عادت إسرائيل إلى تسريب المعلومات بشأن التفاوض مع سوريا أو الحرب معها. وعقدت الحكومة الإسرائيلية بطاقمها الأمني السياسي اجتماعا خاصا يوم الأربعاء 6 حزيران\ يونيو الجاري لمناقشة المسار السوري. وطبعا يأتي الإعلان عن هذه الخطوات بعد تسريبات من ضباط الى الصحفيين، أو تسريبات من سياسيين عن ضباط يحثون اولمرت على فتح المسار السوري للاتصالات والتفاوض من جديد. وكأن هنالك مصلحة إسرائيلية يجب الالتصاق بها في هذه الفوضى الإقليمية بغض النظر عن المصلحة الأميركية. وهم يحذرون من سوء تفاهم يؤدي الى تدهور الوضع الى حرب بسبب محاولة كل طرف إجهاض خطط مفترضة لدى الطرف الآخر.
من الواضح أن الجيش الإسرائيلي وضباط مخابراته أقل تأثرا بالرأي العام والانتخابات والاستطلاعات حول الاستعداد للانسحاب من الجولان المحتل. وهم يعتقدون منذ مدريد أن السلام مع سوريا مسألة استراتيجية بالنسبة للحرب والسلام قياسا بقضية "الضفة والقطاع." وعلى هذا الأساس يرتبون أولويات التفاوض لو ترك القرار لهم وليس لاستطلاعات الرأي العام وتطلعات وحسابات السياسيين الانتخابية المباشرة. كان هذا رايهم ايام مدريد وأوسلو أيضا.
ولكن حاليا، أي بعد فشل العدوان الأخير على لبنان، وبعد فشل وتعثر التفاوض مع السلطة الفلسطينية، منذ أن رفض ياسر عرفات قبول ثوابت الاجماع الإسرائيلي في "كامب ديفيد" وحتى رفض إسرائيل، ومعها من معها، نتائج الانتخابات الفلسطينية، يتوجه الرأي العام الإسرائيلي أيضا الى فهم ضرورة التفاوض مع سوريا...وذلك دون تعمق خاص بالموضوع.
لا يختلف اثنان في إسرائيل على ثمن التسوية مع سوريا، ولكن كل هذا التحرك يتم دون مراجعة الموقف الإسرائيلي الذي أدى الى فشل المفاوضات مع سوريا في جولات سابقة. وهو فشل تحملها حتى أولبرايت وزير الخارجية الأميركية السابقة مسؤوليته. وكاتب هذه المقال يحمل المسؤولية لباراك ودنيس روس بشكل محدد. والأخير كان شريكا لبراك في المؤامرة لاقتناص انجاز في اللحظة الاخيرة. (وعلى كل حال فإن دور دنيس روس في المفاوضات العربية الإسرائيلية منذ مدريد لم يدرس بشكل كاف بعد، ولأي جهات ولمصلحة من عمل طيلة هذه الفترة؟ هذه ملاحظة أضعها عند عتبة الباحثين المهتمين بهذا الشأن، وأولئك الذين شاركوا في المفاوضات، ولم يكتبوا بعد).
و نحن لم نسمع عن تغير يذهب الى قبول الانسحاب الكامل من هضبة الجولان أساسا للتفاوض. وإذا لم يتم ذلك فلا معنى لكل الأحاديث الاخرى. واهتمام إسرائيل منصب على "عملية سلام" حتى لو لم تنجب سلاما، وحتى لو كان عملية متواصلة يصبح فيها الاتفاق مجرد تتميم معاملة. ولكن المعاملة لا تنتهي، ففي كل يوم تظهر مشاكل جديدة، واقتراحات إسرائيلية جديدة. ويبدو في هذا السياق التفاوضي الذي تريده إسرائيل اي إصرار على اي نتيجة كشروط مسبقة كموقف متصلب يعرقل عملية السلام، أو يشكل عقبة أمام عملية السلام.
أما السلام نفسه، فهو هذه العملية ذاتها التي تستيفد منها إسرائيل لأنها تحيّد القرارات الدولية بانتظار نتائجها التي تعكس موازين قوى ثنائية وليس مبادئ دولية، وهذا ما جرى للفسطينيين الذين وقعوا في فخ أوسلو... وكلما طال الزمن يصبح الطرف المعني بإنهائها والخروج بنتيجة ما أكثر استعدادا لتقديم تنازلات ليخرج بإنجاز ما من هذه البهدلة المستمرة من جلسة إلى أخرى ومن مصافحة إلى أخرى ومن خطاب افتتاحي إلى آخر، وكله تلبية لحاجات انتخابية أميركية وإسرائيلية. العملية السلمية الإسرائيلية تستنزف الطرف العربي لأن الطرف الإسرائيلي هو المعني باستمرارها، وهو الذي يمسك بالأرض، إلا إذا كانت المفاوضات قد ولدت طرفاً عربياً تجمعه نفس المصلحة باستمرارها.
سوريا ليست من هذا النوع من المفاوضين. ويُعابُ على خطابها "خشبيته"، لأنها تكرر نفس الكلمات من نوع "العودة الى التفاوض من النقطة التي انتهت اليها المفاوضات" الى درجة التندر الصحفي. وكأن على سوريا أن تغير موافقها لكي تسلي بعض الصحفيين الذين يؤيدون بجرة قلم هجوما أميركيا على العراق أو إيران. لا يوجد ما تغيره سوريا هنا. وقوة خطابها في تكراره، وليمل من يمل. ولا بد ان تعرف إسرائيل ان التفاوض ليس على الإنسحاب الكامل، هذه قضية محسومة، الانسحاب هو أساس النفاوض. والتفاوض لا يدور حول الانسحاب، بل على شكل وشروط التسوية.
أي ولوج للتفاوض دون حسم هذه المسألة يخسّر سوريا، ولذلك فهي تنفر وبحق من المفاوضات السرية التي لا تلبث إسرائيل دائما أن تسربها. تنتصر غريزة التسريب عليها وعلى مصلحة التفاوض دائما، لتضع العرب أمام حقيقة أنها مقبولة من قبل هذه الطرف العربي، وأن مفاوضات سلام تجري معها فعلا قبل أن يتضح إذا كانت معنية بدفع ثمن التسوية... وهذه عملية تعويد للرأي العام وترويض له على تقبل أنه لا رفض يجدي، وأنه تحت السطح تجري صفقات. ولا يلبث أن يخرج كل من يؤيد تسوية بأي ثمن متلذذا بنشر " شي صار وشي ما صار" ليثبت لنا أنه لا يوجد عربي أفضل من الآخر، وأن الجميع متورطون. ولذلك كل من يأتمن جانب السرية الإسرائيلية لا يلبث أن تفضحه هذه الغريزة الإسرائيلية دائما.
إسرائيل لم تحسم بعد مسألة الإنسحاب الكامل. وإذا كانت قد حسمتها في سرها وعلى مستوى المعلومة والمعرفة، فهي لم تحسمها سياسيا وللتنفيذ على مستوى الإرادة. فما الجديد إذا؟
قلنا في عدة مقالات نشرت في هذه الزاوية في الأعوام الثلاثة الماضية، أنه بعد 11 ايلول/سبتمبر واحتلال العراق انتقل ملف المفاوضات السورية الإسرائيلية الى اميركا، وأن الأخيرة تعتبر رفض التفاوض مع سوريا جزءاً من الحصار المضروب عليها حتى تحقق الشروط الأميركية الخاصة بلبنان والعراق وفلسطين. وأن إسرائيل تعتبر هذه الترتيب مريحا لأنها غير جاهزة لدفع استحقاقات التسوية، ولكنها تجد الآن مبررا لعدم التفاوض بجدية إذ يعتبر التفاوض كسرا للعزلة الدولية واستفزازا لاميركا. ولا شك ان إسرائيل تستطيع ان تؤثر على هذا المزاج الأميركي لو ارادت.
الجديد أن العزلة الدولية حول سوريا تنكسر تدريجيا، وذلك دون أن تغير مواقفها في العراق وفلسطين ولبنان، ومع فشل السياسات الاميركية في هذه المناطق تحول الموقف السوري الى عامل يدفع للاتصال مع سوريا والحوار معها وكسر الحصار. ثم جاءت صدمة حرب لبنان التي دفعت الإسرائيليين عسكريين ومدنيين لقول رأيهم صراحة بهذا التجميد غير المنطقي من وجهة النظر الإسرائيلية للتفاوض مع سوريا، مع أن هؤلاء يغفلون طبعا ان الأخيرة ليست رهن الإشارة، وأن هنالك شروطا لا بد من تحقيقها متعلقة بقبول أساس التفاوض وقاعدته.
ولكن هذا لا يكفي لتغيير مواقف أميركا وإسرائيل بشأن التفاوض. والتحرك الإسرائيلي الأخير لعقد جلسة للحكومة مخصصة لهذا الموضوع والذي انضم اليه حتى شمعون بيرس الرافض المعروف لهذا المسار وأحد من أفشلوه ايام رابين، هو التريب المقصود من إعداد سوري للمقاومة، وإقرار المحكمة الدولية في لبنان.
لم يطرأ تغير جذري على الموقف الإسرائيلي، بل نشأت برأي معارضي المفاوضات فرصة جديدة للتلويح بها الى سوريا لتغيير موقفها من شروط التفاوض بعد إقرار المحكمة الدولية: عصا وجزرة جديدين لسوريا.
هنالك من يعتقد في إسرائيل ان الفرصة سانحة حاليا لطرح المفاوضات "دون شروط مسبقة"، اي دون أساس، وان سوريا سوف تجدها فرصة ربما للتخلص من المحكمة الدولية. وأن أميركا سوف تجد فيها مسارا جديدا للضغط على سوريا بواسطة المفاوضات. العصا هي المحكمة الدولية والعقوبات، والجزرة هي إيجاد مخارج للتراجع عنها بشرط القبول بالشروط الإسرائيلية للتسوية، ومن ضمنها إعادة غالبية الجولان ما عدا شريط على البحيرة، معادلة باراك دنيس روس ربما، ولكن بشرط كف يد سوريا عن بقية القضايا والأمور في العراق ولبنان وفلسطين، وربما التحول للعب دور "إيجابي".
وهذا طبعا فخ لقتال تراجعي. فحالما تلج سوريا مفاوضات بهذه الشروط سوف تجد نفسها غير قادرة على "إسعاد" اميركا وإسرائيل، فكل تراجع سوف يفتح الشهية لتراجعات أخرى. وهي لا تستيطع مغادرة المفاوضات دون إنجاز ولن تستطيع البقاء فيها دون تنازلات لا تستطيع تقديمها، ولا يفترض أن تقدمها، ولا تريد تقديمها.
إزاء هذا الوضع سوف تجري محاولة لتذكير سوريا بحالة ليبيا والحصار الذي فرض عليها بعد لوكربي، وأن لسوريا ما تخسره بعد انفتاحها الاقتصادي الأخير اكثر من ليبيا بعد لوكربي. نحو هذا الاتجاه تدفع السياسة الاميركية الإسرائيلية وحلفاؤهما من قصيري النظر في المنطقة حاليا.
ولكن سوريا لا تستطيع حتى لو أرادت ان تخضع لهذه الشروط، وهي لا تريد. ولذلك فإن هذا الدفع الاميركي الإسرائيلي بهذا الاتجاه سوف يقوي من تحالفها مع إيران وتقاربها مع تركيا. ولن يكون بالإمكان هزم هذا التحالف، ولا هزم ما سوف يفرزه إقليميا. نحن لا نتحدث هنا عن ليبيا، ولا عن العراق بعد الحصار الطويل. وقد تحولت تجربة العراق ذاتها الى رادع عن تكرارها.
والتحالف المضاد هنا هو تحالف صريح مع إسرائيل ضد دولة عربية أراضيها محتلة من قبل، وهي جاهزة لتسوية سلمية قبل فحص الخيارات الأخرى لاستعادتها. كل من لا يرى ذلك بغض النظر عن نقده المشروع منه وغير المشروع، الصحيح منه وغير الصحيح، لسوريا وسياستها الداخلية والخارجية مصاب برأينا بقصر نظر خطير.