عزمي بشارة
سوف أُجمِلُ التحوّل في السياسة الخارجية من مرحلة بوش إلى مرحلة أوباما بما يلي: كانت اللازمة الأساسية، والموضوع الأساسي الذي تخلل مجمل معزوفة أوركسترا السياسة الخارجية الأميركية في عصر بوش بعد سبتمبر/أيلول 2001 وميَّزها مؤلفا من جملتين: "الحرب على الإرهاب"، و"من ليس معنا فهو ضدنا"، والباقي تقاسيم على الجملتين.
أما في مرحلة باراك أوباما فيتألف الموضوع من الجمل التالية: "الدبلوماسية قبل الوسائل القتالية"، و"من ليس معنا يمكن أن يصبح معنا. يبقى من يستعصي على الاحتواء فيكون قد عزل وحوصر قبل ضربه".
أما الـ"نحن"، والـ"نا" في "معنا" وفي "ضدنا"، فيجهد أوباما في تبيين أنها في الواقع لم تتغير ولن تتغير، اللهم إلا بالقدر الذي لزم لاستيعابه رئيسا. وهو على أية حال تغيير ليس له فضل فيه، واحتاج إلى تضحيات كثيرة من الأفارقة الأميركيين ومن الحركات الديمقراطية، واستمر عقودا طويلة حتى أوصل رجلا مثله للرئاسة.
لم يكن هذا التغيير وليد ثورة آنية. وهو حاليا يمثل الجناح الديمقراطي في هذه الـ"نحن" بأوثق استمرارية ممكنة مع ما سبق، وبأكبر انفتاح ممكن على المحافظين من إبقاء روبرت غيتس وزيرا وحتى تعيين جورج ميتشل موفدا إلى المنطقة، (وهو صاحب خطة ميتشل تنت في بداية الانتفاضة الثانية، وكان لازمة تردد قبل أن تحل محلها خطة خارطة الطريق). وخرج المحافظون الجدد.
المؤسسة الحاكمة تثبِّت ذاتها وتستقر في مرحلة أوباما، وذلك دون تثوير للعالم ودون "ثورات" ديمقراطية على نمط المحافظين الجدد. وربما تساعده الأزمة الاقتصادية على تنفيذ الأجندات الاقتصادية والاجتماعية التي يريد والتي أرادها الحزب الديمقراطي ولم يجرؤ على تنفيذها في الماضي. وفي جعبته حجة الحاجة لدور الدولة في الأزمة الحالية وللخروج من الركود بموجب نظريات كينز، وفي نوع من العودة المتقدمة إلى روزفلت و"نيو ديل" جديدة مختلفة طبعا جذريا عن سابقتها.
وسوف يحاول أوباما التأكيد على الاستقلال في الطاقة عبر البحث عن مصادر طاقة بديلة ترافقه نبرة فيها تلميح يثير تداعيات سلبية في الذهن الأميركي عن مالكي النفط كأنهم يقبضون على روح أميركا. وسوف يبحث عن أسلوب لمشاركة العالم بالقلق من الانحباس الحراري.
وقد أكد ذلك في كافة خطاباته وتصريحاته العلنية منذ أن تولى الرئاسة(1). وكلها هموم تؤدي بالنتيجة إلى تغيير في السياسة الخارجية نحو تعاون أكبر مع الدول الصناعية الكبرى في البحث عن بدائل، ومحاولة إظهار الاعتماد على النفط كأمر مذموم سياسيا وليس بيئيا فحسب، كأن الأخير طاقة ملعونة، أو طاقة إسلامية تسكنها أشباح.. أو كأنه يذكر بالمسلمين والإرهاب.. وغيرها من الأساطير التي نشأت منذ أن شح النفط في تكساس، وانتقلت الأساطير إلى مرحلة أوباما كما انتقل إليها اللوبي الإسرائيلي.
وقد انتقل اللوبي الإسرائيلي بقضه وقضيضه إلى عهد أوباما حاملا معه عقده واتهاماته للآخرين باللاسامية ومقولات أمن إسرائيل، والديمقراطية الوحيدة في المنطقة. وقد سمعنا كليشيهات كاملة منها في خطاب أوباما السياسي والثقافي، في كلمته أمام "إيباك" وفي زيارته إسرائيل وفي خطابه الأخير أمام موظفي وزارة الخارجية. وقد ثبَّت فيه أن نقطة انطلاق سياسته في "الشرق الأوسط" هي الالتزام الثابت والحازم بأمن إسرائيل.
لقد تزامن وقف إطلاق النار في غزة مع أداء الرئيس الأميركي الجديد قسم الولاء، في شعائر الدين المدني الأميركي الشهيرة. ومن الواضح أن أوباما لم يندمج فيها فحسب، بل ألقى خطابا أبيض، ناصع البياض، مصاغا بإنجليزية مفخمة، تصفق فيه أجنحة التاريخ بشكل مصطنع، ويصلح في فخامته ليس لآباء الأمة بل لتقليد فظ لهم، وكأنه أعد للتدريس في المدارس الثانوية.. لم يحاول فيه أوباما أن يمثل تاريخا آخر لأميركا، تاريخ العبيد والهنود والعمال والأقليات والمضطهدين، ولا استخدم إنجليزية أخرى غير تلك التي توارثها مضطهدو العبيد ومبيدو السكان الأصليين.
لا يمكن قراءة الكثير في ذلك الخطاب الاحتفالي، اللهم إلا التأكيد على استيعاب أوباما وحملته في المؤسسة عبر التأكيد الليبرالي على عدم التناقض بين الدفاع عن "القيم الأميركية" والدفاع عن "الأمن الأميركي". كل ما بقي من "حملة التغيير" الشهيرة التي قادها أوباما هو اللقاء بين نقاد الحرب على العراق مع المحافظين من نقاد التبشير بالديمقراطية في العالم الإسلامي، مع الخائفين على الدستور ونمط الحياة الأميركي واستقلالية القضاء من إسقاطات الحرب على الإرهاب، وعلى الحقوق المدنية في الداخل.
ولذلك، ومن الناحية الرمزية، كان التوقيع على أمر منع التعذيب وإغلاق غوانتانامو هو أولى الخطوات التي قام بها الرئيس، كما يليق بخرج الحقوق في هارفرد، وكما يليق بالجناح المتنور في المؤسسة الأميركية الحاكمة والذي يقف تنوره عند حدود أميركا.
الخطاب الذي يعد ليكون تاريخيا، غالبا ما يهمله التاريخ. ولكن الخطاب الأكثر أهمية هو ذلك الذي ألقاه في وزارة الخارجية يوم 22 يناير/كانون الثاني 2009 للإعلان عن تعيين جورج ميتشل مبعوثا للشرق الأوسط وريتشادر هولبروك ممثلا في باكستان وأفغانستان.
ولا يصدق المرء أن هنالك في منطقتنا عربا ووسائل إعلام ما زالت تحاول أن تثير الجمهور كأن تعيين مبعوث أميركي جديد هو خبر. لقد أرادت الرئاسة الأميركية في عهد أوباما أن ترسل رسالتين. أولا، يعني مجرد الحضور إلى وزارة الخارجية بعد يومين على القسم التشديد على الدبلوماسية الأميركية ودورها بعد أعوام من التهميش لصالح القوة المسلحة والأجهزة الأمنية والوكالات على أنواعها.
ثانيا، يجري التأكيد على الفرق بينه وبين إدارة بوش، ويتركز جلُّه في "الشرق الأوسط" كمحور السياسة الخارجية، ليس لأنه على رأس اهتمامات السياسة الخارجية فحسب، بل لأن فيه يتمثل الفرق الرئيسي بين الإدارتين، وأقصد في العراق وإيران وباكستان، وما حول هذه الدول، بما فيه المنطلق الأصلي وهو أمن إسرائيل وليس قضية فلسطين.
خلافا لماكين الذي ذهب إلى تفضيل البقاء في العراق بحسب نموذج كوريا الجنوبية، أكد أوباما دائما على الانسحاب بأقرب فرصة، وأن وضع جدول زمني يجبر القيادات العراقية الحالية إلى التوصل إلى حلول فيما بينها، وأن الانسحاب يجب ان يجري بحذر وبالتدريج وبحيث لا يتناقض مع الأمن.
وبالنسبة لإيران اشتهر موقف المرشح الذي صار رئيسا بكسر تحريم الحوار مع إيران. وليس في ذلك ثورة، بل استعادة لتقاليد أرستها إدارات سابقة محافظة منذ الحوار مع عدو اعتبر أحد أكثر الأنظمة ديكتاتورية في تلك المرحلة، أي الصين في أوج هستيريا الثورة الثقافية.. ولكن الحوار محكوم بالتوصل إلى صفقة تاريخية متعلقة بالتخلي عن التخصيب وأخذ دور مع الدول المحيطة الأخرى في استقرار العراق، والتوقف عن دعم "الحركات الإرهابية"، والمقصود هو تحديدا حزب الله وحماس.
كل هذا مقابل الاعتراف بالنظام والدور الإيراني في المنطقة وقبولها في "المجتمع الدولي"، وربما أيضا إقامة علاقات دبلوماسية كاملة معها.
لا يرى أوباما ومن حوله أن إدارة بوش رغبت فعلا بإقامة دولة فلسطينية، وأن "رؤيا بوش"، التي أحبها بعض المفاوضين الفلسطينيين على عادتهم في علك وترديد اللازمة الأميركية الدورية كانت حملة علاقات عامة، وأن فكرة فك الارتباط من قطاع غزة كانت تأجيلا شارونا بوشيا لإنشاء الدولة المنشودة إلى ما لا نهاية(2) ، ثم الاستمرار في تهويد القدس والاستيطان حولها وفي الضفة "على راحتهم"، فيما ينشغل الفلسطينيون بالانتخابات والخلاف على السلطة.
ولكنهم يرون أو هكذا يدعون على الأقل، أن من واجب الولايات المتحدة الاندفاع في عملية سلام من اليوم الأول. وطبعا ما ينقص العرب ليس عملية سلام، بل سلام عادل يقوم على حقوق الشعب الفلسطيني. ولا أفق حاليا لسلام عادل. أما إحياء عملية سلام جديدة فما هو إلا عملية تمويه لا نهاية لها للاحتلال والإرهاب الإسرائيلي.
وموقف أوباما من هذا الموضوع لا يبشر بأي الخير، وذلك ليس فقط في المضمون بل في التوجه والمقاربة أيضا. فهو ما زال يستخدم أدوات ومفردات مرحلة بوش في تقسيم العرب إلى معتدلين ومتطرفين بموجب ما يتطلبه أمن إسرائيل.
من حيث المقاربة لم ينبس الرجل ببنت شفة حول الجرائم الإسرائيلية في الحرب المجرمة على غزة، ثم عبر عن أسفه لحياة المدنيين في الجانبين، في غزة وفي "جنوب إسرائيل". ثم يبرر لإسرائيل قائلا أنه لا توجد دولة ديمقراطية تقبل أن تبقى مكتوفة الأيدي إزاء إطلاق الصواريخ عليها.
وهو يروي سردية إسرائيلية عن دولة وادعة ديمقراطية في منطقة متوحشة تمطرها حركة إرهابية من الأشرار آلاف الصواريخ لعدة أعوام ثم تضيق ذرعا فتخرج للحرب مثل بطل هوليوودي يمهل ولكنه حين يخرج للحرب يفعل ذلك بحزم ولا يهمل.
وهذا ما كانت سوف تفعله أية ديمقراطية بموجب هذه الرواية الأسطورة. وهي قريبة من توجهات سمعناها يوم 27 يناير/كانون الثاني من لوي ميشيل وزير التعاون والتنمية في الاتحاد الأوروبي. فهو يأسف لقتل المديين ولا يدينها، ويحمِّل حماس "الإرهابية" المسؤولية مبررا لإسرائيل الحرب الوحشية، ويتهم "الطرفين" بخرق القانون الدولي.
لا يمكن أن يأتي رئيس أو مسؤول يحمل في ذهنه هذه المقاربة وهذا التوجه، ويمكنه القيام بدور فعلي في التوصل إلى حل عادل. هذا التوجه الذي ينكر أن إسرائيل دولة احتلال وليست دولة وادعة، ويتجاهل الحصار العدواني المضروب حول غزة، لا يفرز إلا محاولات لإيجاد فلسطينيين وعرب معتدلين يعتبرون كل ما تتصدق به إسرائيل عليهم نعمة كريم ليختبئ وراءهم، وليثبت أنه ليس ضد العرب بل ضد المتطرفين. لا يجوز تكرار هذه اللعبة الفوقية العنصرية، لعبة الوصاية على أمة ترفض زعاماتها الرسمية التصرف كقيادة أمة.
ونتابع في مسألة التوجه والمقاربة فنقرأ في لغة أوباما التي تمكنت في وقت قصير من استيعاب لغة الفوقية والوصاية اللازمة عند التعامل مع العرب والمسلمين. فهو يقول: "يجب على حماس أن توقف إطلاق الصواريخ، وسوف تكمل إسرائيل انسحابها من غزة، وسوف تعمل الولايات المتحدة وشركاؤها على وقف التهريب كي لا تعيد حماس تسليح ذاتها" ( نفس الخطاب يوم 22 يناير/كانون الثاني).
أنظر عزيزي القارئ أين تستخدم كلمة يجب، وأين تستخدم كلمة سوف!! وهو نفس التعالي الذي يجعل شخصا مثل لوي ميشيل يتكلم بهذه الوقاحة في غزة التي تسيطر عليها حركة حماس دون أن يتعرض له أحد. في حين أن دولته لا تسمح لممثل حماس بدخولها، وربما كانت سوف تسجنه لو صرَّح بمثل هذا التصريح على أرضها.. نقول هذا مع الاحترام للشعب والرأي العام في بلجيكا.
نفس هذا المسؤول كان متضامنا وتلقى توبيخا من شارون إبان الانتفاضة الثانية، ولكن أوروبا تضامنت في حينه مع شريك فلسطيني لعملية سلام أميركية النشأة أوروبية المولد هي عملية أوسلو، حين شعرت أن شارون يدمرها. فأوروبا الرسمية تختار بنهج الوصاية والفوقية من يستحق التضامن من الفلسطينيين ومن لا يستحق. ومن لا يعترف بإسرائيل لا يستحق التضامن.
من هنا يكرر أوباما شروط الرباعية من أجل الاعتراف بحماس والتي اعتبرها البعض تجديدا، ولكنها كاسمها "شروط الرباعية" المشهورة التي وضعت بعد انتخاب حماس لغرض تبرير الحصار. لا جديد إذا سوى استمرار الحرب على غزة بأدوات أخرى وبنفس التحالفات.
وكان من المفترض أن تعترض الدول العربية على فكرة الرباعية برمتها، وهي التي تجعل من الأمم المتحدة التي تمثل دول العالم، مجرد عضو من بين أربع أعضاء في طاقم تقوده الولايات المتحدة. ومن العار على العرب أن يقبلوا أن ينسقه شخص مثل بلير عزله شعبه بسبب سياساته في "الشرق الأوسط"، لأنه كذب لتبرير حرب على شعب عربي وساهم في جر بلده لهذه الحرب، فكيف ترضى به "شعوب الشرق الأوسط" ذاتها؟
لم يبق حاليا من جرائم الحرب الإسرائيلية والصمود الأسطوري لقطاع مأهول بكثافة ويمنع سكانها من الهرب من القصف إلا هذا التواطؤ بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول عربية لغرض تحويل الإغاثة وإعادة الإعمار إلى أسلحة فتاكة (ضد المدنيين). ويفترض أن تكمل هذه الأسلحة طريق الحرب في الضغط على المدنيين وعلى حركات المقاومة لقبول الشروط الإسرائيلية.
وإذا اعتقدت أنك رأيت كل الغرائب الممكنة في حياتك القصيرة في هذه المنطقة، فسوف يفاجئك أن دولا أوروبية تدعو إلى الوحدة الفلسطينية. منذ متى هذا الحرص الأوروبي عليها؟ منذ أن فهمت أن هذا هو الطريق الوحيد لإنقاذ حلفائها العرب، ودفع حركات المقاومة لقبول شروط الرباعية.
فالولايات المتحدة، الـ"نحن" أعلاه لم تتغير كثيرا في قفزة واحدة. ما تغير هو استعدادها للحوار مع من ليسوا "معنا". ولكن هدف الحوار يبقى التوصل إلى نفس الأهداف (أو أهداف معدلة) بوسائل أخرى، تتناسب أكثر ليس مع العدالة والإنصاف، بل مع فهم أميركا الحالية لذاتها كقوة متنورة.
لم تنته الحرب على غزة. هي مستمرة بالأدوات التي فصلنا أعلاه: المعابر، الحصار، شروط الرباعية، التحالف مع المعتدلين، التأكيد على دور أجهزة الأمن الفلسطينية والدول المعتدلة.. ولا بد أن ترى القوى الشعبية وقيادتها أنه من المبكر إجهاض حركة الاحتجاج للمطالبة بتجميد العلاقات مع إسرائيل وعلى رأسها التنسيق الأمني، وفتح المعابر، ورفع الحصار، ومحاكمة المجرمين. فلا يجوز أن يتحرك الاحتجاج لمشهد الفظاعة والصورة التلفزيونية فحسب.
لن ينفع القوى المغتربة عن شعوبها دعم أوباما لها، فهو لن يكون أكثر حزما في دعمه لها من سلفه. وفي النهاية يبقى من يمسك بالأرض ويقاوم، بشرط أن يحْسِنَ تشخيص المرحلة والتخطيط وصنع التحالفات اللازمة لمواجهة التحديات المقبلة.
--------------------
1- تفيد هنا مراجعة مقال قديم نسبيا، نشر إبان الحملة الانتخابية، حول التحديات التي تنتظر الرئيس القادم. فمقولات المقال التي تتأكد تثبت أن كاتبة كان قريبا من المرشح أوباما، كما يثبت ذلك تعيينه الحالي موفدا إلى باكستان وأفغانستان.
Richard Holbrooke, The Next President, Foreign Affairs, sept.\oct. 2008, pp. 2-25
2- أنظر المقال الجرئ حول مجريات الأمور التي قادت إلى الحرب على غزة وأكاذيب إسرائيل بشأن الأسباب. لرئيس مجلس العلاقات الخارجية السابق هنري سيجمان.
Henry Siegman, Israel Lies. London Review of Books, Jan, 22-29, 2009.