د. عزمي بشارة
أتاحَ لي دورَ الحكيمِ سؤالُك. الوالدُ المعزولُ لا يفوِّتُ فرصةَ الوعظِ.
"يرى الجبناءُ أنّ العجزَ عقلٌ" . صدق أبو الطيب في القدح غالبا، لكنه قلّما صدق في المدح.
فلا تنسى الحُكْمَ الأعمَّ إذ يرى الحمقى أن العقلَ عجزٌ.
التباهي ضربُ تسلية للغبيِّ، لكنه ليس للعاجز ترفا. الغرور ملاذه، يبدو له في ذله شرفا.
وحين يلمُّ بالأغبياء وهنٌ يصبح التهذيبُ في عُرْفِهِمِ ضعفا. حتى إذا عَلِق المهذّبُ بينهم غدا للسخريةِ البلهـاءِ هدفا. وانقلبت على النبيهِ رجـاجةُ عقلِهِ وانسلَّ البرهانُ خوفا. لا بِدْع إن العقلَ اجتنب ما ردَّ الشجاعَ على أعقابه قرفا.
آتِ الخيرَ لذاته من أجلك. لا تحسب المردود والربحَ. ليس الخيرُ معروفًا مع الآخرين. الخير قرارةُ نفسِك منك ولك. دع الآخرين يكتشفون سرّك. أنت فعلُك، فافعل ما تريدُ وما تكونُ. أتبحثُ عن أهلٍ لما أنت فاعلٌ؟ صانعُ المعروفِ طوعًا هو أهلُه عُرفًا وشرعًا. فلا ترثِ لحالك واطمئنَّ وارجُ فيمن أكرمته خيرًا.
هي القاعدةُ وغيرُها استثناءُ. قتّر بالكلامِ، وجُد بالعملِ، ثم اشهرِ الصمتَ. وإذا كثر اللائمون جاهر بالصممِ.
وتذكّرْ بعدها حِكمةً نُقِلَت إلينا للوقايةِ: "اتّق شرَّ من أحسنتَ إليه". أذكرُ يوم كنّا نزدريها مقَتْنا خبثَها المتدثّرَ بالحذرِ. يروّج ريبةً تجافي طيبةَ البشرِ وتنفي لحسن النوايا أيَّ أثَر.
تدّعي في النفسِ معرفة وحرصا وكأنها تفك لنا طلاسم الشر.لكنها تمسخُ المعروفَ، وتقلبُه خِطةً مكشوفةَ الغرضِ.
نَبْذُ هذا الحُكْمِ عافيةٌ يا بني. فامضِ كمن يفتي لنفسه الخطوات. وسر كمن يسنُّ السيرَ للغيرِ. وأفْتِ لنفسك ما يصلحُ شرعة للآخرين.
ليست الحكمة هذه عن الخيرِ تنهى، ولا على الأذى تحضُّ. "اتقّ شرَّ من أحسنتَ..." تأتي بعد أن أَحسنتَ.
إبحث عن أصول الحِكَمِ تجدها في عصورِ التردّي. ففي الحِكَم تبريرُ انتهاز الفرص، وفيها شرحُ أدوات البقاء حيًّا في الذلِّ؛ وفي الحِكم ايضًا صحوةُ الحرّ، وفيها مرارةُ المتأذي.
كلُّنا ينفد، يُستنفَد لكلّ شيء ساعةٌ وموعدُ. كذلك فعلُك يُستَهلَكُ. عديم ُالروح يذَمُّ من أسْدى جميلا متوهّما أن الهجاءَ يفكُّ دينا. الجميلُ يقض مضجعَه. همُّ التحرّرِ منك يؤرقه. والإنكار يلحّ. ساعته تدق. قد أسأْتَ لنفسِك في عرفه.
وفي عرفه الديْنُ للضعيفِ ضعفٌ. التلقّي عنده لحظةُ الوهنِ. وما الامتنانُ إلا اعترافًا بالعجزِ. يُهيَّئُ له النكرانُ سلطانٌ أو حريةٌ تعفي من الرهن.
القيدُ متخيلٌ وكَسرِه وهمٌ، لكن عبدَ الوهم مسكونٌ بالتخلُّصِ منك. يستحوذ القدحُ عليه فيقسو. والإناءُ بما فيه "ينضحُ". اتقِ شرَّ من استحوذتَ عليه. قد صار عبدا للتفكير بك.
*نصوص غير منشورة من كتاب تأملات سابقة