمة والأساطير..."، وجمع في طلب ذلك بين "التحليل السوسيولوجي والاقتصاد السياسي، والتاريخ التسجيلي، والتحقيق الميداني"، فكانت مدوّنته في التأريخ المباشر للثورات العربيّة مدوّنة حيّة، ثريّة، مثّلت إضافة نوعية للمكتبة العربية في هذا المجال. وتكمن أهمّية مشروع عزمي بشارة في التأريخ للرّاهن في أنّه يحفظ الذاكرة الجمعية العربية، ويحمي الثورات من شوائب التشويه والتعتيم والتبخيس والتدليس التي كثيرا ما شابت حوادث مفصليّة في تاريخ الاجتماع العربي. كما يتيح للباحثين مادّة معرفية موثّقة، تساعدهم في استقراء الحراك الاحتجاجي العربي وفهم مساراته ومآلاته.
من هنا، كان عزمي بشارة، إذ يُصنّف ما يُصنّف في الرّاهن العربي، منهمّا بالآن والهنا، منغرسا في التّربة العربيّة، منفتحا على الفضاء الإبيستيمي الكوني، متفاعلا مع أسئلة العرب وأحلامهم وهمومهم ومشاغلهم، مفارقا الذين خيّروا الوقوف على الرّبوة أو إدانة المظلومين لأنّهم ثاروا... فاختار الرّجل الانحياز إلى الشعوب العربية الثائرة، لعلمه أنّ الاستبداد أدْماها، وأنّ من حقّ الناس أن يعيشوا أحرارا، وأن ينعموا بالعدالة والكرامة والمواطنة، ولإدراكه أنّ الثورة كان يمكن أن تكون نقطة ارتكاز لتحوّل حضاري عربي نحو الأفضل. وعلى خلاف الذين سكنوا أبراجا عاجيّة، ومخابر جامعيّة وقصورا ملكيّة، وانصرفوا يجلدون الماضي، أو يصدّرون الأزمة إلى الآخر، التفت عزمي بشارة إلى الحاضر يؤرّخ له، ويحلّله ويُفكّر فيه، ويسعى إلى مفهمته، وإدراك أسباب القوّة فيه ودواعي الضّعف في جنباته، فكتب في الثّورات التونسيّة والسوريّة والمصريّة بقلم المحقّق والمحلّل والمدقّق، فدلّ على أنّ "التّاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار وفي باطنه نظر وتحقيق"، كما حدّث ابن خلدون.
صحيفة العربي الجديد