تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

من القاهرة مع خالص الحب

2009-07-14

عزمي بشارة

من الغرائب أن يعلن رئيس الولايات المتحدة عن نيته مخاطبة العالم الإسلامي، فلنجمعه له إذا، وليجلس بأدب ويستمع. ومن الغرائب أن يكرر الإعلام العربي ويروِّج للحدث بنفس لغة منظِّمه "يلقي الرئيس الأميركي خطابا موجها للعالم الإسلامي". وفور إعلان النبأ يتحول طبعا إلى "الخطاب المنتظر" و"الخطاب المتوقع"..

 

ولا أدري لماذا أصر الإعلام العربي طيلة أكثر من أسبوع على محاولة استشراف ما سيأتي في الخطاب، كأنه حرب ستقع أو سلام سيبرم. هل كان سينجم عن هذه المعرفة شيء ما، خطوات هامة مثلا يجب اتخاذها قبل أن يلقي خطابه؟

 

لا فرق إن توقعنا أم لم نتوقع، ويمكن للإعلامي العربي أن ينتظر يومين ليسمع، فليس هناك ما يضطره لأن يتنبأ بما سيقوله الرجل. ولن يستبق أحد الخطاب بإعلان خطوة سياسية ما لو عُرِفَ المضمون.

 

وليست مهنته كالتنجيم أو الشغف بمعرفة المصائر قبل وقوعها القدري.. إنها صناعة خلق الانتظار والتوقع والترقب والاهتمام، وصبها جميعا في قالب معين واتجاه معين. وقد صيغ هذا الاتجاه مؤخرا من خلال تأكيد "التاريخية".. "زيارة تاريخية" و"خطاب تاريخي".

 

ومن هنا فخلافا لما يُروَّج، ليس الرئيس الأميركي بحاجة إلى أن يقوم بحملة علاقات عامة، فهناك من يقوم بها من أجله.. هناك من يخترع هذا النوع من الاهتمام.

 

وطبعا هو لا يخاطب العالم الإسلامي، بل يطرح مقاربة جديدة للمنطقة من قبل السياسة الخارجية الأميركية، وقد سبق أن قيل معظمها منذ أن ألقى كلمته في موظفي وزارة الخارجية مرورا بخطابه في تركيا وخطابه الموجه إلى الشعب الإيراني.

 

وقد انتُخِب ليجري هذا التغيير في الخطاب السياسي الأميركي، ويخطئ من لا يرى تغيرا وتغييرا. أتى التغيير بعدما أفشلت المقاومة وغيرها الخطاب السياسي الأميركي السابق لقضايا المنطقة مقاربةً وممارسةً.

 

هنالك تغيير.. وقد فُرِضَ بفضل مقاومة الشعوب العربية للسياسة السابقة في العراق وفلسطين ولبنان، وليس بفضل من يصفقون دون شروط لهذه السياسة، سواء أكان ذلك في عصر الرئيس السابق أو الحالي.

 

ولكن مجرد تكرار الإعلام العربي للعنوان الذي اختاره هو "مخاطبة العالم الإسلامي" ضاعف من قوة الخطاب، وخلق نزعة للمبالغة واعتبار كل ما قيل جديدا، إذ صُوِّر العالم الإسلامي كائنا موحدا متجانسا ينتظر في حالة ارتباك وذهول وقلق، لا يهدأ له بال قبل سماع كلمة الرئيس، ولا بد من مكافأته على هذا الانتظار باعتبار الخطاب بداية مرحلة جديدة.

 

غير أن العالم الإسلامي بعيد عن التجانس سياسيا، فهو يتنوع من حلفاء لأميركا بدرجات متفاوتة وحتى خصوم وأعداء لسياستها بدرجات متفاوتة، ولا يمكنه أن يخاطبهم جميعا في إطار واحد.

 

فالولايات المتحدة حاليا تخاطِب مسلمي وزيرستان وأفغانستان بلغة القاذفات مثلا، ومن بين من ينفذ هذه السياسة الأميركية في باكستان وأفغانستان مسلمون أيضا. ومن المرجح أن المسلم في إندونيسيا لم ينتظر ليجلس بأدب ويستمع إلى خطاب الرئيس الأميركي في القاهرة.

 

ناهيك أنه كان من الأسهل والأكثر منطقية أن يدَّعي الرئيس أنه يخاطب العالم العربي من القاهرة، ولكن الولايات المتحدة رغبت وترغب في إخراج مصطلح العالم العربي من التداول أصلا، اللهم إلا في سياق مبادرة السلام العربية. والغريب أن العرب الذين يؤكدون على العروبة ضد إيران فقط، لم يكرّروا تأكيدهم على العروبة في هذه الأيام "التاريخية".

 

ولا شك أن الرئيس الجديد -وهو ظاهرة صوتية بل وسجالية لبقة ومثقفة- قد حُمِل إلى السلطة على موجة تغيير فعلية يفرِحُ حلفاءه المحافظين في العالم الإسلامي بأنه لا يسعى ولا يدعي أنه يسعى إلى "ثورة ديمقراطية دائمة" كالمحافظين الجدد، بل يعتمد لغة المصالح البراغماتية التي ميزت المحافظين في الماضي.

 

وقد بيَّنت هذه اللغة في الماضي -وهي تبيِّنُ حاليا أيضا- نفاق الليبرالية الأميركية "التقدمية" حين يتغنى ممثلها الأبرز حاليا -أي الرئيس أوباما- لغرض النفاق بحكمة ملك لا يشترك معه في شيء. هذا هو مصير الليبرالي خريج هارفارد الذي حملته موجة تغيير شبابية إلى الحكم ليمثل قيما جديدة، فوجد نفسه متبعا لسياسة المحافظين بدل المحافظين الجدد، إذ حوَّل لقاء المصالح إلى المعيار.

 

وطبعا يغلف لقاء المصالح بالكلام المعسول عن "لقاء الحضارات" و"حوار الحضارات" و"احترام الحضارات" و"الأنا والآخر" بدل صراع الحضارات، وهو نوع من الكلام الذي يسير على حبل موازنة بين النقائض يتقنه الرئيس الحالي وأتقنه في الحملة الانتخابية، خاصة أن لديه اطلاعا على عبارات يسارية وتقدمية "لائقة سياسيا" يستخدمها في شرح مصالح الولايات المتحدة.

 

ورغم انتماء اللغتين (لغة حوار الحضارات ولغة صراع الحضارات) لنفس المنظومة الفكرية التي تقسم العالم سياسيا أيضا إلى حضارات، فإن النفاق يبقى أفضل من الحرب.

 

وقد كشف الرئيس الأميركي عن نوع "رسالته" إلى العالم الإسلامي عندما تغنىَّ بحكمة النظام الرسمي العربي القائم. وكان منافقا بالمعنيين، بمعنى التواضع الكاذب في التعامل مع المناصب والوجاهات، لأن التواضع هنا ليس تواضعا بالفعل بل محاولة في الخداع لكسب الود، ولأنه يتضمن استخفافا بعقول الناس.

 

والنفاق يعني امتداح ما لا يعجبه، كما يعني التضخيم الانتقائي لعناصر يصح فيها المديح، كما يكسب المنافق شخصا بمراءاته، متجاهلا التناقض القيمي لأن لديه مصلحة معه.. إنها السياسة بأقبح أشكالها.

 

لغة النفاق الاستعمارية لم يخترعها الرئيس الأميركي الجديد، إذ اكتفى بالتأكيد على الوجه المشرق النير في الإسلام معتمدا على آيات عدة تبعها تصفيق من قبل الباحثين عن الاعتراف بالإسلام في الغرب، بعدما كان نفس الرئيس قد تعامل مع الإسلام كأنه تهمة أو تشهير به حين "اتُهِّم" به إبان الحملة الانتخابية، وهو الآن يأخذ راحته في النفاق بعدما تحرر من الحملة الانتخابية التي تفحصت علاقته بالإسلام بمجهر اليمين وماكين.

 

والكلام التلفيقي كما أسلفنا اختصاصه الدائم، مع الديمقراطية وضد تصديرها، مع الفلسطينيين وضد المقاومة، مع الحرب على أفغانستان وضد الحرب على العراق ويعتبر القضية برمتها قضية أفكار نمطية، يدين العنف الفلسطيني لا عنف الاحتلال، ولكنه ينتقد الاستيطان.. هذا اختصاص توازن الألفاظ الذي لا يضر ولا ينفع خارج الواقع والممارسة.

 

ولو لُفِت نظره فسوف يُدخل في الخطاب القادم كلمة ضد العنف الإسرائيلي ثم سيبرره في العبارة التالية، فهو كما قال ضد الحرب على العراق، ولكن تغيير صدام بفضلها كان إيجابيا.

 

أما نابليون فأذكر القارئ أنه قال في بداية حملته على مصر حين خطب -حسبما نقل الجبرتي- في العلماء والمشايخ مفتتحا كلامه بالبسملة رافضا ليس الشرك فحسب، بل حتى مبدأ الأب والابن "بسم الله الرحمن الرحيم.. لا إله إلا الله، لا ولد له ولا شريك له في ملكه.. أيها المشايخ والأئمة قولوا لأمّتكم أن الفرنساوية هم أيضا مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في روما الكبرى وخرّبوا فيها كرسي البابا الذي كان دائماً يحث النصارى على محاربة الإسلام، ثم قصدوا جزيرة مالطا وطردوا منها الكوالليرية الذين كانوا يزعمون أن الله تعالى يطلب منهم مقاتلة المسلمين".

 

لقد ادعى نابليون أنه مسلم وأن الفرنسيين مسلمون وأنه حارب الفاتيكان لأنه أطلق الحملات ضد المسلمين.. صدق أو لا تصدق!! ولن أضيف.. وهو نفس نابليون الذي دعم إقامة دولة لليهود في فلسطين قبل نشوء الصهيونية.

 

مهما نافق الرئيس الأميركي الجديد بلغة اللياقة السياسية "من ناحية.. ومن ناحية أخرى.." بشكل لا يغضب أحدا، فإنه لن يصل إلى مستوى خطابات أخرى سمعها العرب الحاليون وأسلافهم، ولا يرغب بعضهم في تذكرها.

 

سيفرح الرئيس الأميركي الجديد المحافظين العرب ببراغماتيته، وعدم رغبته في تصدير الديمقراطية، وبرغبته في التعايش على أساس المصالح المشتركة مع الأنظمة العربية والإسلامية القائمة.. هذه المصالح المغلفة بحوار الحضارات والتسامح والاحترام المتبادل. ولكنهم سيغضبون إذا اتبع نفس البراغماتية تجاه إيران.

 

أما الليبراليون الجدد العرب الذين التقوا مع المحافظين الجدد على تصدير الثورة الديمقراطية على المدمرات الأميركية، فسيخيِّب أمل بعضهم، ولكنهم سيعوضون عن ذلك بتمكنهم من مدح أميركا علنا لأنها تخلت عن الحرب المباشرة والفورية لصالح لغة الدبلوماسية والسلام والحوار وغيرها، وهذا ما سيحصل فعلا في منطقة الخليج وغيرها.

 

وعندما تتراجع الولايات المتحدة عنها بسبب "التعنت" الإيراني ورفض وقف التخصيب، أو إذا لم يتم التوصل إلى تسوية/صفقة مع إيران، فسيمتدحون أميركا أيضا حين تشدد العقوبات.

 

فلسطينياً:

من اتفق من العرب مع كل ما قاله الرئيس الأميركي السابق، لا يفترض أن يهمه كثيرا ما سيقوله الرئيس الجديد، ولا تحليلنا لما أدلى ويدلي به، فهو سيتفق مع الرئيس الأميركي على أية حال.

 

وهل كانت لدى النظم العربية الحليفة للولايات المتحدة مشكلة مع ما درج بوش على قوله لكي تأمل خيرا مما سوف يقوله الرئيس الجديد؟ فما يقوله رئيس الولايات المتحدة هو خير بحكم تعريفه، وذلك بالنسبة لمن يرى أنه لا بد من قبول ما يقوله والتنظير له وشرحه، ولو قال عكس ما يُنَظَّر له حاليا.. فهذه هي الإستراتيجية الوحيدة في جعبة هذه النظم.

 

ولكي لا أصعِّب على أحد هضم ما يقال، فلن أستعين بخطابات سابقة لبوش حول الإسلام والتطرف والاعتدال والخير والشر اتفق معها عرب أميركا المحافظون، وكلام آخر حول ضرورة الديمقراطية اتفق معه عليها عرب أميركا الليبراليون الجدد، فوجد كلٌّ منهم ضالته في كلام بوش.. ولو كانوا على طرفي نقيض فكريا، لم يكونوا كذلك ممارسة.

 

فكان التحالف مع بوش كافيا للقاء الليبراليين الجدد مع الأنظمة غير الليبرالية وغير الديمقراطية العربية الحليفة للحليف.. بل سأذهب إلى خريطة الطريق.

 

ولماذا يأمل العرب جديدا في الشأن الفلسطيني من الرئيس الأميركي ما داموا قد وافقوا بحماس على خريطة الطريق التي طرحها بوش؟ وقد حوَّلوا هذه الخريطة إلى مطلب وسقف تجري مطالبة إسرائيل بتنفيذه بعدما نفذ الفلسطينيون حصتهم منه.

 

وظهر ذلك جليا إبان الحرب على غزة، عندما قمعت السلطة في الضفة ليس فقط المقاومة، بل أيضا التضامن السلمي مع غزة. فهذا برأيهم يؤهل الفلسطينيين للمطالبة بأن تنفذ إسرائيل حصتها من الخريطة ما دامت فقراتها الأولى المتعلقة بهدم البنى التحتية للإرهاب، إما نفذت أو قيد التنفيذ الحثيث.

 

ولماذا يتوقع العرب جديدا من الرئيس الجديد ويهتفون لإصراره على دولة فلسطينية وحل الدولتين ما دام بوش قد رأى (من رؤيا، والمقصود رؤيا بوش) دولة فلسطينية قبل نهاية عهده؟ سبق أن تحمسوا لرؤيا بوش، ويتحمسون الآن لرؤيا أوباما.

 

تغيرت أميركا.. لا شك، كما تغيرت في عهد روزفلت وكيندي وريغان. أما المشكلة فهي تغيير عقل الأنظمة العربية السياسي.

 

صحيح أن هناك نبرة أميركية جديدة تجاه إسرائيل تشبه نبرة اليسار الصهيوني -وليس اليمين الصهيوني- بالتأكيد على "حقين لشعبين"، وتعتبر الدولة اليهودية قيمة عليا، وترسم تكافؤا حيث لا تكافؤ.

 

حسنا.. نبرة جديدة إذا، ولكن حتى هذه النبرة الجديدة ناجمة ليس عن تغيير في أميركا فقط بل تغيير في إسرائيل أيضا، فهناك حكومة في إسرائيل ترفض التعهد شفويا بتجميد الاستيطان كما فعلت الحكومة الإسرائيلية السابقة لإدارة بوش، كما ترفض الالتزام الشفوي بمبدأ حل الدولتين كما فعلت الحكومة السابقة في عهد أولمرت.. هذا هو الفرق.

 

وينجم رفض أوباما التعهد بالالتزام بورقة طمأنات بوش لشارون عن رفض نتنياهو الالتزام "برؤيا بوش" المتعلقة بحل الدولتين. التغيير هو أولا في النبرة الإسرائيلية نحو اليمين تبعه تغير في النبرة الأميركية تجاه هذا التغيير. وفي الشأن الفلسطيني تحديدا لا يوجد تغيير فعلي في الموقف الأميركي.

 

تغيرت النبرة لأن هناك حكومة إسرائيلية غيرت نبرتها وترفض الالتزام بأسسٍ تمكِّن من العودة لما يسمى "عملية السلام"، وهذا ما يمكن لأوباما التعهد به فعلا للعرب عدا تغيير النبرة: الضغط على إسرائيل للعودة إلى "عملية سلام".

 

فأميركا وحلفاؤها العرب بحاجة لمثل هذه العملية السياسية الجارية التي صارت تشكل موسيقى مرافقة دائمة، وأجواء لا بد منها في تصوير فيلم الاعتدال العربي، مثل الموسيقى التي ترافق التغطية الصامتة للاستقبالات والمناسبات في التلفزيونات الرسمية في الدول التي يزورها الرئيس الأميركي حاليا.

 

لا تكمن المشكلة في الاعتراف بحصول تغير في الولايات المتحدة، وهو على كل حال لا ينشأ ولا يعبر عنه حتى في محاضرة أو زيارة، بل المشكلة في غياب إستراتيجية عربية.

 

ولذلك فحتى لو جرى تغيير، فما عدا الفرح بتغيّر النبرة والأجواء، ليس بوسع العرب أن يحصدوا الكثير من هذا التغيير ما داموا يعيشون دون تحديد للمصالح العربية ودون إستراتيجية.