د. عزمي بشارة
تناقلت وسائل الإعلام الأميركية والروسية، خلال الأسبوع، تصريحات فلاديمير بوتين التي تصف دونالد ترامب باللامع والموهوب والمنافس الأبرز على الرئاسة الأميركية، وردود ترامب الذي رحب بهذه الإطراءات وقابلها بمثلها. وكان ترامب قد دعا الولايات المتحدة إلى تأييد التدخل الروسي في سورية، والتعاون مع روسيا في مكافحة الإرهاب.
ليس هذا الغزل بين رجل المخابرات ورجل الأعمال محض مصادفة بريئة، كالحب من أول نظرة. لقد التقى بوتين مع ترامب في سورية. وعلى الأرضية نفسها، التقت معهما ماري لوبين الفرنسية، وبقية أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا. والقاسم المشترك الأعظم لليمين الجديد في الحالة هذه هو ديماغوجيا العظمة الوطنية والدولة القوية، والاعتقاد الراسخ بعدم ملاءمة الديمقراطية لغير المجتمعات الغربية، وتفهم الحاجة للاستبداد في المشرق، والسلطوية في روسيا نفسها، وضرورة التعاون مع الدكتاتوريات، لأسباب متعلقة بالمصلحة الوطنية للدولة الغربية، واعتبار كل ما يتحدى السلطة في الشرق إرهاباً، سواء أكانت سلطة استعمارية أم احتلالاً أجنبيا، والتضييق على الهجرة الواردة، واستخدام الخوف من الإسلام والمسلمين ديماغوجيا للفوز بالأصوات. يضاف إلى ذلك أن جميع هؤلاء السياسيين معجبون بإسرائيل ونتنياهو الذي يشبههم.
يمثل ترامب نمطاً من السياسيين الشعبويين الذين لا يلائمون خطابهم لعقلية البسطاء، خلافا لما يبدو، بل إن خطابهم يعبر عن عقليتهم فعلاً، فلا يحتاج المرء إلا ذكاء خارقاً وثقافة واسعة للنجاح في مجالات، مثل العقارات والمخابرات. يبدو الخطاب بسيطاً خالياً من التعقيد، يقسم العالم كما يقسمه خلّان الشراب في حانة أميركية متوسطة، تارة بين أخيار وأشرار، حين يكون المزاج محتداً ضد الآخر، وطوراً بين ناجحين وفاشلين، أو فائزين وخاسرين حين يكون المزاج رائقاً.
ويحتقر هؤلاء المثقفين الذين "يعقدون الأمور"، ويقبلون الخبراء التقنيين، والعلماء في العلوم الطبيعية، لكنهم ينظرون إليهم مجرد أداة في السيطرة على الطبيعة والعالم. ولا يستحسنون تنظيراتهم الأخلاقية حول السلاح النووي والبيئة وغيرها؛ كما ينظرون إلى الليبراليين مجرد منافقين، ويعتبرون رفع أي قيمة إنسانية فوق السياسة إضعافا للروح الوطنية، وتقييداً للأخيرة في المواجهة مع الأعداء.
ويسهّل الإعلام الجماهيري المهمة على هذا النمط من السياسيين، كأنه صمم من أجلهم. فالمطلوب، في عرف هذا الإعلام، هو الإثارة التي لا تبخل بها تصريحات هؤلاء، والسرعة والبساطة في الطرح التي تحول الخطاب إلى برقيات حادة مكرّرة. المطلوب هو الديماغوجيا. كما أن هذا الإعلام يقدس النجاح بحد ذاته كقيمة، ويعتبر النجومية قمة النجاح. وهذا هو الشكل الذي يلائم خطاب هؤلاء السياسيين تماماً.
في الماضي، كان مثل هؤلاء الساسة الشعبويين الذين تنتجهم السياسة الغربية في عصر انحطاط التنافس الديمقراطي، بتأثير المال والإعلام الاستهلاكي، يناهضون سياسة الانفراج الدولي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ويبثون رسائل تهديد ضد الشيوعية وتمددها، أما اليوم فيلتقون على العداء للإسلام والمسلمين. وهم يلتقون في ذلك مع أحد أبرز وجوه اليمين المتطرف الجديد في عالمنا المعاصر، وهو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وهذا الأخير ليس يمينياً جديداً، بمعنى تجدد اليمين في الغرب وتعديله خطابه بموجب متطلبات الحياة الديمقراطية وإنجازاتها، كما فعلت ماري لوبين حين عدّلت خطاب والدها، ومثلما يفعل اليمين الألماني بتقبل بعض مسلمات حركات السلام والدفاع عن البيئة. فليست في روسيا إنجازات ديمقراطية مسلم بها، أصبحت بديهيات اجتماعية وسياسية، بحيث تضطرّه لأن يعدّل خطابه بموجبها؛ بل يمثل خطاب بوتين مزيجاً بين عودة إلى الخطاب الروسي القومي المستمد من ذكريات الدولة العظمى من ناحية، وتبنٍ متأخر لقيم الرأسمالية الأولى، رأسمالية القرن التاسع عشر التي لا تحترم حقوق الإنسان وتلوث البيئة بدون ضوابط وتحلل التوسع الاستعماري، وترى السياسة الدولية مجرد صراع على مناطق النفوذ. إنه، إذاً، تحالف بين اليمين المتطرف الجديد، في ظروف الرأسمالية المتأخرة، والسياسة الروسية التي تحيي نمط اليمين القومي الذي كان قائماً في أوروبا في بداية القرن الماضي.